كتاب «المرحوم عبد الله المرابط الترغي: أيقونة قيم ونبراس علم »: هل – فعلا- رحل عنا الفقيد العزيز والعالم الجليل سيدي عبد الله المرابط الترغي؟ وهل سيكون علينا تصديق خبر وفاته وانتقاله إلى عوالم الموت السرمدية؟ وهل كان مصيره البيولوجي حقيقة مادية يوم انتقل إلى جوار ربه راضيا مطمئنا؟ ثم كيف لنا أن نقبل بلحظة الغياب مادام الرجل مازال منتصبا بيننا كقامة شامخة للعلم وللمعرفة وللثقافة وللأخلاق؟ وإلى أي حد يمكن للرحيل المادي المرتبط بفناء الجسد أن يحجب نقاء الروح وطهرانية السريرة وخلود الذكر؟ أسئلة متناسلة، يفرضها الاطلاع على مضامين الكتاب التوثيقي والاحتفائي الهام الذي صدر عند مطلع السنة الجارية (2017)، تحت عنوان «المرحوم عبد الله المرابط الترغي: أيقونة قيم ونبراس علم»، في ما مجموعه 123 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، احتوت موادا متنوعة التقت في استحضار مظاهر النبوغ لدى فقيدنا العزيز، من خلال سلسلة شهادات وقراءات ومرثيات، أشرفت الأستاذة هدى المجاطي على تجميع مضامينها وعلى تخريجها في حلة متناسقة، لا شك وأنها عنوان لفضيلة الاعتراف لأهل العلم بفضلهم ولأصحاب الجود بجودهم ولرواد العطاء بعطائهم. والحقيقة، إن الكتاب يشكل تجسيدا حيا لثقافة الامتنان والعرفان التي تحملها نخب منطقة الشمال تجاه أعلامها الكبار من خلال سيرة الأستاذ عبد الله المرابط الترغي. فالرجل أضحى منارة للعلم وللمعرفة، نجح في نشر أريج عطائه على نطاق جغرافي واسع تجاوز منطقة الشمال وعموم بلاد المغرب، ليمتد على أفق جغرافي واسع وممتد على امتداد خريطة الوطن العربي الواسع. كان، رحمه الله، رجلا للمعرفة وللعطاء، لم يكن يمل من البحث ومن السؤال، ولم يكن يتعب من التنقيب ومن السعي نحو تعزيز معارف تخصصه. كان عالم زمانه، ترك مدرسة قائمة الأركان، أساسها إصداراته الغزيرة ورصيد منجزه الأكاديمي، ودعائمها أفواج من الخريجين ومن المتمدرسين ومن الطلبة الذين تشربوا من عطائه، وآفاقها هذا النهج القويم في الجمع بين مشاق العطاء الأكاديمي وبين نعمة التواضع ومكرمة الأخلاق، وهي النعمة والمكرمة التي ارتبطت باسمه، بعد أن أصبحت صفة ملازمة له طيلة تقلبات حياته المليئة بالعطاء وبالبذل وبالاستعداد المتواصل لاحتضان كل الأصوات الباحثة عن المعرفة العلمية وعن أصول التكوين في المجالات الأكاديمية التي ارتبطت بسيرته العلمية. إنها صفة العلماء الكبار التي جعلت من صاحبها عالما مشاركا بكل ما تحمله لفظة «مشارك» من دلالات حضارية عميقة، وميسما ناصعا لرصيد منجز الفقيد المرابط الترغي، بل هي علامة فارقة على أن الأمر يتعلق بأحد مظاهر «النبوغ المغربي» داخل المشهد الثقافي والعلمي الوطني الراهن. ولعل هذا ما انتبهت له كل المداخلات التي احتواها الكتاب، عندما حرصت على القبض بمعالم التميز في سيرة الرجل العلمية وفي ظلال أخلاقه الوارفة وفي ينابيع تكوينه المتين. وقد ساهمت بهذه المداخلات ثلة من زملاء الفقيد وطلبته وأصفيائه ممن ظلوا يحملون توهج ذكرى الرجل ونبل معدنه، ويتعلق الأمر بالأساتذة أحمد هاشم الريسوني، ومحمد الحافظ الروسي، وأحمد المسناوي، ومحسن الروسي، وأبو الخير الناصري، وعبد الحي الروسي، ونهاد المودن، وحنان العسري، وعبد اللطيف شهبون، وهدى المجاطي، وعدنان الوهابي، ومحمد أملح، ومحمد البالي، وعبد الحفيظ الأشهب، ومحمد المختار العلمي، ومحمد ابن يعقوب، وعدنان أجانة. هي شهادات ودراسات تبعث عربون وفاء لذكرى هذه الروح الطيبة التي أخلصت في حبها للعلم وللمعرفة، وجاهدت بأخلاقها وبسيرها من أجل ترصيص معالم الهوية الثقافية والعلمية لمنطقة شمال المغرب. لذلك، أمكن القول إنه لا يمكن –بأي حال من الأحوال- كتابة التاريخ الثقافي الراهن للمنطقة بدون العودة المستمرة والمتجددة للنهل من تراث المرحوم عبد الله المرابط الترغي. وعند هذه الصفة بالذات، يمكن الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذا المقال، لنقول إن عبد الله المرابط الترغي لم يمت ولم يفارقنا مادام إنتاجه الأكاديمي شامخا ومنتصبا بيننا، يمارس سطوته المعرفية على المريدين وعلى طلاب الأنوار العرفانية من منابعها الأصيلة ومن منطلقاتها التنقيبية الصلبة والمؤسسة للمعرفة الأكاديمية المحكمة ذات الصلة برصيد المنجز العلمي والجامعي للمرحوم المرابط الترغي. فعن هذا النهر الدافق للرصيد المعرفي لفقيدنا العزيز، يقول أحمد هاشم الريسوني: «كان المرحوم الأستاذ الدكتور سيدي عبد الله المرابط الترغي علامة فارقة في مجال الدراسات الأدبية عندنا في شمال المغرب خلال العقود الثلاثة الأخيرة». ويقول محمد حافظ الروسي: «كان -رحمه الله تعالى- جماعا للكتب وللمخطوطات، وقد حباه الله –عز وجل- بحافظة قوية، واطلاع واسع، ومعرفة بالتراجم، وكتب الفهارس، وهذه أمور قل أن تجتمع في شخص واحد». وتقول هدى المجاطي: «الحديث عن أستاذنا الدكتور عبد الله المرابط الترغي لا ينصرف إلى وجهة واحدة، فهو نموذج للأستاذ المتمكن، والباحث الرصين، والخبير بالتراث الأدبي. ورغم تنوع اهتماماته ودراساته في الأدب والشروح والرحلات واللغة والتصوف والتاريخ، فإن علم التراجم حظي عنده بالنصيب الأكبر…». ويقول أبو الخير الناصري: «حينما أتأمل حرصه هذا على تحصيل العلم بالجديد في موضوع التراجم، مع ما كانت عليه حالته الصحية من اعتلال، يخيل إلي أن أستاذنا الجليل كان –رحمه الله تعالى- يلقننا بذلك درسا جميلا أجريه على لسانه في العبارة الآتية: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، واطلبوا العلم في الصحة والمرض»…». ويقول عبد الحفيظ الأشهب: «كان المرحوم عبد الله المرابط الترغي –كما وصفه الفقيه العلامة محمد المنوني رحمة الله عليه- فارس حلبة المغربيات، وقد انشغل بالدراسات المغربية في عدة مستويات: مستوى البحث الفهرسي والترجمي، ومستوى دراسة القضايا اللغوية والأدبية والفكرية من موقع الأستاذية الممتدة، ومستوى تحقيق النصوص…». وبعد، فهذا غيض من فيض كلمات ودراسات وشهادات، لا شك وأنها تعيد مناجاة هذه الروح الطاهرة التي نفخر بنهلنا جميعا من ثمارها اليانعة، ثمار سيدي عبد الله المرابط الترغي، العالم والمثقف والمربي، وقبل ذلك سيدي عبد الله المرابط الترغي الإنسان أولا وأخيرا.