حصل محمّد نبيل مُلين على دكتوراه في التاريخ من جامعة السربون، وعلى دكتوراه في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس. وهو يعمل باحثا في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي، وأستاذا في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. أصدر سنة 2013 كتابه الجديد « السلطان الشريف : الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب، الرباط»، وهو يناقش في هذا الحوار، تقييمه للراهن السياسي المغربي وحدود الإسلام السياسي والقوى المستقلة عن السلطة، فيما سيقدم في الجزء الثاني من هذا الحوار وجهة نظره -وخلاصات مؤلفه الجديد - في المخزن من التأسيس واليوم والتحولات التي شهدها. { تحدثت في السابق عن «أطراف سياسية متدافعة»، وأن ذلك التدافع يؤدي لعملية الإصلاح، بدل ما تسميه «المهدوية السياسية»، ألا نعيش في المغرب نفس الوضع، إذ توجد مجموعة من الجهات المتصارعة، ولا أحد من بينها ينعم بالإرتخاء؟ لا يمكن أن ينكر أحد أن هناك تدافعا سياسيا من الناحية الشكلية على الأقل. ولكن إذا أمعنا النظر نجد أن التدافع سياسويّ في أغلب الحالات الهدف منه الحصول على امتيازات رمزية أو مادية. هذا شيء طبيعي في أي معترك سياسي لكن الغريب في الأمر هو عدم الارتقاء إلى المستوى الأعلى من العمل السياسي كما يدل على ذلك ترك تدبير الملفات الكبرى طوعا أو كرها إلى الفاعل الأساسي وأقصد بذلك التحالف الحاكم الذي تقوده المؤسسة الملكية. المرحلة الراهنة تقتضي أن يكون التدافع السياسي سواء كان داخل أو خارج الإطار الرسمي وسيلة للإجابة عن مجموعة من الأسئلة المصيرية يتعلق أهمها بطبيعة النظام السياسي الذي نريده للمغرب في العقود القادمة لأن المرحلة البرزخية التي يعيشه الوطن ليست في صالح أحد. ولكن هذا يرجعنا دائما إلى إشكالية النخب وأزمة النماذج المطروحة. { لنتحدث عن مؤلفك الأخير «السلطان الشريف»، الذي تحدثت فيه عن مفهوم «المخزن»؟ يتناول هذا الكتاب الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب التي توطدت في القرن السادس عشر على أيدي الأشراف الزيدانيين الذين ظهروا في سياق محلي ودولي خاص. فلإحكام القبضة على فضاء مغربي مشرذم ومعرض للمطامع الايبيرية والعثمانية اضطر سلاطين هذا البيت إلى تبني منظومة شرعنة متماسكة والاعتماد على مؤسسات ناجعة والقيام بنشاط دبلوماسي مهمّ بهدف ترسيخ حكمهم في المغرب وتحصينه من المخاطر الأجنبية واتّباع سياسة توسعية. ولتحقيق هذا المشروع الثلاثي الأبعاد أعدّ السلطان الشريف أحمد المنصور الذهبي (1578 - 1603) منظومة شرعنة وتمكين متكاملة سمّيت بالمخزن. فقد أوجد توليفة عقائدية تقوم على عدة أشكال خطابية ذات قوة إيحائية مثل النسب الشريف والتصوف والتاريخ والفقه وبعض الأساطير المهيكلة للمخيلة الاسلامية وشارات المُلك والمراسم. كما دعّم السلطان هيمنته على التراب المغربي بتفعيل ومركزة المؤسسات الإدارية والمالية الموروثة عن العهود السابقة وتحديث المؤسسة العسكرية واصطناع طبقة سياسية-عسكرية مُخلصة. أمّا على مستوى العلاقات الدولية فقد انتهج استراتيجية مرنة مكنته من الاستفادة من كل ثغرات النظام العالمي الوليد لتحييد القوى الكبرى ليس فقط للحفاظ على استقلال ممالكه بل للقيام كذلك بمغامرة توسعية في الصحراء الكبرى والسودان الغربي والتحضير لاسترجاع الأندلس... وغزو العالم الجديد. إذن أصبح مصطلح المخزن ابتداء من نهاية القرن السادس عشر يعني السلطة المركزية ومجمل تنظيماتها الدّولتية. { ما الذي تغير منذ القرن السادس عشر إلى اليوم في المنظومة المخزنية؟ لقد أعطى الصرح العقائدي والمؤسساتي الذي أوجده أحمد المنصور ومعاونوه لمؤسسة السلطان الشريف بعدا إسلاميا وعمقا تاريخيا وثقلا رمزيا جعلها قطب رحى المعترك السياسي المغربي. كما كرّس المخزن ببعديه الرمزي والفعلي كآلة سيطرة سياسية لم تتغير إلا قليلا حتى مطلع القرن العشرين. كان للتدخل الفرنسي أثر كبير على المنظومة المخزنية. فمن الناحية الإيديولوجية تبنت المؤسسة الملكية تدريجيا خطابا وطقوسا تتماهى نوعا ما مع روح العصر. إذ اعتمد محمد الخامس على الخطاب الوطني. واعتمد الحسن الثاني على خطاب التحديثي والتوحيدي. أما محمد السادس فيعتمد أساسا على الخطاب التنموي. لكن لا يجب أن ننسى أن الركائز التي أحدثها المنصور ظلت هي الأساس العقائدي الذي ترتكز عليه المؤسسة الملكية لاسيما في أوقات الشدة. أما من ناحية الوسائل الفعلية فقد ورثت المؤسسة الملكية أهم الأجهزة الحديثة التي أوجدتها فرنسا. بحيث سيطرت بسرعة بالغة على الأجهزة الامنية مما مكنها سريعا من اقصاء كل المنافسين ثم سيطرت على الجهاز الإداري فالاقتصاد مما مكنها من السيطرة على الموارد. وهذا لم يكن ليتسنى للمؤسسة الملكية دون الاعتماد على تحالف واسع ضمّ في أول الأمر أعيان البوادي وضباط الجيش الفرنسي من المغاربة وبعض منسوبي الاحزاب الصغيرة ثم بدأ هذا الحلف في التوسع ليشمل إداريين ورجال أعمال ومثقفين الخ. { هل يعني أن الدولة المغربية دولة تقليدانية؟ في علم الاجتماع السياسي يمكن تصنيف الممارسة السياسية المغربية على أنها مِلْكَوِيَّة جديدة [néo -patrimoniale]. يتميز هذا النوع من الممارسة بوجود بنيتين الاولى سطحية (حكومة، إدارات، مجالس منتخبة، جمعيات، الخ) والثانية عميقة تتصف بوجود خلط بين المجالين الخاصّ والعام وبين الأشخاص الاعتباريّين والأشخاص الطّبيعيّين في إدارة شؤون «الدولة». وهي تتسم أيضا بتداخل الشّأن السياسي بالشأنين الاقتصادي والاجتماعي والشأن المحلي على وجه الخصوص. وإجمالا فإنّ صاحب السّلطة المِلْكَوِيَّة يعالج جميع المسائل السياسيّة والإداريّة والقضائيّة كما لو كان الأمر متعلّقا بشؤون شخصيّة وبنفس الطريقة التي يتصرّف بها في أملاكه كما لو كان الأمر متعلّقا بممتلكات خاصّة. تتولد عن المِلْكَوِيَّة ظواهر كثيرة مثل المحسوبيّة والمحاباة والزبونيّة وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة على جميع مستويات «الدولة» المغربية. من ناحية أخرى يكثر استعمال الدين في الكثير من الأنظمة المِلْكَوِيَّة الجديدة كأداة سياسية كما هو الشأن في المغرب. فمن المعروف أن الحسن الثاني استعمل الدين بكثافة لشرعنة ملكه وبسط نفوذه ليس فقط على المعترك الديني بل السياسي كذلك. ولتحقيق غرضه استعمل مجموعة من المفاهيم كالبيعة وإمارة المؤمنين وبعض الشعائر الدينية الخ. ولكن تفكيك هذه الأدوات يبين بجلاء أنها مجرد أسلمة وبلدنة للملكية المطلقة الفرنسية التي كان يهواها الملك السابق. ويبقى الحال على ما هو عليه تقريبا رغم تعديلات دستور 2011 . { هل يمكن إصلاح «المخزن»؟ إذا اتبعنا التصنيف أعلاه يجب الحديث عن مخزنين. مخزن بمعنى الدولة المركزية بكل مؤسساتها الحديثة. ومخزن بمعنى التحالف الواسع الذي يسيطر على زمام الامور دون حسيب أو رقيب بفضل الشبكات العائلية والمناطقية والمهنية المتقاطعة والمنغلقة على نفسها التي يمتلكها في كل القطاعات الحيوية وهو ما يصطلح عليه الدولة العميقة. المخزن الأول يمكن إصلاحه وتطويره إذا توفرت الظروف والموارد المناسبة بينما سيكون من الصعب إصلاح الثاني أو إزاحته دون وجود نخب مضادة قوية جمعت رأسمال فعلي ورمزي قوي يسهل لها إدارة الصراع على المدى الطويل. وهذا يتطلب فهم وتفكيك كل الادوات الرمزية والمادية التي يستعملها التحالف الحاكم للاستحواذ على السلطة قبل طرح الخطط والبدائل وذلك تفاديا لأخطاء وإحباطات الماضي. ألم ترى كيف تم الالتفاف على مطالب التغيير منذ فجر الاستقلال في إطار ما يسمى بالانفراج السلطوي أي الإيحاء بوجود تغيير من خلال سن بعض القوانين أو إحداث بعض المؤسسات والمجالس النيابية أو التفاوض مع المعارضين مع الحرص على الاحتفاظ بالسلطة الحقيقية. فعلها محمد الخامس في نهاية الخمسينات لإضعاف حزب الاستقلال ثم فعلها الحسن الثاني لإعادة شرعنة نظامه وتسهيل خلافته واستهلاك المعارضة كما فعلها محمد السادس لامتصاص الغضب الشعبي في 2011. إصلاح وتغيير هذه منظومة حتمي على المدى المتوسط لاعتبارات كثيرة لكن السؤال المطروح هل سيتم ذلك بطريقة توافقية أو تصادمية؟ { ألا يمكن حذف الطقوس المخزنية في نظرك، وإلى أي حد سيؤثر ذلك على طبيعة النظام السياسي بالمغرب؟ المراسم جزء أساسي من أي ممارسة سياسية لأنها تعكس عبر طقوس مقننة تطلعات الحكام وموازين القوى على الأرض. قمنذ القرن السادس عشر والمؤسسة الملكية تعسى إلى تكريس مركزيتها وهيمنتها من خلال مركب مراسمي معقد. خذ مثلا عيد العرش بكل طقوسه (حفل الاستقبال، حفل الولاء، قسم الضباط، الخطاب، الخ.) فهو يريد إظهار هذه المؤسسة في قلب وفوق المعترك الاجتماعي المغربي كما يبين علاقة الموالاة المباشرة بين العاهل وأهم أركان الدولة لاسيما كبار موظفي وزارة الداخلية وضباط القوات المسلحة والأعيان. رسالة هذه المراسم واضحة: الملك هو صاحب السلطة الحقيقية. أي تغيير في هذه المراسم يعني تغييرا في موازين القوى وتطلعات الحكام فما بالك بحذفها. { هل أفهم من كلامك أن المطالبة بإلغاء الطقوس المخزنية، يبقى» طوبوية» مستحيلة؟ محاولة إلغاء الطقوس مجهود عبثي لأن المجتمعات والأنظمة لا يمكن أن تستغني عنها لأنها تحمل وتختزل مجموعة من الرسائل السياسية تتعلق بالهوية والتطلعات والعمق التاريخي والاستمرارية. فمن الأجدر إذن إصلاح هذه المراسم لتعبر عن تمثلات وتجسدات جديدة تعكس قيم مثل المواطنة والمساواة وسيادة القانون والاستمرارية. يمكن لتغيير المراسم أن يكون مدخلا أساسيا للإصلاح لأن تغيير الأدوات الرمزية يعطي إشارات قوية للناس تكون في الكثير من الاحيان أهم من الإصلاحات المؤسساتية التي تأخذ سنوات قبل أن تظهر نتائجها. ولكن ذلك يتطلب إرادة سياسة قوية وضغط متواصل من طرف المجتمع المدني الوليد لأنه لا يخلو من مخاطر.