من هنا، وقع حكم مرسي في خطأ استراتيجي آخر,هدد به الأمن القومي المصري وعقيدة الجيش، لما وقف مرسي بجانب بقايا قيادات مصرية إسلامية متطرفة في ذاك المهرجان المعلوم، يعلنون و»»يحللون دينيا« «الجهاد في سوريا. فكانت هذه اللحظة بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس في خلاف الجيش مع السلطة. لأن هذا الموقف لا يعاكس عقيدة الجيش وحسب، بل ستترتب عنه عواقب وخيمة، أقلها، هجرة مصرية للجهاد في سوريا، والتي ستكون لها توابعها على الداخل المصري. لقد أبان مرسي في هذه اللحظة أنه وبكل يقين، ليس برجل الدولة. نعم، كانت مصر، وكل البلدان الشبيهة، في المرحلة الانتقالية، بحاجة قوية إلى توافق وطني موسع، لا يستثني أيا من القوى التي ناضلت ضد النظام الآفل. خاصة وأن الثورة في مصر، وفي غيرها، افتقدت في انطلاقها إلى قيادة مشتركة ذات شعبية متجذرة وذات برنامج ديمقراطي تقدمي واضح المعالم. غير أن قراءتنا لمجريات الأحداث، قد بينت بما يكفي، أن مسؤولية الفشل في بناء هذا التوافق الوطني تعود في المقام الأول إلى سلوكيات الإخوان وتخبطات قيادتهم في إدارة الدولة. والأنكى من ذلك، أنهم مصرون على المضي في خططهم الهجومية حتى بعد سقوطهم الشعبي والانتخابي، ناكرين لمسؤوليتهم في ما هم عليه، وغافلين بعناد لن يجدي نفعا عن التطورات النوعية التي حدثت في المزاج الشعبي المصري بعد فشلهم الدرامي. تحولات مجتمعية نوعية غدت في مجملها ضدهم. قد لا نوافق السلطة الجديدة على ما ذهبت إليه من إتهام رسمي للجماعة بالإرهاب. لكن وقائع الأمور من جديد، تترك مناطق ظل واسعة من الشكوك والشبهة السياسية على الأقل، ومنذ أن وقع حدث القتل الجماعي لمجموعة من شرطة الحدود في شهر رمضان، والكيفية الرخوة التي تعامل بها رئيس الدولة مع من قاموا بتنفيذ هذه العملية الإرهابية. وبعد السقوط، أضحى جليا أن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين (وعلى رأسه مفتي الناتو الشيخ القرضاوي والأب الروحي للتنظيم) يتعامل مع المجموعات الإرهابية في كل البلدان العربية تعاملا فيه الكثير من المحاباة والمجاراة والتواطؤ (سياسيا على الأقل) بهدف الاستقواء بها لضرب خصومهم حتى ولو كانت المضاعفات غير محسوبة. كان ذلك جليا في مصر وسورياوالعراق وليبيا واليمن.. وليس غريبا على هذا النهج البراغماتي المصلحي الضيق والثأري الحقود أن يقوم بالدعوة الصريحة للتدخل المباشر الأمريكي أو لحلف الناتو في ليبيا وفي العراقوسوريا. نهج العنف إذن بات خيارا بارزا لدى التنظيم الدولي الإخواني. وإذا كان من الواجب نقد كل تجاوزات السلطة الجديدة الماسة بحرية التعبير وبحقوق المواطنة، فمن الواجب أيضا أن نأخذ في حساباتنا ماذا يمثل استشهاد أزيد من 500 ضابط وجندي وشرطي من خطر على أمن الدولة. فالرقم لوحده دال على أن المعركة ضد الإرهاب، معركة حقيقية مركزية وخطيرة وذات أولوية. ثالثا: إنه حسنين هيكل من جديد، والذي قال عن المشير السيسي «»مرشح الضرورة»«. وكعادته، كان وصفه دقيقا يلتقط اللحظة التاريخية في المجتمع المصري، كما هي، بلا مسبقات أيديولوجية تعميه عن رؤية التحولات الجارية في الواقع. والحق، لا يوجد من يشكك في شعبية السيسي الكاسحة بعد وقوفه مع ثورة 30 يونيو وإعلانه خارطة الطريق الجديدة بمشاركة من ساندوا الثورة والخارطة.. لا يوجد، سوى من كان في نفوسهم حقد وكراهية. المرشح المناضل حمدين صباحي كان يدرك تلك الشعبية العارمة، وقد سلم بنتائجها الانتخابية بكل نبل وشرف. وكان اختياره للمنافسة، التي أحجمت عنها كل الزعامات الأخرى، اختيارا مبدئيا واستراتيجيا، يراهن على أن يكون للقوى الشعبية التقدمية الصاعدة مكانتها وأدوارها المستقلة في البناء الديمقراطي القادم, ومع أن النتيجة الانتخابية كانت دون الحد الأدنى المتوقع له، وللأسباب منها، أن القسم الأكبر من قاعدته وأطره الانتخابية فضلت عنه أن تصوت لمنافسه، إلا أن رهانه لم يفقد كل جدواه التي توخاها منه. وإذا استثنينا الانفلات الإعلامي الهستيري والمنحاز الذي تورطت فيه بعض قنوات القطاع الخاص، فإن الانتخابات كانت في الجملة نزيهة ونظيفة، وأرقامها الانتخابية ذات مصداقية فعلية. وأبرزها، أن ما حصل عليه الفائز السيسي يعادل ما حصل عليه المرشحان مرسي وشفيق مجتمعان في انتخابات الدورة الثانية للرئاسة. وفي هذا دلالة سياسية غير خافية على كل من كان يقرأ الواقع الشعبي بعيون مفتوحة. لاجدال إذن، في أن المشير السيسي كان «»مرشح الضرورة»«فلعوامل عدة، جعلت منه الجماهير وأوسع الفئات الاجتماعية« «رجل الحكم« «المؤهل لتهدئة هواجسها في الأمن والاستقرار، ولتلبية تطلعاتها في التقدم والعدالة والديمقراطية، ولتستعيد مصر مكانتها وقوتها وريادتها، ليس من الضروري الخوض في خلفيات هذه الصورة وتنويعاتها لدى كل فئة ولدى الجماهير العريضة. الأهم من ذلك، التأكيد على أن هذه الثقة الجماعية العارمة، والتي قرأها البعض على قياس الانتخابات التقليدية المزيفة ذات التسعين في المائة المعهودة، هي على العكس من ذلك، حاجة موضوعية تلقائية بالغة الأّهمية، في توحيد المجتمع ومركزة إرادته الجماعية، لما عانته الثورة من تشتت ونقص عضوي في قواها الشعبية المنظمة، وأمام تحديات تفوق التحمل في كافة المجالات. ثقة من شأنها أن تسهل على القيادات الجديدة في البرلمان والحكومة، وفي الحياة السياسية عامة، إيجاد التسويات الضرورية لاجتياز مرحلة الانتقال، بمرونة مجتمعية طوعية، وبأقل الخسارات وبأكبر الأرباح. ولعل هذا ما جعل السيسي لا يقدم في حملته الانتخابية برنامجا تفصيليا، كما أعاب عليه البعض، وعيا منه أن البرنامج القادم سيكون بمشاركة المؤسسات ومنها الحكومة التي غدت في الدستور الجديد مسؤولة أمام البرلمان عن برنامجها هي. لكن ميزة الرجل أنه أبان في حملته الانتخابية عن وعي عملي لمطلع وعارف بشؤون الدولة وبالمشاكل الاستراتيجية التي تواجه مصر في كافة المستويات الداخلية والخارجية. * فهل ما هو قادم نظام عسكري؟ للجيش في المجتمع المصري ولدى مثقفيه ونخبه مكانة وهالة قل نظيرهما. ولا ريب في أن لهذه الظاهرة جذورها الممتدة في السبعين قرنا من التاريخ المصري، وفي بيئته وإطاره الجيوبولتيكي، وفي المكانة المركزية للدولة في هذا التاريخ العريق. وفي العلاقة مع الشعب، يذكر المصريون دائما، فضلا عن ما ترسب في ذاكرتهم الجمعية من أدوار للجيش مع الشعب في ثورة 1919 وفي ثورة 1952، كيف رفض الجيش التدخل لقمع انتفاضة 1977، والتي أطلق عليها السادات «»ثورة الحرامية«. هذا الحدث القريب في الذاكرة الجماعية، كان حاضرا بقوة في ثورتي 25 يناير و30 يونيو، في شعار، «الجيش والشعب يد واحدة»«. ولاشك في أن ما أظهره الجيش المصري في حرب أكتوبر التحريرية، قد أضاف إلى هذه الصورة الشعبية البهية كل ألوان المجد والبطولة. والعزة الوطنية. وهم في ذلك على حق. لكن قلما يقيم المصريون عامة تلك العلاقة المنطقية بين ما حصلوا عليه في اتفاقية كامب دافيد ولو ببعض شروطها المرة على المستوى الوطني، وبين أن مقابلها كان في الاساس خروج مصر من الصراع العربي - الاسرائيلي، وكل ما ترتب عن ذلك - لمكانة مصر المحورية - من تدهور شامل للأمة العربية ومع ذلك، لا الجيش ولا الشعب (الذي أسقط التطبيع والاحتواء) غيرا من عقيدتهما القومية في اعتبار اسرائيل، العدو الأول لهما معا. هذه الصورة البهية للجيش المصري، تناقضها تماما الصورة الباهتة والنافرة عن الجهاز الأمني. واختيار شباب الثورة ل 25 يناير يوم عيد الشرطة، لإطلاق الانتفاضة، كان في طياته تلك العلاقة البالغة السوء والسواد بين الجهاز الأمني والمجتمع المصري. وأحداث الثورة فيما بعد، وانهيار الجهاز الأمني خلالها، ثم ظهور ضباط خرجوا عن الكتمان والانضباط الأمنيين لجهاز يتفكك، ليعلنوا عن مساندتهم للثورة، وليقدموا نقدا ذاتيا عن الماضي، بما مهد لاستعادة الجهاز الأمني لوضعه الطبيعي.. كل هذا يضعنا في لب الموضوع، أي ان المظهر الرئيسي للتناقض الرئيسي (بلغة ماوتسي تونغ) بين النظام والمجتمع، كان في الجهاز الأمني لا في الجيش. لكن، في ثورة 25 يناير، وخلال حكم المجلس العسكري، كان و لابد من ظهور تناقضات جديدة أفرزتها الثورة، وكادت أن تغير من تلك الصورة البهية عن وقوف الجيش مع الشعب. وما شفع له من أخطائه الجسيمة في إدارة المرحلة الانتقالية، ومن القطاع الأوسع من صناع الثورة، باستثناء بعض شبابها اليساريين، أن الجيش لم يكن يرغب في هذه القيادة التي وجد نفسه مجبورا عليها... وخاصة لقلة خبرته السياسية ولقصور رؤيته للثورة، وهي على أية حال رؤية محافظة. ولقد كان واضحا لدى القيادات السياسية أن من دواعي تدخل الجيش، عدا ان الثورة بلغت حينها نقطة اللاعودة الى الوراء. أن الجهاز العسكري كان في الاصل ناقما ورافضا لحكاية التوريث التي شرع النظام الآفل في التهييء لها. وزاد على بلوغ الثورة ذروتها، تعاطف الجنود والضباط الصغار معها في مشاهد تكررت في عامة الميادين، الا أن رؤية المجلس العسكري، كما أظهرها في فترة حكمه، لم تكن تواكب تطلعات الثورة ضد النظام برمته، لا ضد رأسه فقط. ومن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها المجلس العسكري في هذا الشأن، أنه كان الفاعل الاكبر في خربطت خارطة الطريق من أول خطوة فيها، بعدما أقر وبدعم من الاخوان المسلمين، الاسبقية لانتخابات برلمانية مع إدخال بعض التعديلات على الدستور الذي كان معمولا به , بدل التوافق على دستور جديد يناسب الثورة ويؤسس لمؤسساتها المنتخبة في اللاحق. وكل ما جرى بعدها من ارتباكات لا عد لها كانت مستولدة من هذه الانطلاقة العوجاء. ومع ذلك، وقع ما كان سيؤدي الى الشقاق النهائي، لأن قلة الخبرة السياسية (الناجمة عن الإبعاد الكلي عن سلطة القرار)، لم تمنع المجلس العسكري من ان يصرح بمصالحه في الحفاظ على ما كان للجيش من امتيازات، والتي أوعز بها وتم الزج بها في الوثيقة التي عرفت ب «»وثيقة د. السلمي»، نائب رئيس الوزراء لشؤون التحول الديمقراطي في حكومة عصام شرف. والتي اقحم في موضوعهاوموادها، مادة خصت المجلس الاعلى للقوات المسلحة،، دون غيره، بالموافقة على أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة قبل إصداره، وبإقرار بنود الميزانية، من قبله ثم إدراجها رقما واحدا في موازنة الدولة. فشل المشروع، وذهب مع رحيل الحكومة بعد حين. لمسألة النفوذ الاقتصادي للجيش أهمية مثيرة في تحليل طبيعة النظام المصري القديم والجديد، واذا كان لهذا الدور والنفوذ ما يفسرهما عبر التاريخ، فلا شك أن لكل مرحلة خصوصيتها ودواعيها ونوعية علاقاتها بالسلطة. من هذه الزاوية التاريخية يقول انور عبد المالك على سبيل التوضيح «اذ اخذنا في الحساب المركز الجيوبوليتيكي غير الحصين لمصر، فإن الحاجة لبناء جيش قوي كان نتيجة منطقية. لذلك ليس من قبيل المصادفة ان قادة الجيش كانوا يسيطرون على القوة الاقتصادية خلال فترات عديدة في التاريخ المصري، بعد طرد الهكسوس، وخلال عصر المماليك، واثناء حكم محمد علي، واليوم، في شكل النظام العسكري القائم مع سيطرته على القطاع العام«.