تحتل مسألة التصوف الشعبي في المغرب مكانة عظيمة وإشكالية في نفس الوقت، ولذلك استرعت انتباه الباحثين الكولونياليين عن بكرة أبيهم لغرابتها ومفارقاتها، وأثارت حنق الحركة الوطنية التي رأت فيها انحرافا عن الإسلام السّني الصحيح وابتعادا عن الفطرة الروحية السليمة.. وقد نجم عن هذا الوضع أن الكتاب المغاربة، حتى أكثرهم استقصاء، قد أداروا ظهرهم لهذه الممارسة، بينما تولاّها بالبحث والتحليل الدارسون الأجانب وخاصة منهم الفرنسيين. وهذه النصوص التي نترجمها للقارئ هنا قاسمُها المشترك هو الانكباب على ظاهرة الطوائف الدينية بالمغرب (عيساوة، درقاوة، احمادشة، هداوة، كناوة..)، بقليل أو كثير من التعمق، ولكن بتتبّع دقيق لخيوطها، ونبش لجذورها، وكشف عن مُضمراتها..والأهم من ذلك بتلك العين الأجنبية الفاحصة التي تقرأ بفضول واقعنا الديني في تلك الحقبة الغابرة من تاريخنا. (عن كتاب «مجمل تاريخ الطوائف الدينية والزوايا في المغرب»1951. لجورج سبيلمان) المذهب الصوفي للزاوية الدرقاوية سيكون تأثير حركة مولاي العربي الدرقاوي من الناحية الدينية في مستوى نفوذها السياسي الكبير. فهذا الرجل المتميز، ذو المزاج اللطيف، الرحيم بالفقراء وتعساء الحظ، هو كذلك وليّ من الأولياء الصالحين، عميق الإيمان، خالص التصوف. وكان على طريقة أستاذه الفقيه مولاي علي بن عبد الرحمن العمراني الفاسي، المدعو جمال، وكان هذا الأخير يدعو أصحابه إذا هم أرادوا نيل مرضاة الله أن يُكثروا من أعمال الخير، وأن يزهدوا في متاع الدنيا. ويُحكى أن هذا الفقيه قد خصّ تلميذه المفضل مولاي العربي الدرقاوي بجملة من النصائح والوصايا التي يوردها الكومندار رين كالآتي: واجب قهر الشهوات لأداء الواجبات والفرائض، والتشبّه بنبي الله في السير على الدوام متوكئا على عصا، وبسيدنا أبي بكر وعمر بن الخطاب بلباس الخشن من الثياب، وبجعفر بن أبي طالب بإقامة الدعوات رقصا، وبأبي هريرة بحمل مسبحة حول عنقه، وبسيدنا عيسى بالعيش معتزلا في الصحراء..وقد صار درقاوة في معتاد حياتهم يسيرون حفاة الأقدام ويعانون من الجوع، ولا يخالطون سوى الناس الأتقياء. وسيتجنّبون مخالطة الماسكين بالسلطة، ويحذرون الكذب، ويكثرون من السهر والقيام للصلاة وإيتاء الصدقات، ويواظبون على إخبار شيخهم بكل صغيرة وكبيرة تطرأ على فكرهم وأفعالهم، ويخضعون له خضوعا تاما، ويضعون أنفسهم بين يديه "كما الميت بين يدي غسّاله". وبالنظر إلى نوعية هذه الوصايا يبدو صحيحا ما أخذه بعضهم على سيرة مولاي العربي الدرقاوي من أنه خرق تعاليم أستاذه عندما اتجه غلى لعب دور سياسي وإبدائه أفكارا متطلّعة. ويبدو أن الشيخ الدرقاوي لم يكن له خيار في ذلك، فقد عاش في حقبة حرجة كان يستحيل فيها على زعيم ديني متنفذ أن يظل على الحياد أو أن يسير في غير الطريق الذي سار فيه. كما أن موقف المولى سليمان المعادي للزوايا والطوائف الدينية، تحت تأثير أفكاره السلفية، لابد أنه اضطر تلك الطوائف إلى إتيان ردّ فعل معارض كما حصل مع مولاي العربي الدرقاوي أحد كبار قادة تلك الزوايا وأكثرها تأثيرا. وقد مرّ بنا أن الطريقة الدرقاوية تستمد جذورها من مبادئ الإمام أبي الحسن علي بن جبار الشاذلي عبر سلسلة من رواد التصوف الإسلامي تنتهي بالفقيه مولاي علي بن عبد الرحمن العمراني الفاسي المعروف بجمال. وهي تقدم نفسها كطريقة صوفية تجديدية جاءت لترمّم المذهب الشاذلي القديم عن طريق مناهضة الممارسات الجامدة والشكليات الضيقة ونبذ الطقوس الآلية الخالية من الروحانية.