نحن اليوم في حضرة أدبية مشبالية سابغة، نستقبل فيها في آن، ضيفنا الكبير خالد مشبال، محفوفا بالمبدعين ? المريدين حسن بيريش وعبد الرزاق الصمدي، بمناسبة صدور كتابهما (خالد مشبال الاعلامي الذي لم يفقد ظله). تحية وتكرمة هذا الإعلامي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. ودعوني أتحدث قليلا عن خالد مشبال في خارج الكتاب، قبل أن أتحدث عنه من داخل الكتاب. هذا الرجل قطعة أثرية نفيسة في تاريخنا الثقافي والاعلامي، انه صوت المغرب الحداثي ? الجهير بامتياز، أو لنقل انه أحد المهندسين الأوائل ? البواسل للمغرب الحداثي، في مجال اعتباري بالغ الأهمية والحساسية ، هو مجال الثقافة والاعلام. وعلى مدى زمني شاسع ورائع، يربو على نصف قرن كامل وحافل، ظل الرجل شمعة متوقدة ومتجددة تنثر الضوء في العتمات، وتواجه الرياح والتقلبات. ظل شمعة تحترق لتضئ. وبدل أن يلعن الظلام وزبانية الظلام ، كان دائما يشعل شمعة.. ويمضي في الطريق. وهذا هو السلاح القوي والبهي لخالد مشبال، أن يظل شمعة في قلب العاصفة. وما أكثر الشموع التي أوقدها خالد في مشهدنا الثقافي والاعلامي، على امتداد هذه العقود الزمنية الطوال- السمان. وما أكثر الأجيال التي استنارت بشموعه ونهلت من ينابيعه، وأنصتت لصوته الشجي البهي، آناء الليل وأطراف النهار، عبر أمواج الأثير السمعي البصري ، يؤنس غربتها ويفرج كربتها ويجلو غشاوتها ويزودها بالمعرفة والثقافة وأطايب الكلام. هو صوت المغرب الحداثي ? المتميز- الجهير، ينساب عبر الأثير، كما ينساب عبر الصحف والمجلات والكتب ، التي ساهم بعصاميته وجهاديته وعبقريته، في تأسيسها ورعايتها. وهكذا بقدر ما كان رائدا اعلاميا على مستوى الأثير، عبر فتوحاته الرائعة في «راديو افريقيا» و اذاعة طنجة والتلفزة المغربية، كان رائدا ثقافيا أيضا على مستوى الكتابة والنشر ، فأسس جرائد ومجلات سيارة كمجلة (الموقف) و (الموقف الأسبوعي) ، ثم جريدة (الشمال) الغراء، التي صارت حبلة للقراء والكتاب، من شمال وجنوب ، وسارت بذكرها الركبان. كما أسس بضربة «معلم» باهرة، سلسلة (شراع) الشهرية ، لتقريب الكتاب والكتاب من المواطن، ومواجهة العزوف عن القراءة. وهي السلسلة الرائدة ? الرائعة التي استقطبت فئات من الكتاب والمثقفين المغاربة ، من أعيرة وازنة وثقيلة . كما كانت مثارا ومهمازا لمسلسل من السلاسل الشهرية التي نسجت على منوالها ومثالها. وفي هذين المضمارين على نحو خاص ، مضمار الاعلام ومضمار النشر ، جاد خالد حقا بالعجب العجاب. جاء بما تنوء به العصبة من أولي العزم، وأنا أقول هذه الشهادة لوجه الحق وحده، لا لف فيها ولا دوران. كان الربط الجدلي ? الوثيق بين الثقافة والاعلام، شعارا وخيارا استراتيجيا ومنهجيا للرجل. وأينما حل وارتحل إعلاميا، كان الهاجس الثقافي حاضرا باستمرار.كان للثقافة دائما أخبار وآثار ، في فضاء اجتماعي ورسمي تبدو فيه الثقافة ، أضيع من اليتيم في مأدبة اللئيم، وهكذا ،كان خالد مشبال فارسا ورائدا للاعلام المغربي الحديث- والحداثي، بواجهاته الثلاث، المسموعة والمرئية والمكتوبة. في هذه الواجهات- الجبهات أبلى خالد البلاء الحسن، وتعرض لضروب من المضايقات والحروب والمحن . لكن ما بدل تبديلا. فظل باستمرار موهبة مقاتلة كبيرة، ونفسا أبية ? كبيرة. واذا كانت النفوس كبارا / لعبت في مرادها الأجسام لكن خالد لم يتعب ولم ينصب..بل ان متاعب ونوائب الطريق، لم تزد عزيمته الا مضاء وصمودا. ومن ثم أراه قريبا من القول الآخر لأبي الطيب / أطاعن خيلا من فوارسها الدهر / وحيدا وما قولي كنا ومعي الصبر وأشجع مني كل يوم سلامتي / وما ثبتت، الا وفي نفسها أحر. وفي نفس خالد دائما، أمورا لا تهدأ. لقد كان الرجل بعبارة، مدرسة إعلامية رائعة، بل كان جامعة اعلامية رائعة ? ورائدة، تخرجت منها وترعرعت في كنفها أفواج وأجيال من الاعلاميين والمبدعين الشباب..منهم المعترف بالفضل ومنهم الناكر للجميل . وها هو ذا الجيل الجديد من الاعلاميين والمبدعين، ممثلا في حسن بيريش وعبد الرزاق الصمدي، يقدم مثالا جميلا ونبيلا، على وفاء الخلف للسلف، من خلال إصدارهما الجديد ? الممتع والمفيد / (خالد مشبال / الاعلامي الذي لم يفقد ظله ). عنوان جامع مانع ، يلخص لنا جوهر شخصية خالد مشبال ، الإعلامي الصامد الذي يبقى على صبغته، لا يفقد ظله. يحيلني هذا العنوان، الى رباعية فتحي غانم الشهيرة ( الرجل الذي فقد ظله)، التي كتبها خلال الفترة الناصرية عن فترة ما قبل الثورة، راصدا تقلبات وتحولات وانزلاقات بعض المثقفين، وهو الأمر الذي ? يحدث في كل زمان ومكان. ولعل المغرب الجديد، هو المسرح النموذجي للرجال الذين فقدوا ظلالهم وغيروا جلودهم بين عشية وضحاها، عملا بالحكمة الميكيافيلية، الغاية تبرر الوسيلة ، و مالبس لكل حال لبوسها. لكن خالد مشبال، استثناء عن القاعدة ، وطائر شارد عن السرب الأليف. وهو دائما في (حالة شرود) من النمطي والمعهود ..فظل متحفظا بقامته وظله حتى الشوط الأخير. وليس ثمة أشواط أخيرة في مسيرة خالد ، بل هو نضال دائم ومستمر. ولا يمكن العبور الى داخل الكتاب، دون الوقوف عند واجهة الكتاب ، التي يتصدرها بورتريه فني رائع لخالد مشبال ، بريشة الفنان العالمي أحمد بن يسف ، هو بحق ( من أجمل وأدق البورتريهات التي رسمها حتى الآن). وقد كان المؤلفان، حسن بيريش وعبد الرزاق الصمدي ، موفقين وثاقبين حين وضعا اليد في مقدمة الكتاب ، على أهم مفاتيح ? ومناقب شخصية خالد، وهي / مفتاح الانتماء ? مفتاح الحرية ? مفتاح التحدي ? مفتاح المبادرة ? مفتاح الاتقان ? مفتاح التواضع.. وتأتي حلقات المذكرات الهاطلة بعدئذ، شواهد وقرائن على ذلك. يتأسس العمود الفقري لهذا الكتاب، على مذكرات خالد مشبال في جريدة (الاتحاد الاشتراكي) ذات رمضان فائت جميل. وقام الكاتبان حسن بيريش وعبد الرزاق الصمدي، بتنسيق واعداد هذه المذكرات بضمير الغائب ? البيوغرافي الذي يسمح بسيولة أكثر في الحديث . وكأننا هنا، ازاء الشيخ ومريديه. ولا يمكن العبور أيضا الى داخل الكتاب، دون الاشارة الى الحاشية ? القرائية الختامية ? الجميلة ، التي كتبها الأديب المقتدر، الدكتور عبد اللطيف شهبون. الكتاب اذن، حفر ونبش في ذاكرة خالد الموشومة، حسب عبارة عبد الكبير الخطيبي. أو هو سياحة تاريخية وثقافية وسياسية رائعة في مسار حياة خالد بخاصة، وفي مسار المغرب بعامة، منذ خمسينيات القرن الماضي الى الآن.. منذ مغامرة الرحلة ? الأسطورية التي قام بها خالد الى مصر رفقة صديقه عبد القادر السباعي في صيف 1952، الى طفولته السبعين، نسجا على العبارة الجميلة لمحمد الصباغ في سيرته الرائعة ( الطفولة الستون )، حيث ترصد وتتابع حلقات هذه المذكرات الموزعة الى خمس وعشرين محطة ، مغامرة خالد في معمعان الحياة ، وتنقلاته وتقلباته في عالم الاعلام ، ما بين طنجة والرباط ومدريد.. وتعرضه في غضون ذلك، وفي عقر داره ووطنه الذي تفانى في خدمته، لصنوف من المضايقات والاستنطاقات والتوقيفات والاقامات الجبرية، والاحالة المبكرة على التقاعد، مع ما ترتب عن ذلك، من ضوائق وأزمات مادية مسته في رزقه وخاصة حياته، جزاء وفاقا لسنمار. ! كل ذلك والعزيمة لا تلين . والرجل لا يستكين.لكن ، عبر رحلة المتاعب هذه ، كان ثمة يد حانية ترعاه وتشد من أزره ، ودفقة ضوء تنير حلكته ، تلك هي رفيقة دربه ، أمينة السوسي ، التي لم ينس وهو في عرام مذكراته وهمومه الإعلامية ، أن يرفع اليها باقة عرفان ووفاء، هي من أجمل ما قاله زوج في زوجته. والكتاب شاهد على ذلك. كل ذلك ، في قالب ونسق سردي شائق وآمر.و كأنما نقرأ رواية ? درامية حافلة بالوقائع والمفاجئات . منذ البدء اذن، منذ سنوات الصبا واليفاع، منذ رحلة مصر ، نذر خالد مشبال نفسه للمغامرة والمخاطرة .. وبعد عودته الى الوطن ، سينذر نفسه لرحلة أخرى أشق وأطول. سينذر نفسه لمهنة المتاعب، الصحافة والاعلام، ولا بدع في الأمر، فهو رجل المهمات الصعبة دائما. ومن الناس من يعبر هذه الحياة ، لا يحرك ساكنا ولا يترك أثرا .ومن الناس من يعبر هذه الحياة عاصفة واعصارا ، تاركا أصداء وآثارا وخالد مشبال من هذا العيار. في هذا الكتاب الساخن ? الفاتن ، نتعرف الى خالد صوتا إعلاميا وثقافيا للمغرب. كما نتعرف إليه ذاكرة حية وزاخرة وحداثية للمغرب . فالكتاب لذلك، سجل تاريخي لمغرب الاستقلال وما بعد الاستقلال. في هذا الكتاب ، مادة تاريخية وثقافية واعلامية وفيرة ومثيرة، مقدمة من خلال ذاكرة وقادة وبصيرة نفاذة ورؤية نقدية جريئة و صريحة، هي أهم مناقب وخصال خالد مشبال. ولا أريد أن أغادر هذا الكتاب ، دون التنويه بالجهود الأدبية الخفية التي بذلها الكاتبان حسن بيريش وعبد الرزاق الصمدي، في تنضيد وصياغة واخراج حلقات هذه المذكرات للناس ، في حلتها الزاهية ? الراقية. وما أحوج الأجيال الجديدة ، من القراء والكتاب والمثقفين والإعلاميين والسياسييين ، الى قراءة هذا الكتاب والإنصات إليه ، فلعل في ذلك تذكرة لأولي الألباب . التحية للشيخ ومريديه ..التحية لمناضلة الخفاء..في السراء والضراء..أمينة السوسي. - قراءة الأستاذ نجيب العوفي لكتاب «خالد مشبال الاعلامي الذي لم يفقد ظله»، خلال حفل توقيعه بطنجة في الأسبوع المنصرم.