بعد المؤتمر الوطني التاسع للاتحاد الاشتراكي انخرط الحزب في صيرورة إعادة البناء التنظيمي التي تعتبر من أهم رهانات المرحلة والجسر الضروري لتعبئة كل الطاقات للإسهام الجماعي في تأطير نضالات الشعب المغربي تحصينا للمكاسب الديمقراطية ودفاعا عن حقه في العيش الكريم ضمن دولة ديمقراطية حديثة. وقد وضعت اللجنة الإدارية خطة عمل شملت التنظيمات العمودية والقطاعية موازاة مع برنامج إشعاعي/ تواصلي على المستويين المركزي والجهوي ومبادرات سياسية تجاه الحلفاء، فضلا عن علاقات دولية نشيطة ومتميزة؛ وذلك سعيا لتقوية الحضور الحزبي على كل الواجهات. كان الرهان وما يزال أن يستعيد الحزب، استنادا لتاريخه النضالي، واعتبارا لمسؤوليته التاريخية، وانسجاما مع مقررات المؤتمر التي كانت موضوع إجماع، توهجه في الحياة السياسية الوطنية وريادته للنضال الديمقراطي في أفق الملكية البرلمانية والتنمية العادلة ضدا على اتجاهات الارتداد الفكري والاستبداد السياسي. لم تغب عن قيادة الحزب وأطره، حين صياغة خطة العمل، العوائق الذاتية والموضوعية التي قد تواجه تنفيذ الخطة على كل الواجهات وفي الجهات والأقاليم. من العوامل الموضوعية ما يرتبط بالوضع السياسي العام المتسم بالعزوف عن العمل السياسي لاسيما من قبل الشباب، وانزواء المثقفين بعيدا عن معترك العمل السياسي الملتزم، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لعموم الشعب المغربي، و تفشي الفساد الإداري والمالي، وشيوع قيم النجاح الفردي والمشروع الشخصي، والبحث عن الارتقاء الاجتماعي السريع في الحياة العامة كما في الحقل السياسي. نتاج هذه العوامل مجتمعة ومتفاعلة، أضحى العمل السياسي القائم على رؤية متكاملة والحامل لمشروع اقتصادي واجتماعي وثقافي مستقبلي بدون جاذبية، وأصبح من الصعب في مثل هذا المناخ العام تعبئة الناس حول مشروع يستند لمثل وقيم تبدو للأجيال الحالية المحبطة والغارقة في عالمها الافتراضي الفاقد لمعالم الطريق، لا واقعية بل غير صادقة. ومن العوامل الذاتية محدودية الشبكة التنظيمية مجاليا وقطاعيا، وتراجع فعالية ونجاعة الهياكل التنظيمية جهويا وإقليميا ومحليا، وضعف المبادرات السياسية في الأقاليم والجهات، وانعدام خطط عمل محلية واضحة، وتواضع الإمكانات المادية واللوجستيكية، ناهيك عن الصراعات الداخلية و ضمور قيم التضامن النضالي والانخراط الإرادي لكل المناضلات والمناضلين في بناء المشروع وتنفيذه بما يتطلبه ذلك من تضحيات ونكران ذات، وهذا هو العامل الأساس والحاسم. أجل، لم تغب عن فهم القيادة الشروط العامة والخاصة التي نشتغل فيها، لكنها بلا شك راهنت على إرادة الاتحاديات والاتحاديين كافة في تجاوز خلافاتهم أثناء المؤتمر، وعلى وعيهم بدقة المرحلة ومتطلبات النهوض، وفي مقدمتها الالتزام الجماعي بمقررات المؤتمر وقرارات اللجنة الإدارية وخطط عملها، ومشاركة الجميع في عملية إعادة البناء بعيدا عن منطق «الأغلبية المستبدة» و»الأقلية المتمردة». إن العمل بهذه الروح لا يتناقض مع كنه الديمقراطية الداخلية بما تعنيه من حق الاختلاف في الرأي والتعبير الحر عن المواقف وممارسة النقد والنقد الذاتي داخل مؤسسات الحزب الشرعية وبلغة سياسية راقية تحترم أصول الحوار الديمقراطي البناء وتراعي المشترك تاريخا وفكرا ومستقبلا. انطلاقا من هذا التقدير سارت عملية إعادة البناء التي شملت تجديد الفروع وانعقاد مجالس الأقاليم وانعقاد المؤتمرات الجهوية للشبيبة الاتحادية والمؤتمر الوطني للنساء الاتحاديات وهيكلة قطاعات التعليم العالي والمحاماة والمهندسين، وكان للحزب حضور نوعي في الحركات الاحتجاجية للحركة العمالية والتظاهرات النقابية موازاة مع العمل الدؤوب للفريق الاتحادي بالبرلمان بمجلسيه. عموما شهدت الحياة الحزبية دينامية حقيقية قد نختلف في تقييم مردودها التنظيمي والسياسي، وقد تشوبها نواقص وعيوب على مستوى التصور والممارسة، لكنها أخرجت الحزب من جمود طال أمده وزرعت الأمل المقرون بالعمل بدل جلد الذات وانتظار «غودو» الذي لن يأتي، ورثاء زمن انتهى بما له وما عليه، و»لن يعيد الأسف الصبا المتصرما». لكن، ألم يكن في الإمكان أحسن مما كان؟ من المؤسف الإقرار بأنه كان في الإمكان أن تكون الحصيلة أفضل وأرقى لولا بعض «الأعطاب» الذاتية و»الأخطاء الجماعية» التي حالت دون الاستثمار الأمثل للقرارات اللا شعبية لحكومة أبانت عن عجزها البنيوي في الحد من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي لم تزدها الأيام إلا استفحالا. ولعل أبرز الأخطاء وأكثرها وقعا على الحياة الحزبية وأقواها أثرا على صورة الحزب لدى الرأي العام، عدم تمكننا من احتواء تداعيات التنافس الديمقراطي على قيادة الحزب الذي عرفه المؤتمر التاسع ، وأخرا وليس آخيرا، أزمة الفريق الاشتراكي بمجلس النواب التي كادت أن تعصف بالفريق نفسه. من الطبيعي أن تؤثر هذه الخلافات على الأداء التنظيمي والسياسي للحزب بحيث أنها أدت إلى تباطؤ الدينامية التنظيمية وتعطيل تجديد الهياكل في بعض الأقاليم والانشغال الذهني للاتحاديين بخلافاتهم بدل الانصراف لعمل تنظيمي وسياسي منتج. لا نسعى من هذا الكلام إلى تثبيط العزائم، ولا إلى تقليب المواجع، ولا إلى تبخيس الجهود والإنجازات، ولا إلى تبرئة الذات، وإنما سعينا هو: أولا محاولة فهم الذات الحزبية وتناقضاتها وصعوبات تدبير الاختلاف المشروع والمحمود حتى لا يتطور إلى خلاف فتوتر فنزاع وتنازع. في هذا الباب، يمكن القول إن الاختلاف في الرأي داخل حزب اشتراكي ديمقراطي أمر بديهي، فهو من مقومات الاجتهاد الفكري والسياسي وتعدد المقاربات لمختلف الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وكذلك كان الاتحاد الاشتراكي منذ ولادته، مدرسة فكرية وسياسية أصيلة أسهمت بقسط وافر في إغناء الثقافة السياسية المغربية والفكر المغربي في شتى مباحثه العلمية والفلسفية وأجناسه الإبداعية. يكفي أن نستحضر المناظرات الرائعة التي كانت تشهدها مؤتمراتنا الوطنية والوثائق القيمة التي انبثقت عنها. بالتأكيد لم يكن الاتحاديون والاتحاديات على اتفاق تام حول أطروحة ما، غير أنهم لم يجعلوا أبدا من الاختلاف في الاجتهاد رأيا وموقفا خلافا لا يقهر ولا سببا للخروج عن المنهجية الديمقراطية. في ذات السياق، لم تكن القيادة السياسية محل إجماع وإنما كانت هنالك دوما معارضة واضحة وعلنية أو كامنة وصامتة، لكن لم يعرف الحزب أبدا تشكيكا في القيادة ومسا بشرعيتها. فما هي دواعي هذا التحول السلبي في تدبيرنا للخلاف؟ في اعتقادي لا يخرج الأمر عن فرضيتين: أولهما أن تدبيرنا للشأن العام وتجربتنا للمسؤولية الحكومية قد غير من تصورنا للسياسة ولوظيفية القيادة الحزبية. ربما أصبح البعض منا إن لم يكن أغلبنا يختزل السياسة في الصراع من أجل الحكم، وأن تبوأ مركز القيادة هو مفتاح أبواب الشأن العام، وبالتالي فإن الصراع من أجل القيادة هو في العمق صراع حول المواقع مستقبلا. الفرضية الثانية هي أن تجربة التنافس المفتوح على القيادة والاحتكام لصناديق الاقتراع بعيدا عن الصيغ القديمة للتحكم الديمقراطي او الديمقراطية الموجهة (لجنة الترشيح)، مازالت فتية ولم تنضج بعد. إن الانتقال من الشرعية التاريخية والقيادة الكارزمية إلى الشرعية الديمقراطية والقيادة الحاملة للمشروع، ليست مسألة شكلية وهينة، وإنما هي مسألة ذهنية، نفسية، واجتماعية؛ وتحتاج إلى اختبار وتجريب وتمرن واجتهاد. لذلك يمكن أن المؤتمرين الثامن والتاسع مرحلة انتقالية من شرعية إلى أخرى، ومن علامات طابعها الانتقالي وجود تلك المفارقة المتمثلة في تعدد المترشحين للكتابة الأولى وإجماع حول مشاريع المقررات التي صادق عليها المؤتمر بما يشبه الإجماع. ثانيا : تقديم بعض الأفكار لخفض التوتر في اتجاه تجاوزه وحشد الجهود نحو ربح الرهان الأساس للمؤتمر التاسع. يمكن أن نسجل أن الحزب تمكن من تجاوز أوج الأزمة، وأن الجميع أعلن أن المس بوحدة الحزب خط أحمر. في رأيي المتواضع لا يكفي ذلك لوضع الحزب، قيادة وقاعدة، على سكة استراتجية إعادة البناء في أفق الاستحقاقات التنظيمية والسياسية والانتخابية المقبلة. الإتحاد اليوم بحاجة إلى مصالحة داخلية حقيقية وصادقة، غايتها خلق مناخ ملائم ومحفز على العمل؛ وقوامها الاحتكام للقانون الأساسي واللوائح الداخلية للحزب، والالتزام بخطة العمل القابلة دوما للتعديل والتجديد، وبحث الصيغ الكفيلة بإدماج كل كفاءات الحزب وأطره في الدينامية التنظيمية وآليات بلورة المواقف. إن المهمة الأساسية التي يلزم أن تتضافر حولها كل الجهود هي تأهيل الحزب تنظيميا وسياسيا ولوجستيكيا حتى يكون قادرا غدا على خوض كل الاستحقاقات في شروط مواتية. ضمن هذا الاختيار يمكن أن نبذل جهدا فكريا ونظريا جديا وعميقا حول مجمل القضايا التنظيمية والسياسية والاديولوجية في إطار ندوات موضوعاتية وقطاعية يسهم فيها كل أطر الحزب ونخبه الفكرية والاقتصادية تحضيرا للمؤتمر العاشر الذي نأمل أن ينعقد في شروط تنظيمية وسياسية أفضل، تكرس الشرعية الديمقراطية دون أن تفرط بوحدة الحزب فكرا وممارسة. دون تجاوز خصوماتنا المتصلة بتداعيات المؤتمر السابق، والانطلاق الجماعي نحو آفاق واضحة وفق استراتيجية مشتركة سنجد أنفسنا غدا - وهو لناظريه لقريب - في وضع صعب، ولن يكون لإلقاء اللوم على طرف دون آخر من فائدة عملية. لذلك أختم أن مسؤولية إعادة البناء جماعية وعلى كل اتحادي أو اتحادية أن يضع المستقبل نصب عينيه وان يستحضر وصية القائد الكبير عبد الرحيم بوعبيد وفاء لشهدائنا الأبرار.