إنه لمن باب تحصيل الحاصل، إذا ما تأمل المرء قولا عاديا في متناول كل البشر: «الذئب يأكل الغنم «، ولا يصير الأمر غريبا إلا حين نسلم بأنه يرعى الغنم، وأن له ناي الرعاة وحرص الراعي... حسن حنفي، الجامعي المتميز، حدد للتغريب ثلاث زوايا، تكون في ترابطها ناموسا يحكمنا ونمتثل له، بدءا من اعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري ولا نمط سواه، ومرورا من التسليم بأن الغرب يعني أنه البشرية جمعاء وأوربا هي مركز الثقل، ثم وصولا إلى التعامل معه باعتباره المعلم الأبدي لأن اللاغرب هو التلميذ الأبدي... صورة رسمية تم حشو أذهان ونفوس نخب واسعة ونافذة بها، تنضاف إليها صورة مركبة في الخيال والمخيال الشعبيين عن الغرب: وجه استعماري وآخر حضاري، وفي واقع الحال يواصل مندوب الغرب في المغرب تعزيز وجوده، والتهام خيراته الطبيعية والبشرية وأماله في الإنعتاق، وفي استعادة المبادرة والإشعاع والسيادة على كل أراضيه ومصيره. لنتحدث لغويا، الفرنسية لغة الجوار كما الاسبانية تماما، وينبغي أن يصانا كتراث لغوي مكتسب وثمين. في شمال المغرب- أو في المنطقة الخليفية سابقا- ضاعت الاسبانية أو تكاد، رغم نفوذها المترامي جغرافيا، ولسان موليير يحول إلى فرونكوعامية، والأمازيغيات تصبح رسوما لا يفقهها إلا من يأكلون من كتفها، أما العربية فلغة» كلاسيكية ميتة «، «رمز للغزو العروبي «، و» سبب التخلف « عن الذوبان الشامل والكامل والنهائي في الحضارة/ الغرب/فرنسا... إن عملية تسييس وضعنا اللغوي ليست وليدة اليوم، لقد انطلقت « مع السياسة اللغوية والتعليمية الاستعمارية الفرنسية، التي بنت خططها على خلق صراع لغوي وثقافي وعرقي بين المغاربة الأمازيغ والمغاربة العرب في بداية القرن العشرين «، كمدخل لاختراق الهوية الثقافية للمغرب و « استبدال عناصرها ومكوناتها الأساسية لفصله عن الشرق وانتزاعه من عمقه الجغرافي والحضاري والثقافي والروحي «. وفي اللاحق من زمن الوطن المستقل شكليا، وإلى الآن، « سيعرف المغرب سجالا حادا وتوترا في الكثير من محطاته، نتج عنه أن المسألة اللغوية بالمغرب ظلت موضوعا مركبا، لا يتم طرحه أو معالجته إلا وفق منظور التقلبات الظرفية والحسابات السياسية الضيقة، في غياب رؤية واضحة وسياسة لغوية منسجمة ورشيدة وجريئة « ، مما أفرز حالة الفوضى اللغوية ووضعا لسانيا ملتبسا وقاتلا... « لوجرنال «، الأسبوعية الناطقة بالفرنسية، وقبل أيام معدودة على شروع اللجنة الخاصة للتربية والتكوين في انعقادها- ابتداء من عام 1998- نشرت ما اعتبره « بن طوليلا» مخططه اللغوي للتعليم بالمغرب، مركزا فيه على فهم خاطئ ومقصود لمفهوم اللغة الأم، داعيا لتحويل اللغات الأمهات- الأمازيغيات والدوارج- إلى لغات تدريس في المدرسة، وجعل اللغة الفرنسية لغة العلم والأعمال والتقدم. وكان بن طوليلا، الذي يدعي استشاريته للرئيس شيراك، متصرفا في البنك المغربي للتجارة الخارجية ثم محررا في جريدة « الإيكونوميست «، قد باع وهما وتوهيما من هذا القبيل لحكومة هايتي، وللمغرب بماركة مسجلة تحت اسم « المدارس الجماعاتية «... منذ هذه التخريجات على الأقل، تعددت الخرجات بهدف توجيه اللوم للغة العربية في فشل التعليم، « يشم منه توجيه سياسي يبحث عن كبش فداء، كان أحد الممثلين على خشبة مسرحها الأخير قد قال أنه بناها على أقوال خبراء مختصين، إضافة إلى طريقة الإخراج بحضور مسؤولين عن الإصلاح ووزرائه ومستشار الملك... إننا إذن، كنا وما نزال، بصدد طرح إيديولوجي- أصلا ومفصلا- يتوخى « تمرير مفاهيم وأغالط بعيدة عن الطرح العلمي أو حتى عن الطرح السياسي الذي يراعي أخذ مواقف المواطنين وأرائهم اللغوية بعين الاعتبار... إن الطرح الإيديولوجي « يتبين حين تريد جماعة، ذات نيات غير سليمة، تجريد المواطنين مما يعتبرونه هويتهم اللغوية والإساءة إلى لغتهم/ لغاتهم، مع أنهم اختاروا لسانا لهم منذ أقدم العصور...» وهكذا، « يؤكد استقراء النظام التعليمي بالمغرب حقيقة واضحة، هي عدم الاستقرار في القرار اللغوي، وزير يعرب وآخر يفرنس... تردد لغوي وتذبذب في القرار، قرارات تغير كل فترة أو سنة أو بضع سنين... إن التعليم، حتى في جانبه اللغوي، مشكل تربوي... ولإنجاحه هناك شروط الاستقرار والبيئة الصالحة والرؤية العلمية والسياسية الواضحة...إن هذا التردد وكثرة القرارات المتضاربة، هما اللذان جعلا الناس يشكون في مصداقية التعليم العمومي... وينبغي أن لا ننسى أن للتعليم وظائف أساسية في النهوض بالطاقات البشرية والتنموية للأمة، وبالقيم الجماعية وتكافؤ الفرص «... إنه من يجعل الناس، كل الناس، يتعايشون في فضاء واحد، تحت سماء واحدة، ومن أجل وطن مشترك ومتشارك مع كل الأجيال... في المغرب، كما سائر البلدان، يوجد مشكل التعدد اللغوي، ولن يعالج أبدا علاجا سليما وموثوقا إلا بالتحليل والإقناع، بالتفاوض والتضامن، وبالروح العلمية والعقلانية والمغربية والكونية في آن واحد. إن جزء كبيرا من الحلول، يوجد اليوم في الدستور، في روحه المستقبلية، حين يدعونا إلى صون لغاتنا والانفتاح- دونما استسلام- على أخرى، وإلى تقوية العربية والعمل على نشرها، « لا الاعتداء عليها ومحاولة تهمشيها، والقضاء على لغة تحتل موقعا متميزا في النظام العالمي اللغوي، فهي من بين الخمس أو الست لغات الأولى الأكثر استعمالا في العالم... وهي « في التقرير الأخير لbritish Council ، حول مستقبل اللغات في بريطانيا، تحتل المرتبة الثانية بعد الاسبانية في اهتمام البريطانيين بتعلم اللغات الأجنبية، وتأتي الفرنسية بعدها، بعد أن كانت تحتل المرتبة الأولى... إن « الأطر- المغربية- الوطنية التي لها غيرة على بلدها، لا يمكن أن تفتي بخراب أوطانها «... وفي قضايا التعليم واللغة- خصوصا وتخصيصا- « لا يمكن أن نتصور اختيارات سليمة وعقلانية ومنتجة، دون استشارات واسعة وإشراك الخبراء الحقيقيين، لأنها قرارات تقتضي خبرة عالية ووطنية وليست أجنبية لها مصالح معروفة وعينية... إن اقتراح الدارجة محل الفصحى هو اقتراح سياسي، وليس تربويا، حتى لا يذهب أحد في اتجاه أنه يريد إصلاح التعليم «، بل يريد خرق الدستور وتوريط القمة والأمة، البلاد والعباد معا... لقد حان الوقت للإقلاع عن العبث، والشروع في بلورة ووضع مقاربة « استراتيجية جديدة للاختيارات اللغوية، تراعي النظام اللغوي العالمي، تستحضر المصالح الاقتصادية الوطنية، وميول واهتمامات المواطنين المغاربة « إن حاجتنا عظمى لسياسة لغوية رشيدة وخلاقة، يشد عضدها ويقويه تخطيط لغوي، يضع على رأس أهدافه : التنقية اللغوية، ترقية اللغة، وإحياء وإجادة اللغات... لقد نجحت الثنائية اللغوية في السويد، لأنها دولة ديمقراطية اجتماعية- فعلا وقولا- أما، بالنسبة إلينا، «فالتعدد اللغوي رهان وتحد لنا، بل اختيار مصري لا محيد عنه»، وليس أمامنا غير أن نسند الأمور إلى أهلها، نعتمد على أنفسنا، نثيق في قدراتنا على الإبداع والابتكار ورفع التحدي، ثم ننخرط جميعا في استحقاق إنجاحه، بتزامن مع العناية بأساليب ومقومات التوحد والتضامن، بل بحرص قوي على إنعاشهما بمثابرة مستدامة، من جيل لآخر، وعصرا تتلوه عصور ومستجدات وأحوال. إن الأجيال المقبلة، لا ولن تقول أبدا كانت أزمنتنا رديئة، كانت ظروفنا عصيبة، كانت إمكاناتنا وإمكانياتنا ضعيفة، أو كانت الأطماع تتربص بنا... إنها ستقول، ضاربة على الطاولة- بألم وأحيانا بغضب- لماذا تقاعسوا، صمتوا، استسلموا للتبعية والتخلف والاستبداد؟ لما أورثونا كل هذا العبث والضياع؟؟؟. ... عذرا، لكن ولكم، إن تمردت العواطف ختاما. إنني أعرف وأعترف، بل واثق من أن نهر الخوض في موضوع بحجم ووزن اللغة والوطن، هو من يشق مجراه، من يختار ويحدد مصبه، وهو من يحمل صبيبه حيث حضن البحر الواسع والمعناق... حضن القراء وبحر النقد الخلاق... ...وإلى اللقاء...