هي لحظة مقتطعة من زمن النضال .. عقارب اليسار لا تتوقف من زمن الرصاص و الاستبداد في بلاد المغرب الأقصى.. اليسار مسار طويل و عميق في أجندة الوطن ، الوطن الذي صورع من أجل أن يكون ديمقراطيا و بهيا .. الفاتورة كانت ثقيلة و النتيجة مرضية في كل الأحوال.. منطق الربح و الخسارة بالمعنى الاقتصادي لا يجوز في التاريخ و السياسة .. التراكمات هي الفيصل .. استطراد لابد منه .. اللحظة المتحدث عنها ، هي تأبين مناضل رحل عنا في غفلة من الجميع حتى دون أن يودع هذا الجميع ، في الحقيقة هناك أناس لا يصدق المرء أن يد المنون قد عاجلت أرواحهم ... الطيب البوعيبي واحد من أتقياء النضال في آسفي ، من أنظف الرجال الذين تماهوا مع السؤال التقدمي و صيرورات الكفاح الوطني بحثا عن مصالحة ديمقراطية بين الدولة و المجتمع . شخص بل شخصية نذر و نذرت نفسها للدفاع عن أسئلة البلاد الكبرى ..و كان الموقع الذي اختاره لتصريف قناعاته هو موقع اليسار بامتياز و دون احتياط أو تلكؤ في تنكب قيم و مبادئ و نبل تاريخ هذا التوجه الفكري و السياسي الذي رَسَّم و بصم الإنسانية كلها .. و أنقذها من بهيمية الضوضاء و ليل الضمير البشري، كما أسماها ذات تعليق أدبي رفيع .. الروائي غارسيا ماركيز .. البوعيبي لم يكن بعيدا عن كل هذا ، فقط.. ابتعد عن دونكيشوتيات النضال كما ابتدعها و اتبعها البعض ، التصق بالواقعية في التحليل و الانتباه إلى موازين القوى في حفريات السياسة المغربية .. تخلص من الإيديولوجيا الضيقة و سافر طويلا في ثنايا السؤال .. التفكير شجاعة حقيقية كما يقال .. و هو نفس ما فعله الطيبي الذي لم يتأخر في يوم من أيام النضال عن قول ما يجب قوله ، و في نقد ما يتوجب نقده .. لقد قام بنقد ذاتي متواصل و مؤسس له في التجربة السياسية التي خاضها ، و لم يكن يجد غضاضة في التفكير بصوت مسموع ، و الاعتراف بالخطأ .. خصوصا أن السياسي الذي لا يفكر و لا يمارس و لا ينتقد .. هو بالضرورة الذي لا يخطئ ... البوعيبي في آسفي كان رفيق نضال صادق ، يطل على الأحداث من كل الزوايا و لا يخندق نفسه في زاوية ضيقة محصورة بين رجال صدقوا ما بدلوا و آخرين بدلوا تبديلا كما تقول بعض القيادات الكرطونية .. فالعبرة بالخواتم و ليس بالكلام المطلوق على العواهن .. في سنواته الأخيرة، اهتم بالحقيقة و الإنصاف و غرق حتى أخمص نضاله إن صح التعبير ، في إنجاز المصالحة التي لا تعني دائما شيك التعويض ، حمل أمراضه بصبر و طول نفس .. تكاد رجلاه لا تقويان على حمله .. و مع ذلك كان الرجل يكابر، يحضر الندوات ، يحاضر ، يكتب المقالات التحليلية ، يرد على وقائع سياسية و تاريخية عاشها أو حضرها بجانب الزعامات التاريخية و الوطنية في المقاومة و في الحياة الحزبية لأهل اليسار طبعا ... كانت آخر الكتابات الصادرة له في جريدة الاتحاد الاشتراكي التي اختار أن يحبر فيها موقفه و كلماته بكل الأناقة الفكرية.. عاش آخر أيامه مهووسا بالواقع العربي و بالداخل المغربي ، لم يؤمن قط بمقولات الربيع الذي تحول إلى حرائق في جغرافية الوطن و العالم العربي ، اعتبره دوما في كل النقاشات التي خيضت معه أو خاض فيها مجرد كذبة أمريكية أو صهيو أمريكية.. لقد كان حاسما في هذا الشأن .. عندما يغضب يرفع كلتا يديه و يركز بؤبؤ العين في الأفق.. و يمارس قلقه مثل جيل الأربعينيات الذي جرب كل شيء.. أمراضه التي لاحقته في شيخوخته ، نقلها معه من المعتقلات و من برودة الزنازن ، لم يكن ليرتاح حتى يرى حلم الدولة الديمقراطية التي يعيش فيها المغاربة سواسية بكرامة و عنفوان و عزة نفس .. كانت العدالة الاجتماعية جزءا من أهدافه الاستراتيجية التي دبجها في مفاهيم « ديمقراطية اشتراكية تحرير» .. الرجل كان ملقحا ضد النفاق و السياسي منه على الخصوص .. لا يخجل في مواجهة الخصوم و نعتهم و فضحهم بكل الأوصاف التي يحملون .. لي ليها ليها كما كان يقول .. للأسف .. كان هناك مشروع قيد التشكل .. فكرنا فيه صيف السنة الفارطة ، يتعلق بإنجاز بورتريهات سياسية مهنية عن رجالات و وجوه و معتقلي اليسار في آسفي ، عن أصفياء اليسار الذين ناضلوا في هذه المدينة .. و رحلوا في صمت .. دون أن يتذكرهم أحد.. و هي عادة رديئة آخذة في التفاقم وسط و في زحمة الحياة السياسية. مشروع أخره الموت مع الطيبي البوعيبي .. لكنه يبقى في حكم المؤجل .. لأن إنجازه تكريم لروح الرجل و احتفاء بقيمة إنسانية مرت من هنا .. اسمها البوعيبي . تأبين البوعيبي في آسفي مؤخرا ..جمع ما لا يجمع من التقدميين و اليساريين ، الاتحاديين و اليسراويين أيضا ، الحقوقيين و الصامتين الصادقين .. مر كلام كثير و قيلت عبارات عديدة تكريما لروح الرجل .. انفض الجمع .. و بقي البوعيبي راسخا بجانب شجاعة اللحظة .. جبن التحليل .. بشاعة الإحساس عندما يكون القلب مريضا.. الخبث لم يصنعه الله ليستقر في قلب الإنسان .. رحم الله البوعيبي ...