برغم كل ما قيل عن تراجع الدور الإجتماعي للشعر وانسحابه من أرض الواقع وعودته إلى عالم الذات فإن واقع النشرفي ساحة الشعر المغربي في الفترة الأخيرة ينفي هذا الزعم ، حيث تتطرق الكثير من النصوص و الدواوين الشعرية التي صدرت مؤخرا لقضايا جوهرية في حياة الإنسان و المجتمع بطرق فنية جديدة ، يمتزج فيها الذاتي و الجماعي والواقعي و التاريخي في عوالم رمزية مفتوحة على أبعاد وصورمتعددة الدلالات برؤيا شعرية مختلفة نسبيا عن الرؤيا الإجتماعية أو الواقعية التي سادت الشعر العربي و المغربي خلال السبعينيات : « تكتبك المحن « لمحمد ع. الحمري مثال لهذا المنحى (1). إلى جانب نصوص ودواوين أخرى ذات منحى إنساني وجودي و حضاري برؤى ذاتية وصوفية تعكس قلق الإنسان وتوقه إلى الحرية والجمال والصدق والسلم والتسامح والتواصل الإنساني في عصراضطراب القيم وهيمنة الآلة والقوة والمصالح المادية والتواصل الآلي : « لأفلاكه رشاقة الرغبة» لأحمد بلحاج آية وارهام (2) / «عبثا كم أريد.. « لمحمد بشكار (3) / « بلد لا أين له « و» إبر عمياء لا تخيط إلا الريح ..يليه معراج الشراب « (4) لصلاح بوسريف..على سبيل التمثيل لا الحصر . أقترح على القارئ المتتبع التوقف في هذاالمقال عند ديوان م.ع.الحمري لإبراز ما فيه من صور الضياع و الإنتكاس في الواقع المغربي والعربي الراهن ، على أن نعود في مقالات لاحقة لإنجاز قراءات في دواوين أخرى ، وخاصة المجموعة النصية التي انتقاها بوسريف من دواوينه السابقة ليقترحها على القارئ مجموعة متكاملة متعاضدة في كتاب واحد أوعلى شكل مجموعة شعرية تمثل عصارة تجربته الشعرية المفتوحة . ويمكن أن يلاحظ القارئ المهتم من القراءة الأولى للنصوص المكونة لهذه المجموعات و الدواوين أنها تشترك في ظاهرة الإحساس بالحزن و الكآبة وفي التعبيرعن حالة التردي وانهيار القيم برغم اختلافها في طبيعة الرؤيا واللغة الشعرية والأدوات الفنية الموظفة ، ما يدل على أن الشعرالراقي و الفن الراقي عامة يظل مرتبطا في عمقه بقضايا الإنسان و الحياة و الوجود مهما اختلفت و تنوعت أشكاله ورؤاه و مهما أوغل في المحلية أوالواقعية أو في الذاتية والعوالم الصوفية . تكتبك المحن : رؤيا ثلاثية الأبعاد البعد الواقعي الذي نلمسه في كثير من نصوص هذا الديوان مرتبط بالذاكرة الفردية و الجماعية ضمن رؤيا نابعة من معاناة الذات ، وضغط الأحداث والتحولات ، وتتفاعل مع رموز في التاريخ الحضاري العربي و الإسلامي وليست رؤيا واقعية مباشرة أورؤيا متفائلة كما كانت تلح على ذلك بعض أدبيات واقعية السبعينيات ..هي واقعية ضد الوهم أوضد التفاؤل الواهم . وتتميز بكون الشاعربنى عالمها الرمزي انطلاقا من ثلاث زوايا تكاملت و تعاضدت على تقديم صورة عامة عن واقع الحال العربي و المغربي : زاوية الذات : محنتك زاوية المجتمع والتاريخ : محن الآخر زاوية الحياة / الوجود / الطبيعة : محن الأشياء وقد وظف في ذلك معجما لغويا ورمزيا يهيمن فيه السواد و الكآبة وتتكرر فيه الألفاظ الدالة على الظلام في مقابل قلة أو ندرة الألفاظ الدالة على النور والإشراق : الليل الهائمون الكآبة المداد السواد الحلكة ...إلى جانب الألفاظ الدالة على الإحساس بالإنتكاس والضعف و الهوان : الرماد الحرقة الذوبان السراب العبث التعب الأسى الخراب التيه الأوهام الفراغ العطب الضياع الأسر...في نصوص متباينة البناء (18 نصا): أغلبها قصير وبعضها متوسط الطول ، تشكلها أسطر و جمل شعرية قصيرة ومتوسطة الطول أيضا، توظف الصورة و الرمز إلى جانب أسلوب الحوارو السرد أحيانا ، في تشكيلات إيقاعية تتسم بالبطء و التثاقل في تجاوب مع الحالة النفسية الحزينة التي يعبر عنها الشاعر. ويقوم عنوان الديوان على تركيب إنزياحي مفتوح على عدة قراءات و احتمالات ، وعلى عدة مخاطبين : القارئ /الشاعر/المجتمع / التاريخ ... والشاعرفي هذا الموقف لم يعد هو الذي يكتب الشعر وإنما تكتبه المحن والمآسي ، بمعنى أنها هي التي تفرض على الشاعر الكتابة تحت ضغطها وتأثيرها ... وهي أيضا التي تكتب سيرة القارئ وتاريخ المجتمع.. تعدد صور الإنتكاس و الضياع تتخلل نصوص هذا الديوان كثير من صور الضياع و السواد و الحزن و المسخ والفقد والغربة في الواقع العربي و المغربي الراهن الذي تدهورت فيه القيم الأصيلة و العلاقات الإنسانية ، وتبخرت فيه أحلام و آمال و طموحات التغييروالوحدة والتحديث والديموقراطية والحرية و التسامح والتحول نحو واقع اجتماعي و حضاري أفضل ...لأن التحول الذي حدث هو عكس تيار الثورة والتغيير المأمول : هو ذا الليل لا ينجلي بالصباح ولا يدرك الهائمون مداه جفت الصفحات و ضاعت من الكف محبرتي من تراه قد يمد الأسير مدادا يواصل في رحلة الخط نبض أساه فاستعيري رمادا أيا جمرة تنتشي الكآبة ... (الديوان ص : 9 10 ) بالفعل لم تؤد الكثير مما سمي ثورات إشتراكية وحركات قومية وانقلابات ثورية واحتجاجات اجتماعية إلى تغيير جوهري كبير في حياة الإنسان العربي أو في وعيه وقيمه الذهنية بل حدث تراجع في بعض المراحل وفي بعض الأوساط..تراجع ونكوص نحوقيم التقليد والمحافظة والجمود والتعصب ، ونحو حالة التشتت والتطرف والعنف والإغتيال ...ما دفع كثيرا من الشعراء العرب و المغاربة إلى التعبيرعن مشاعر الإحساس بالحزن و الغربة و الأسى والنظر إلى الواقع نظرة سوداوية متشحة بالأسى و الحسرة على قناعات وأوهام الماضى.. : تمتح الماء من بئر أوهامك الفارغة أنهكتك الرموز وما زلت تقرأ سفر البداية ، تطمح فك رموز الأثير تكتفي بالمداد أنيسا لتشعر أنك حي صور البعد خادعة واليقين مسافات وهم لم تحقق بحلمك يا صاحبي أي شيء... (ص : 18 ) وفي غياب قيم التجديد و الإبداع والتسامح وقيم النصر و البطولة يعود بنا الشاعرإلى التاريخ (الأندلس إشبيلية قرطبة غرناطة ...) ليستعيد بعض صورالبطولة والإبداع من خلال استحضار شخصيتي ابن تاشفين و ابن زيدون ومحاورتهما . فهو يذكرنا ضمنيا بزمن بطولات ابن تاشفين وانتصاراته في المغرب و الأندلس ، و التي ما أحوج العرب و المسلمون إليها وأخذ العبرة منها في الوقت الراهن، ويتحسرعلى تحول ضريحه إلى منفضة للشموع والتعاويذ وساحة لممارسة سلوكات معاكسة للقيم التي يرمزلها: و المرابط في حفرة للخلاء راقدا في بناء عتيق بات منفضة للشموع تباركه نسوة قد جلبن الفسوخ نسجن التعاويذ في شجر شاهد عن زمان عريق لن أعيب زماني إذا ما نساني صحابي وباني المدينة منتبذ في العراء ...( 4241) أما ابن زيدون فيمثل قيم الحب والصدق والفن والإبداع التي نفتقدها اليوم . وقد كابد بدوره محن الغدروالأسروالسجن وتعرض للتآمر ضد القيم التي يمثلها الشعروالفن : يذيبك حلم التباعد ، يرعبك السير عبر المفاوز أنت الدليل لصحبك إذ ينكرون الصداقة .. و كل ملامحك الحلم المستحيل تناشدك لتشيد من مدن الترهات حقائق حمق ، بأنك شاعر هذا الزمان وفي القيد مسكنك المتواصل فالشعر عذب ولكن صاحبه في العذاب وقالوا تمرد حين انتشى بالهوى و تملكه حب ولادة فسما ... ولكنك الآن صرت السجين ..(ص: 45 47) ... ووصلك قد يستحيل تقود خطاك إشبيلية ويظل الحنين لأنس الديار فقرطبة الحلم ، قرطبة العمر و العاصمة.. (ص: 5152) والذي صار السجين ، من الناحية الرمزية ، في عصرنا هو ما يرمز له ابن زيدون من قيم نقتقدها اليوم : الحرية الحب الصدق الإبداع التسامح... وفي مقابل صورتي ابن تاشفين وابن زيدون يكشف الشاعر، في إطارزاوية محن الآخر، عن محنة الإنسان العربي الذي يعاني حاليا العبث والخراب والقلق و الضياع : أنت لا تملك الآن غير الخراب فمالك منزعج وتخاف الرسو إلى جهة سائبة لم يكن لحياتك طعم فدع للرصيف جراحك حيث المسافة بين البقاء وبين الرحيل تمددها خطوات العبث ..(59 60 ) ولاستكمال جوانب الصورة التي يقدمها الشاعر عن الراهن العربي يقدم لنا صورا أخرى بتوظيف عناصر و عوالم الطبيعة ، من زاوية محن الأشياء ، في عدة نصوص قصيرة بعناوين مفردة : ماء موج يمام نهر مقهى قناع فضاء باب حلم أقحوان طائر ظل إناء ...يجسد من خلالها حالة النكوص و الإنتكاس و التراجع ، بتراكيب وصور رمزية تقوم على الإنزياح و توظف السرد أحيانا بضمائر متباينة ، كما أشرنا سابقا :« الماء يلتوي ألما كالجريح » «لم يعد للمكان مكان « الفضاء حزين « « لم يعد لك باب » إنك الآن لا ظل لك « «يشرب النهر أوجاعه » : قطرة قطرة يشرب النهر أوجاعه سكنت عمقه الأتربة ألفته المواشي لتركن فيه أنت لن تستحم فيه مرتين فقد جف ماء وكف عطاه و امتطاه الطريق ربما مطر عابر قد يعيد الحياة إليه ( ص: 69 ) فالشاعر هنا لا يصف نهرا حقيقيا في الطبيعة وإنما يعني رمزيا نهر الحياة ونهرالتاريخ و الوطن الذي أصيب بالجفاف و الجمود وملأته أتربة الهزائم والإنتكاسات وغابت عنه حركة مياه التغيير والخصوبة ...وهذا يذكرنا على مستوى التناص بقصيدة « النهر المتجمد « الشهيرة لميخائيل نعيمة ، و بقصيدة أحمد المجاطي» قراءة في مرآة النهر المتجمد « اللتين يتقاطع معهما دلاليا، في هذا السياق ، نص الحمري هذا : «نهر » . الخلاصة أن ميزة نصوص هذا الديوان تكمن في أنها تجسد بصدق الواقع الحالي للإنسان العربي بما يعتريه من نكوص وتردي و اضطراب ، وتعبر عن محنه ومعاناته دون تزييف أو تمحل أو تفاؤل واهم ، في تشكيلات لغوية انزياحية وسردية وصوررمزية ذات غموض شفاف وعلاقات تناصية متعددة الدلالات ، ضمن رؤيا شعرية متعددة الزوايا ، ترتبط بالذات و الواقع وتحاور التاريخ والطبيعة . هوامش : 1 صدر بالدار البيضاء مطبعة أباجيد ط1/ 2013 2 صدرضمن منشورات بيت الشعرفي المغرب ط1 / 2013 3 صدر ضمن منشورات دار توبقال بالبيضاء ط1 / 2013 4 صدرا معا عن دار التوحيدي بالرباط ط1/ 2014: