برحيل الروائي والصحفي والأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز أو "غابو"، كما يطلق عليه زملاؤه وأصدقاؤه، يكون المشهد الإبداعي الأدبي العالمي فقد أحد رواد الواقعية السحرية، حيث يمتزج في رواياته الخيال بالواقع في إطار تركيبة ثرية قل نظيرها. وغادر "غابو"، الذي يعد من أعظم مؤلفي اللغة الإسبانية قاطبة ومن أشهر رواياته "مائة عام من العزلة"، الحياة بعدما اختار العزلة طواعية في أواخر أيامه، حيث لم يظهر في لقاءات عامة إلا مرات قليلة، بسبب مرض أصابه في الأعوام الأخيرة. وخلف رحيل هذا الكاتب الكبير المسكون بالحب والجمال، والذي لم ينشر عملا جديدا منذ أعوام عديدة، حزنا عميقا في نفوس محبيه وأصدقائه، وهو الذي أدخل القراء عبر أعماله الروائية في عالم مترع بسحر الأدب، إذ يراوح بين ذلك الخيط الرفيع من الواقع والخيال المدهش. إن مقولة "الحب في كل زمان ومكان ولكنه يزداد كثافة كلما اقترب من الموت ! "، التي تعتبر الفكرة الرئيسية لراويته "حب في زمن الكوليرا"، تجسد أبلغ تعبير عن حالة الحزن التي خلفها رحيله في نفوس محبيه وأصدقائه وعائلته. ومع صاحب "قصة موت معلن"، الذي ولد في 6 مارس 1927 في أراكاتكا بكولومبيا، وهي قرية نائية في منطقة البحر الكاريبي، يلج القارئ فضاءات أدبية سحرية تعلو فوق الزمان والمكان، لتلامس أفقا إنسانيا رحبا في نصوص حبلى بغرائب الواقع، والمشاعر المتدفقة والمفاجآت الكثيرة والشخصيات المتنوعة. وقد رثاه الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس، عبر تغريدة على الموقع الاجتماعي (تويتر) قال فيها إن "العظماء لا يموتون أبدا". أما الرئيس المكسيكي إنريكي بينيا نييتو فقد وصفه بأنه "واحد من أعظم الكتاب في عصرنا"، مبرزا أنه "عبر أعماله، قدم غارسيا ماركيز للعالم الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية". وعلق قائلا "ولد في كولومبيا، وجعل من المكسيك على مدى عقود منزله، وبالتالي فقد قام بإثراء حياتنا الوطنية. لترقد في سلام". وكان غابرييل غارسيا ماركيز، الذي حصل على جائزة نوبل سنة 1982، متيما بفكرة الكتابة ولكنها لم تكن بغرض تناول الأدب التقليدي، بل كانت على نمط مماثل للقصص التي كانت ترويها له جدته، حيث تتداخل الأحداث غير النمطية وغير العادية كما لو كانت مجرد جانب من جوانب الحياة اليومية. وتلقى غارسيا أولى دراساته في مدرسة مونتيسوري بأراكاتكا، بعد ذلك ولج مدرسة سان خوسيه في بارانكيا والثانوية الوطنية سيباكيرا، حيث بدأ في تلك المرحلة يكتب القصائد. وبعد ذلك درس القانون، ولكن نشره لبعض قصصه في الصحف الكولومبية جعله يقرر العمل في مجال الصحافة والأدب بعد أن أكسبته أنشطته الكثير من الاستحسان. وجاء تكريس غارسيا ككاتب متميز مع نشر "مائة عام من العزلة" سنة 1967، التي تعتبر واحدة من أهم الروايات في الأدب العالمي في القرن العشرين، والأكثر قراءة وإعجابا ضمن مجموعته، وبيع منها أكثر من 10 ملايين نسخة، والتي تروي قصة قرية معزولة في أمريكا الجنوبية تحدث فيها أحداث غريبة. وعن ميوله للكتابة، يروي غابو في كتابه (عشت لأروي) "يقولون إنه يمكن لك، إذا ما صممت، أن تصير كاتبا جيدا. لم أكن قد سمعت مثل ذلك الكلام، من قبل، في الأسرة قط. فميولي منذ الطفولة، كانت تتيح الافتراض بأنني قد أصير رساما، موسيقيا، أو شاعرا جوالا في أيام الآحاد. وكنت قد اكتشفت ميلا معروفا لدى الجميع، إلى أسلوب في الكتابة، أقرب إلى التلوي والرقة الأثيرية. ولكن رد فعلي في هذه المرة، كان أقرب إلى المفاجأة. فقد أجبت أمي: إذا كان علي أن أصير كاتبا، فلا بد لي من أن أكون أحد الكبار". ولا شك أن غارسيا يعتبر من كبار الأدباء والروائيين العالميين لما خلفه من أعمال مشهورة مثل (خريف البطريرك) عام 1975، و(وقائع موت معلن) عام 1981، و(الحب في زمن الكوليرا) عام 1986، فضلا عن إصداره مذكراته في كتابه (عشت لأروي)، وكتاب (ذكرى عاهراتي الحزينات). وبعد أن اكتشف ماركيز مرضه بسرطان الغدد اللمفاوية قرر الاعتزال إعلاميا، وفي سنة 2002، قام بنشر كتابه "عشت لأروي"، المجلد الأول لثلاثية مذكراته. وكتب المؤلف جيرالد مارتن، في مقدمة كتابه (سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز)، "وحتى عندما تكون متأكدا من أن أي حكاية تستند إلى شيء ما حدث حقا، فإنك لا تزال غير قادر على اختزاله إلى شكل واحد لأنك ستجد أنه ذكر - يقصد ماركيز - معظم القصص المشهورة عن حياته بأنماط متعددة ومتباينة، يحوي كل نمط منها جانبا من الحقيقة".