" كانت إيرينديرا تحمم جدتها حين هبت ريح شقائها " هكذا تبتدئ رواية " إيرينديرا البريئة " للكاتب العالمي غابرييل غارسيا ماركيز ، فاسحة المجال نحو أفق تطلع مفتوح يمكن معه للقارئ أن يرسم نهايات متعددة وفق ما توجه له حالته النفسية و كذا سعة خياله ، تحكي الرواية قصة فتاة قاصر تعيش رفقة جدتها المتسلطة ، هذه الأخيرة تمارس قسوة زائدة عن اللزوم على حفيدتها إيرينديرا ، و التي حدث أن نشب مرة حريق مهول بالخيمة التي تقيم فيها مع جدتها مما أتى على كل ما تملكه الجدة و حفيدتها ، فكان أن قررت الجدة جر حفيدتها لامتهان البغاء حتى تتمكن من تسديد ما خلفه الحريق من خسائر ، و منذ تلك اللحظة و إيرينديرا تعيش حياة شقاء و تعاسة ، تتوزع بين تلبية رغبات طابور طويل يصطف كل يوم أما الخيمة ، مقدمة لهم خدمات جنسية بأثمان تقديرية تبث في قيمتها جدتها التي أصبحت لها مهام المشرف عل تنظيم لقاءات المتعة الجنسية هذه ، يساعدها في ذالك بعض الهنود الذين استعبدتهم الجدة بأثمان زهيدة ، و فوق ذالك و كلما نحت الشمس نحو المغيب ، و انتهت إيرينديرا من خدمة زبناء المتعة ، إلا و طلبت منها جدتها القيام بأعمال منزلية عديدة من طبخ و غسيل و تنظيف علاوة على تحميم جدتها ذات الجثة الضخمة . تعرفت إيرينديرا على شاب هولندي في مقتبل العمر كان يعمل رفقة والده مهربا للحلي ، و معه بدأت تنسج خيوط علاقة غرامية ستقرر معها و معه مرة الهرب خارج حدود الوطن ، لتبوء المحاولة بالفشل و تعود إيرينديرا للخدمة الجنسية ، لكن هذه المرة مكبلة بسلسلة حديدية مع سريرها حتى لا تفكر في الهرب مرة أخرى . و بين الممارسات الوحشية للزبائن الجشعين وهول العيش في كنف الجدة القاسية تنموا إيرينديرا شكلا و جوهرا ، و ينموا معها في المقابل حب الفتى الهولندي و الرغبة من الإنعتاق و مطالعة شمس الحرية ، الأمر الذي لن يتأتى إلا بقتل الجدة و هو ما ستقدم عليه إيرينديرا و الشاب الهولندي ، لكنها و بعدما رأت جدتها غارقة في دماء موتها الناجم عن طعنات الشاب القاسية ، هربت مسرعة في اتجاه الشاطئ و بعدها غابت عن الأنظار ، لتنتهي الرواية مستفسرة عن المآل كما صوره غارسيا ماركيز بقوله أنه لم يعرف لإيرينديرا أثر بعد ذالك . تندرج هذه الرواية ضمن ما يعرف بالرواية القصيرة و هي شكل نثري و روائي تحديدا يقتصر على شخوص و فضاءات و أحداث محدودة ، لكنه يمتز بغنى المواقف الإنسانية و بجمالية الحكي النابعة من قوة الاختزال و عناصر التكثيف ، علاوة على اعتماد هذا الصنف من الرواية على القصة الواحدة دون تعدد القصص كما هو الشأن بالنسبة للرواية الطويلة ، و قد اعتمد غارسيا ماركيز هذا الشكل في روايات أخرى نذكر من بينها الرواية التي صدرت له سنة 2004 ( ذكرى عاهراتي الحزينات ) . على المستوى الفني تطبع الرواية كباقي أعمال غابرييل غارسيا ماركيز ، خاصية الواقعية السحرية ، و هي التقليد الأدبي الذي دأب ماركيز الكتابة وفقه ، سيما و أنه يعد رائد المدرسة الواقعية السحرية التي تشتهر بها الأعمال الأدبية بأميركا اللاتينية . مرة أخرى و كعادته يأبى غابرييل غارسيا ماركيز إلا أن يكون متميزا ، في كتاباته و اختياره للمواضيع ، فبعد قصة الحياة و النشوء و نهاية العالم التي تضمنتها رائعته العالمية " مئة عام من العزلة " ، و بعد قصة الحب و الموت كما جسدتها رواية " الحب في زمن الكوليرا " ، هذه المرة كان الموعد مع قصة الطفولة و براءة المرحلة الصبيانية ، و مدى الجرم الذي يعترضها وسط مجتمع يقدس اللحظة الذاتية على حساب لحظات الأخريين . غارسيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب عن مجمل أعماله مع التنويه الخاص الذي حظيت به رواية " مئة عام من العزلة " ، قرر مؤخرا و تحت وقع المرض و بلوغه من الكبر عتيا ، التوقف عن الكتابة خاتما مساره بالسيرة الذاتية الرائعة التي بيع منه الملايين و التي اختر لها كعنوان " عشت لأرو ي" . نعم غابرييل غارسيا ماركيز ما عشت إلا لتروي ، في ظروفك الصحية الحرجة الآن لا يسعنا إلا أن نتمنى لك صحة جيدة و بقية في العمر ، لأنه بعد الموت لن تروي ، ساعتها سنشتق للرواية .