يعتقد رئيس الحكومة الحالية، إن لم يكن يتوهم فقط، أن كل ما يقال ويكتب موجه ضده أو ضد »تجربته« من منظور أنه يمثل طرازا ما في نسق سياسي غير مألوف، وهذا في تقديرنا صحيح وغير صحيح في نفس الوقت وعلى رئيس الحكومة ألا يغضب وألا يضجر وألا يفزع، لأن السياق السياسي العام، في العام أجمع، لم يكن منتظرا فيه أن تقبل الشعوب، كما الأنظمة نسبيا، على نسق غير وارد داخل سياقات واردة بحكم التغير لا التطور في تصور السياسة وفق رؤية للعالم جاهزة، أساسها الخلط بين ما لا يمكن أن يدرك إلا في الأذهان وبين ما تتطلبه الضرورة ويستدرجه الإمكان، مشروطا (مشروطين) بما هو عليه التدبير في مواجهة ما تفرضه حياة الإنسان على الأرض وفي الواقع بحسبان. ولأن هذا الأمر لا يستقيم في أي معادلة، كيفما كانت، فإن من المستحيل، من المستحيل جدا جدا، أن يتحقق أي فهم لمعادلة السلطة والحكم ومعادلة الديموقراطيةالمفترضة التي تجد كفايتها في إحراز قصب السبق وحده عن طريق الاقتراع والتحالف والأغلبية، ثم الترميق أو الرنق بالكامل بتقديم صورة وصفة منمقة لمشروع سياسي أفقي موغل في طوباوية غير بعيدة عن ثلاثية «»الغول والعنقاء والخل الوفي« «بين المكونات، بوجودها حتى بغير ذلك، لكأنها من جهة تنحل مما ليس بمرجعية وقتية قابلة للنقد والمراجعة والمقارنة ثم التجاوز والقطيعة حتى، ليس القطيعة بين المكونات، فهذا أمر وارد، بل القطيعة مع النهج المفترى عليه أصلا، ولأنها - من جهة ثانية - مجرد تهويم في المطلق، أي في الهباء، وهذا هو مصدر الخلل الجلل: من الخيمة خرج عوج«. لا أحد في المغرب يقف في وجه أحد (شخص) أو حزب أو نقابة أو جمعية يريد/تريد السعي إلى نهضة البلد وتقدمه وتطوره وازدهاره ونموه وتنميته. هذه حقيقة موضوعية وقناعة جدلية، لا غنى عنها في المساءلة والنقاش والتنوير والاقتناع، لكن مقابل ذلك لا يمكن أن نسلم بكل شيء لأجل لا شيء وإلا فقدنا روح معادلة الديموقراطية، أي المحاسبة الناضجة التي تعني، من بين ما تعنيه، عدم التلفيق والمزايدة، كما تعني منافرة التأليف وتعني إقبار خطاب النفخ في ما لا يزيد عن حد القول بأن ما يقع هو الذي كان ينبغي أن يقع لأنه مسطر من باب الجبر، في حين أنه مجرد اختبار لمنزع مطمور في الوجدان أكثر من الأذهان وتنقصه موازين المعقولية. جاءت بذلك الصناديق، نعم، لا الحتمية التاريخية لصيرورة سياسية، كما جاءت به الغفلة أحيانا والاحتباس أحيانا، وكذلك الاستنكاف في الغالب أو »المعاقبة«، معاقبة طرف على حساب طرف في المطلق أيضا إلى جانب عوائق المجال السياسي والأفكار والبرامج والمخططات مع تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والأمنية وكثرة الوعس. هذا ما لا يريد السيد رئيس الحكومة أن يفهمه ويستوعبه. أما ما يقوله و/أو »يفعله« (بالمعنى الأرسطي)، فذلك هو، إلى جانب وزرائه، حر فيه وحر في أن يتبنى النموذج الذي يروق له ويرضاه، لكن (لابد من لكن) ليس من حقه أن يفرضه على الناس، نيئا أو مطبوخا، لأن النموذج نفسه لا هو بنموذج واضح المعالم، لذلك لم يتحقق ولن يتحقق كما ارتآه، بل هو نموذج لا وجود له أصلا إلا في التوهم، وبما أنه كذلك لا حجة له سواء كشف أم لم يكشف عنه لأنه غير قابل للرصد والمعاينة والتشخيص، بل إن هذا النموذج وهذا معطى آخر، عصي على التحقق بحكم متغيرات الزمن والتاريخ والعقل وتطور آليات الانتماء الى حيز الوجود البشري في القوانين والحقوق والحرية، واكتساب المعرفة والتعليم والترقي والتعليم والعمل والاقتصاد والعمران، خاصة العمران (بالمعنى الخلدوني الذي يتجاهله الجميع في العالم العربي)، دون أن نغفل شرط المواطنة وشرط الحد اثة، أو التحديث على الأقل، لأن الحداثة قائمة وحتى إذا لم توجد بالفعل فإنها توجد بالقوة، ولا يملك أحد سلطة الحد منها أو زجرها أو إقصائها لأنها كالدم في الوريد. السي بنكيران، الله يحفظو ويخرجو من دار العيب بلا عيب، يترك كل هذا خلفه ولا ينصت إلى إيقاع حياة الناس، عامة وخاصة ويكتفي بشرط أنه هو وليس غيره وكأني به يستطيب عذاب الناس يتحسرون، لا عليه وإنما على ما كانوا ينتظرون، لا منه، بل من مشروعه ومشروع حزبه لاستعادة بعض الوهج والفرح وهم مطمئنون في أسرهم وعملهم ومدنهم وقراهم ومدارسهم وجامعاتهم ومعاملهم، ومصانعهم وحقولهم ومزارعهم ومستشفياتهم، لهم واجباتهم، لكن لهم حقوقهم أيضا: ألم يحن الوقت للحد من المثبطات والكشف عن العوائق والعجز؟ ألا يستحق المغاربة بعض الأمل والكثير من الرأفة وما لا حد له من الوضوح ومن الشفافية! أهذه هي الحكمة والسياسة والديموقراطية؟ هي أسئلة، مجرد أسئلة، لن ترضي السيد رئيس الحكومة، لكن من حقنا أن نطرحها ونطرح غيرها وإلا سقطنا في شرك الغياب ومهانة السكونية والتحليق فوق عش الكوكو.« نطرحها ونطرح غيرها ونحن نكابد ما نكابد من عثرات اليومي، من الفجر إلى الإياب: لا أمن، ارتفاع الأسعار، الفقر والمرض والعجز، كلفة المعيشة، تفكك التعليم، الفساد الإداري، تزايد الجريمة، استفحال العنف والسرقة، تخريب المدن وخراب الهوامش، الحرمان والتسول، البطالة والعطالة، النزق التلفزي، إفلاس نظم التقاعد، تهافت البرلمان وهلم جرا: ألا يكفي هذا؟ ألا يكفي للقول: »ماهكذا تورد يا سعد الإبل« (وهو من الرجز، شطره الأول: »أوردها سعدٌ، وسعد مشتملِْ، يضرب لمن قصّر في الأر وصار مثلا لكل من عمل عملا لم يحكمه)، خاصة بعد حوادث مثل حادثة الشوكولاطة وحادثة روبي وها هي حادثة »»التقرير« «الأملس. ما أحوج الجميع إلى وقفة تأمل، بلا عقدة، بلا لف ولا دوان. ما أحوجنا إلى النضج لنفهم »حالتنا ونحن نتراجع ولا ندرك الخلل. ما أحوجنا الى الكشف عن أخطائنا ومساوئنا ومراجعة ورقة طريقنا حتى لا نشمت بأنفسنا قبل الآخر. ما أحوجنا إلى رئيس حكومة ينصت ويدرك ويتفهم ويخطط قبل أن »يفعل (بالمعنى الأرسطي دائما) تفاديا للارتجال وتجنبا لإثارة الزوابع: الأمر لا يتعلق بفشل النموذج، بل بفشل أنموذج أو شبه نموذج، ويتعلق بتخبط برنامج حكومي نظرا لغياب شروط الإنجاز وغياب أرضية محددة المعالم والتوجهات في تصور وتوفير الإمكانات الآليات والتقديرات ، بعيدا عن النوازع ودوامة الأهواء وعقلية الاسترضاء. السياسة في هذا الباب ليست حرفة كما يريدها البعض، وليست هواية كما يريد طرف ثان. إنها خبرة وتجربة قبل أي ممارسة ميدانية يكتفى بها بالأوراق الحمراء والأشواط الإضافية أو» بدل الضائع»« وطيها - السياسة - تتفاعل القيم والأخلاق مثلما العسل والرحيق، والزيت والزيتون، والخبز والطحين قبل العجين، ومثلما الروح في الجسد والعقل في المخ. السياسة عقل وليست اعتقالا لمجموعة بشرية في لحظات مترددة بين غيث لا يأتي وجلاء لا يمضي أو يفضي ويظل معلقا في سديم الزمن والقلق بينما القطين «أزعجتهم نوى في صرفها غيرُ» ما العمل؟ لا نملك جوابا إننا نملك سؤالا، نملك أسئلة ومن حقنا أن نعلم إلى أين نسير؟ إلى أين نسير بكل هذا الزخم من الالتباس الذ يحيط بنا في دوائر مغلقة؟ لا يهمنا من سيمضي ومن سيبقى في الحكومة أو في البرلمان. لا يهمنا تبادل الاتهامات بين طرف وطرف. لا تمهنا التصريحات والاستفزازات والأقوال النابية المخلة، لكن تهمنا نهضة المغرب، منعة المغرب، قوة المغرب تهمنا سعادة المغاربة، يهمنا أمنهم وأمانهم، تهمنا راحتهم.