كان رايمون آرون مؤرخا أكاديميا متمكنا تنظيرا وممارسة وكانت روحه العلمية وانتماؤه العضوي وحاسته النقدية تساعده في فهم ما يجري داخل التاريخ أو ما يكتب فيه وعنه وما يخطط فيه. ولهذا كان يقول أنه كلما تواترت مذكرات الساسة وقواد الحرب والأمراء وكتبة البلاطات, فثمة شيطان يرسم التفاصيل خلف ستار. يقول آرون أن هناك تاريخان، التاريخ الذي مضى والتاريخ الذي يجري, ويعتبر الأول إكسيرا وبوصلة للثاني، معتبرا كذلك أن توجه هؤلاء لإعادة قراءة التاريخ الذي مضى امتلاك للتاريخ الراهن وتوجيه له. لكن لماذا يستكثر آرون عن هؤلاء كتابة مذكراتهم وتواريخهم؟ ألا يحق لأي كان في الخوض في التاريخ؟ كان آرون يعتبر كتابة التاريخ مسألة مبدأ، فالتاريخ عنده لا يكتبه إلا صانعوه، كان آرون يسميهم »المؤمنون« بالقضية وبالروح المطلق للتاريخ. إن من يحق لهم كتابة التاريخ حسب آرون هن النساء والأمهات اللواتي يعجن الخبز في زمن الحرب والطاعون والوباء، والجنود الذين رسموا أجمل البطولات الممزوجة بعبق الدم والتراب في الحرب، والأطباء والمسعفات الذين تطوعوا في المعارك والذين تطوعوا لترميم نفسيات الأطفال والأرامل العجزة، والمدرسات والمدرسين الذين دافعوا من أجل رفع الحماسة وتمثين قيم الوطن والتراب في زمن الهروب الكبير والساسة الشهداء الذين قدموا أرواحهم فداء للوطن زمن الحرب وزمن الاستبداد. آرون يعتبر قواد الحرب وكتبة البلاطات وساسة الحاكم جوهر الاستبداد. إن مناسبة هذا التذكير هو »تطوع« ساسة الحاكم وقواد الحرب وكتبة البلاطات لإعادة كتابة شعب ما، ووطن ما. وعندما يكتب المحجوبي أحرضان القائد في جيوش الاحتلال الفرنسي ووزير الدفاع وعامل المخزن عن تاريخ المغرب, فهو يقوم بمهمة لفائدة الشيطان الذي يريد امتلاك التاريخ وتوجيهه, والحال أن تحرك الكتبة لنصرة مهمة القائد أحرضان يؤكد سيناريو عميق بتفاصيل وأفق أعمق. وعندما يقدم الإعلام القائد احرضان كقديس, كان قلبه على الوطن يكون الهدف واضحا: دفع الصانعين الحقيقيين للتاريخ خارج التاريخ ودفع بطولاتهم وأفكارهم وخصالهم خارج التاريخ، إنه سيناريو يسعى لتأبيد التسلط والتقليد والاستبداد بحرمان التاريخ من اكسير العقل وكيمياء الحداثة التي يصنعها الصانعون الحقيقيون للتاريخ والحال أن الحركة الوطنية والحركة الاتحادية وراءها صانعون حقيقيون لتاريخ المغرب. كان بروديل مؤرخا متحفظا جدا وحذرا جدا، كان منهجه صارم، وكلما بدأ مجتمع الاستهلاك في استهلاك مذكرات قائد حرب أو سياسي غير نزيه، يدخل رحلة صمت علمي، وعندما يقرر الكتابة لا يكتب من أجل التكذيب أو نصرة التاريخ الحقيقي. كان بروديل يذهب إلى تفكيك منهج كاتب المذكرات، فإن كان منهجه متماسكا وعلميا اعتبر محاولته إغناء لمتن التاريخ، وإن كان منهجه متهافتا صنفه أحد أدعائي التاريخ. والحال أن منهج القايد أحرضان وكتبة البلاط دائما يكون متهافتا، فهو اختزالي وانتقائي، وانطباعي وتلقائي وعفوي، ولا يضع مسافة الحياد الكافية بين الذات والموضوع، ومنطلقاته غير واضحة إن لم تكن غير بريئة. أدعياء التاريخ ليسوا ممن يشترط فيهم رايمون آرون أن يكونوا »كأية آلة تصوير تنقل تماما ما جرى من أحداث» دون مساحيق ودون تلوين ودون نيات مسبقة وأحكام جاهزة. القايد المحجوبي أحرضان لا يكتب تاريخا، إنه يكتب تاريخا معينا. وتلك حكاية الأدعياء في التاريخ ومتبنيه.