الحكومة تعلن عزمها توظيف 1840 عونا إداريا ناطقا بالأمازيغية هذا العام    طقس الثلاثاء: أجواء باردة مع صقيع محلي بعدد من المناطق    ترامب يقيل 4 مسؤولين حكوميين    القارة العجوز ديموغرافيا ، هل تنتقل إلى العجز الحضاري مع رئاسة ترامب لأمريكا … ؟    ترامب يأمر بالانسحاب من اتفاقية باريس    ياسين العرود: قائدٌ واعدٌ لرؤية اقتصادية جديدة في شمال المغرب    اختتام ملتقى الدراسات بالخارج وممثلو الجامعات والمعاهد.. يؤكدون نجاح الدورة الثالثة    أمريكا تغادر اتفاقية باريس للمناخ    روبيو وزيرا لخارجية الولايات المتحدة    أخنوش يترأس افتتاح مصنع جديد لمجموعة ليوني    توقيع بروتوكول لإنشاء ميناء جاف بأكادير لتعزيز البنية اللوجستية بجهة سوس ماسة    عجز الميزانية يواصل "المنحى التنازلي"    العمراني يحضر حفل تنصيب ترامب    توفير 2373 عونا ناطقا باللغة الأمازيغية بتعبيراتها الثلاث في متم سنة 2025    باكستان تبحث تعزيز التعاون الأمني مع المغرب في مكافحة الإرهاب    اتخاذ تدابير عملية لمواجهة موجة البرد بإقليم شفشاون    ترامب: الحقبة الذهبية لأميركا "بدأت للتو".. سنوقف الحروب وسأكون صانع السلام    ملفات أمنية تجمع حموشي والشودري    بريد المغرب يعزز دوره كرائد في الثقة الرقمية بالمغرب بحصوله على اعتماد من المديرية العامة لأمن نظم المعلومات    الوالي التازي: "أمانديس" ستواصل خدماتها إلى نهاية 2026.. والشركة الجهوية تبدأ التدبير التدريجي ابتداءً من 2025    السياحة الداخلية.. تسجيل 8.5 مليون ليلة مبيت بالفنادق المصنفة خلال سنة 2024    لمواجهة آثار التقلبات المناخية.. عامل إقليم الحسيمة يترأس أشغال لجنة اليقظة والتتبع    فضيل يصدر أغنيته الجديدة "فاتي" بستايل رومانسي رفقة سكينة كلامور    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    موعد رحيل "مكتب هالا" عن الرجاء    اتحاد نسائي: تعديلات المدونة مخيبة    وزير الفلاحة: نعمل على إحصاء القطيع الوطني وإيجاد حلول للإنتاج    برنامج يواكب الفلاحين بالجنوب الشرقي    مأساة مؤلمة: رضيع اليوتيوبر "عبير" يلحق بوالدته بعد عشرة أيام فقط من وفاتها    الناظور تحتضن بطولة للملاكمة تجمع الرياضة والثقافة في احتفال بالسنة الأمازيغية    الوزير بنسعيد يعلن عن تعميم خدمات جواز الشباب على الصعيد الوطني    عمر نجيب يكتب: غزة أثبتت للعالم أنها قادرة على تحمل الحرب الشاملة وعدم التزحزح عن الأرض..    الفريق أول المفتش العام للقوات المسلحة الملكية والسيد لوديي يستقبلان رئيس أركان القوات المسلحة بجمهورية إفريقيا الوسطى    إعادة انتخاب فلورينتينو بيريس رئيسا لريال مدريد    الأرصاد الجوية تحذر من رياح قوية    الكشف عن عرض فيلم اللؤلؤة السوداء للمخرج أيوب قنير    إضراب الأطباء بالمستشفى الحسني بالناظور لمدة 5 أيام    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. 116 وفاة و25 ألف إصابة ودعوات لتحرك عاجل    أغنية «ولاء» للفنان عبد الله الراني ..صوت الصحراء ينطق بالإيقاع والكلمات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ترامب يستعد لتسلم مهامه ويصبح الرئيس الأمريكي الأكبر سنا لحظة دخوله البيت الأبيض    نهضة بركان تنهي دور المجموعات باكتساح شباك ستيلينبوش بخماسية نظيفة    المنتج عبد الحق مبشور في ذمة الله    تنظيم أول دورة من مهرجان السينما والتاريخ بمراكش    أنت تسأل وغزة تجيب..    ابتسام الجرايدي تتألق في الدوري السعودي للسيدات وتدخل التشكيلة المثالية للجولة 11    عبوب زكرياء يقدم استقالته بعد خسارة الدفاع الحسني الجديدي أمام الوداد    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    منها ذهبية واحدة.. جيدو المغرب يحرز 11 ميدالية    إسرائيل تفرج عن 90 معتقلا فلسطينيا ضمن المرحلة الأولى من صفقة التبادل مع حماس    إبداع النساء المغربيات في أطباق البسطيلة المغربية يبهر العالم    فريق كوري يبتكر شبكة عصبية لقراءة نوايا البشر من موجات الدماغ    إسدال الستار على فعاليات الدورة ال3 من المهرجان المغربي للموسيقى الأندلسية    الجزائر.. فيروس ينتشر ويملأ مستشفيات البلاد بالمرضى    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن رواية «طائر أزرق نادر يحلق معي» ليوسف فاضل ..البناء الروائي ومستويات اللغة

هذه هي الرّواية التاسعة للكاتب والروائي يوسف فاضل. وهي رواية وصلت، كما نعلم، إلى القائمة القصيرة ضمن الروايات المرشحة للحصول على جائزة بوكر Booker للرواية العربية برسم سنة 2014، والتي نتمنى أن تكون من نصيب الصديق يوسف.
كثيرون همُ الذين كتبوا عن الماضي كذاكرة للحاضر، والذين دوّنوا شهاداتهم عن ظروف الاعتقال وما تعرضوا له من شتى أنواع التعذيب طيلة سنوات، الرايس، بنبين، المرزوقي، إبراهيم لهلالي، أحمد بنمنصور الخ، كما كتبت النساء شهاداتهنّ، معتقلات أو غير معتقلات، فاطنة البيه، فاطمة وسكينة ومليكة أوفقير، حليمة زين العابدين، ربيعة بنونة، دورْ كريستين السرفاتي. غيْر أنّ الأمر في «طائر أزرق نادريحلّق معي» مختلف تماما. فلا يتعلق الأمر لا بتقديم شهادة شخصية أو غيرية، ولا بتسجيلٍ أو تأريخٍ لمرحلة الاعتقال السياسي في المغرب، رغم وجود الخلفية التاريخية لهذه المرحلة. ومن ثمّ، فإنّ الرواية، بدلا من تركيزها على الانقلاب الثاني، 16 غشت 1972، ومعاناة أصحابه المعتقيلن، فإنه تتبع رحلة البحث التي تقوم بها زينة، زوجة عزيز، بعد عشرين عاماً من اختفائه. وعن طريق تقنية تعدّد الأصوات يقدم لنا السارد تفاصيل حياة عزيز وزينة، وجانباً من واقع السجن والسجانين الذين لا همّ لهم سوى انتظار أن تَزهقَ روحُ السجين كما ينفق الحيوان في صيف مجدب، بعد أن يمنعوا عنه الأكل والشرب، لكي يحفروا له حفرة ويرموه بين أكوام العظام الأخرى.
لقد كتب يوسف بالاعتقال وليس عنه، لأنّ الرواية تتحدث عن حياة الناس وعن تفاصيلهم الصغرى. لا يهمّ إن كانوا قد وجدوا بالفعل أم لا، المهمّ هو تلك الثقوب الحياتية التي ملأتها الرّواية، ثقوبُ شخوص دخلوا منطقة البوْح والاعتراف. وبالتالي فالحقيقة توجد في هذه الثقوب، في الهوامش. هذا الهامش الذي يتجلى حتى في اختيار فضاءات الكتابة الروائية ولغات الفئات الشعبية الجريئة. وهو فضاء غير مألوف في الكتابات الروائية المغربية التي تركز في الغالب على المدن الكبرى ولا تولي كبير أهمية لمثل هذه الفضاءات التي تعيش على الهامش (تنغير في «مترو محال).
البناء الروائي
تنقسم الرواية إلى 21 فصلا هي عبارة عن مرويات الشخوص الستة التي تتناوب على عملية السرد. ويتضح من خلال هذه العملية أنّ مجموع روايات زينة هي 5 روايات، وعزيز: 8 ، وبنغازي: 3، وبابا علي: 2 والكلبةهندة: 3، وفتيخة: 1.
ومن خلال قراءة أوّلية لروايات الشخصيات الرئيسية، يتبيّن أنّ زمن الحكْي، في جميع الفصول، محدد بالساعة، باستثناء ثلاثة منها: الفصل السابع والثامن والتاسع، حيثُ نجد تحديدا أكثر دقّة: رواية ختيمة تُحدّد المكان: حيّ العقبة بآزرو، والتاريخ: الأربعاء 3 أبريل 1972. رواية عزيز يضاف إليها الشهر يناير، والسنة 1972، وكان عمره 27 سنة، حيث يستعيد عزيز نفس أحداث الفصل السابق، عن القوّاد، لكن من زاويته هو وليس من زاوية ختيمة. أما في رواية زينة في الفصل الموالي، فيضاف إلى السنة، 1972، تحديدا أدقّ: 15 غشت 1972، ثم في الفصل نفسه يوم 16 غشت من السنة نفسها، وهو يوم الانقلاب العسكري الثاني الذي هاجمت خلاله ستّ طائرات حربية من طراز إف 5 ، انطلاقا من قاعدة القنيطرة الجوية الطائرة الملكية القادمة من فرنسا.
لهذا التدقيق الزّمني دلالته وأهميته التأشيرية: فاليوم الموالي ل 3 أبريل 1972، هو اليوم الذي تواجد فيه عزيز الطّيّار ببار «اللقْلاق» بآزرو، ورأى كيف أراد القوّاد جوجو إجبار الفتاة الشابة زينة، أخت ختيمة، على الجلوس إلى طاولة أحد الزّبناء وإرْغامها على الدخول عالَم الدّعارة قائلا «هابْلاصتك». ساعتها لم يتحرّك أي أحد باستثناء عزيز الذي ضرب جوجو بقوّة وأبعده عن الفتاة التي سيُغرم بها وتغرم به.
أما يوم الثلاثاء 15 غشت من السنة نفسها، فهو يوم زواج عزيز وزينة، غير أنه زواج غير مكتمل لأنه قضى الليلة بلباسه العسكري وغادر البيت في الصباح الباكر، يوم 16 غشت، إلى القاعدة العسكرية بالقنيطرة. وهو اليوم الذي قال فيه عزيز لزينة، وهو يهمّ بامتطاء سيارته السيمكا ميلْ: « سلفيني واحد البوسة»، وهي القبلة التي سترجعُها إليه بعد حواليْ 18 سنة، في اليوم الذي توفّي فيه الملك. هذه المؤشرات الزمنية تؤرّخ لثنائية الحبّ والموت التي تخترق الرواية برمّتها. انطلاق رحلة الحبّ بموازاة رحلة الموت، الحبّ الذي سينتصر في النهاية على الموت الذي بقيتْ ذكراه هناك في منطقة صحراوية قاحلة.
خمسةُ رواة، وخمسُ شخصيّات، إذنْ، هي التي تقدّم لما العالَم الروائي المُتداخل والمتشابك:
عزيز: الطيّار بالقاعدة العسكرية الجوية بالقنيطرة. يعشق الطيران حتى أنه ينسى نفسه وهو محلق في الأعالي. ليلة زفافه لا يفكر في العروس زينة ذات الست عشرة سنة المنتظرة في الغرفة المجاورة. باله مشغول بالطائرة. يقضي ليلته مرتديا زيّ الطيار. ومع الفجر يغادر البيت ليعود بعد 18 سنة. نفس المدة التي قضتها زينة في البحث عنه متنقلة بين السجون والإدارات والمدن والغابات والأسئلة والوعود المخيبة للآمال والانتظارات الكاذبة. ثم ها هي تتحمل مشاق سفر أخير? بعد أن دسّ شخص غريب قصاصة في جيبها ببار اللقلاق بمدينة أزرو، حيث تشتغل هي وأختها ختيمة. تتوجه زينة بعد ذلك مباشرة إلى قصبة الكلاوي في الجنوب، حيث يقبع «عزيز» معتقلا، بلا أمل في العثور عليه.
- زينة: زوجته التي كانتْ فتاة ابنة 16 سنة حين تعرف عليها. نموذج الزوجة التي لم تفرح بزواجها وشبابها، والتي أنفقت زهرة عمرها في البحث عن حبّها المفقود. خلال رحلة البحث هذه نتعرّف على المعاناة التي تعرضت لها نساء المعتقلين، وعلى كلّ أشكال الإنكار والابتزاز والتحرّش. فالحارس بنغازي أُغرم بها حين رآها، رغم أنه متزوّج، وحين اتّصلت ببرلمانييْن من المعارضة كانا يسكران في كباريهْ الشارع الخامس بالرباط، هزّا رأسيْهما وقالا: «اشربي أوّلاً شي كاسْ آ الزّين». ورغم ذلك لم تأيس.
- بنغازي: أو السرْجان بنْغازي، حارس سجّان، قمّار وبيّاع، يقضي الوقت كله في لعب الدّاما مع بابا علي داخل المعتقل. يسمّي كومندارْ السجن «خالي» رغم أنه ليس خالَه، تودّدا ونفاقاً. متزوّج ينتظر مولودا ذكرا بعد سبع بنات. يردّد دائما عبارة «كما يسمّونه». لا يهمّه سور القمار والرهان، ولا معنى لأيّ شيء لديه، وهو الذي صدّ زينة عن الدخول إلى المعتقل نافيا أن يكون داخله شخص اسمه عزيز. يقول عنه صديقه بابا علي: «يقول أحيانا كلاما غير مفهوم كأنه لم يتعلّم الكلام أبدا. جمله غير كاملة، وحتى إذا اكتملت فتظلّ بلا معنى (...) بنغازي يحبّ المسكنة والمذلّةّ» (ص، ص. 29، 30). شخصيّة قريبة من البلاهة السوداء العاكسة لتناقضات داخلية عميقة.
- بابا علي: الحارس الثاني، طبّاخ في الأصْل، ويبدو أكثر إنسانية ورأفة من بنغازي، يخاف من نعيب البومة، ويطلب من بنغازي أن يدفن أحد المعتقلين كما يُدفن الموتى. رغبته الكبيرة هي أنْ يرسله الكومندار إلى الحجّ ليغسل ذنوبه. وجوده في الرّواية يصوّر الوجه الآخر لسجّاني المعتقلات.
- ختيمة: شقيقة زينة. نتعرّف من خلال روايتها الطويلة نسبيّا (21 صفحة) أنها شارفت على الأربعين سنة، وأنها جاءت في التاسعة عشرة من عمرها للعمل ببار اللقلاق بآزرو صحبة أختها، هربا من القرية،بعد أن ماتت والدتهما وتزوّج والدهما. بعد وفاة مدامْ جانو، ورثت عنها البار لأنها كانت تعتني بها في آخر حياتها. تقوم بكلّ شيء بما في ذلك الدعارة حفاظا على أختها زينة. وكأنها لم توجد في الرواية إلا من أجلها، من أجل تعليمها الفاشل، أوّلا، ومن أجل زواجها من عزيز بترديدها جملة «تكلمي معاهْ على الزّواجْ آلمسْخُوطة».
- الكلبة هندة: قبل التحاقها بالمعتقل الصحراوي رفقة الكومندار، والذي ستقضي داخله 7 سنوات، كانت قد أمضت 5 سنوات عند محجوب الخيّاط بمدينة الخميسات، كانتْ صغيرة وهربتْ من قسْوة زوْجة الخياط. هندة شاهدة على سُكْر ومُجون الكومندار، وقسوة ونفاق بنغازي. وهي تبْدو أكثر إنسانيّة وانتقادا للسلوك البشريّ غير المفهوم والعبثيّ.
تلعب هذه الشخصيات دورها الخاص في إغناء الرّواية بأصواتها الحاملة لرؤى ومنظورات متعددة متقاربة أو متصارعة، وهي بقدر ما تقدّم العالم من وجهات نظرها، كما تقدّم نماذجَ بشريّةً أخرى مسؤولة أحيانا عن مصائرها ( أمّ عزيز المتزوجة، ووالده المتزوّج بمدينة الشاون بعد طلاقهما، وخاله وعمّه القاسي الذي ربّاه ولا يتوقف عن اتهامه بالسرقة، ورفضه لتعليه، وأستاذه جواكيم الذي علّمه. زوجة بنغازي التي يهابها هي والكومندار، شخصية جوجو في بار اللقلاق، الحياة داخل القاعدة العسكرية والكولونيل الذي قال لعزيز: هذا يومك الخ) من تعدد الأصوات والمستويات اللغوية داخل، بقدْر ما تعرض مستوى وحقيقة وعْيها».... ومن هنا تبرز العلاقة بين التعدد اللغوي وتعدد الأصوات.
ما تبوح به الشخصيات، في نوْع من السّرد السيري، يجعلنا ندرك أنّ الأشياء التي نعتبرها بمثابة بديهيّات هي ليستْ كذلك. وبالمقابل، فالأشياء التي تبدو تافهة، بلا قيمة، هي القيمة الكبرى نفسها. من هنا ذلك الوصف الدقيق لحياة عزيز داخل زنزانته وهو يحوّل الزمن الفيزيائي إلى زمن فيزيقي، جسديّ: تمر عليه الأشهر والسنوات وهو يحاول أن يتحاشى لدغة تلك العقرب التي تتجول قرب جسده المتهالك، أو كيف يصرف الساعات الطويلة والأيام والليالي في عدّ قطرات المطر التي تتساقط من سقف زنزانته في الشتاء، أو في عدّ نبضات أصبع قدمه المنتفخة قيحاً وألماً بسبب عضة فأر، تفاصيل دقيقة وبارعة نجحت في التعبير عن وضع سجين هيئت له أسباب الموت، وترك ليتآكل جسده، في ذلك العالم ينسى أنه كان بشراً أو أنه يمكن أن يرجع إنساناً طبيعياً في يوم ما، ويتضاءل تفكيره حتى يصبح في حدود تفكير عقرب لا تريد سوى الانتقال درجة أعلى في ثقوب جدار متهرئ .
- هذا البناء الروائي، كما يتّضح، لا يتّبع التسلسل الكرونولوجي للأحداث، بقدر ما يجعل كل شخصيّة روائية على حدة تقوم بارتدادات واستحضارات تعيد رسم ملامح الأحداث ومسار الشخوص الأخرى. فلا نتعرّف على بداية الطّيّار عزيز، وبداية علاقته بزينة إلا في منتصف الرواية، على لسان أختها ختيمة أوّلا، ثم في الفصل الموالي على لسانه هو. ليس هناك حدث قارّ بقدر ما هنالك حديث، كلام عنه. وبالتالي فإنّ الزّمن غير ممتدّ (توظيف المضارع، Le présent narratif).
على مستوى المنظور، إذنْ، تنبني الرواية على تعدد الرّواة والأصوات والضمائر والمنظورات. فكل رواية نووية يسردها سراد مختلفون، كل سارد له رؤيته الخاصة إلى زاوية الموضوع، أي أن الكاتب يعطي للشخوص الحرية والديمقراطية في التعبير عن وجهات نظرها دون تدخل للمؤلف لترجيح موقف على آخر، بل ترك كل شخص يدلي برأيه وبمنظوره تجاه الحدث والموقف، يعبر عن وجهة نظره وشعوره بكل صراحة دون زيف أو تغيير لكلامه.
لتحقيق ذلك، يعتمد أسلوب الكتابة على الخطاب المسرود الذاتي موظفا المنولوج أو العرض التلقائي أو تيار الوعي، المعروف عند روائيين كبار أمثال جيمس جويس وفولكنر وفيرجينيا وولف وكافكا...لاستنطاق الذات مباشرة في صراعها مع الموضوع عبر استدعاء الذاكرة والأوهام والأحلام ومن خلال التأمل الذاتي والتعبير الواعي واللاواعي.
في «طائر أزرق نادر يحلّق معي»، هناك، من جهة، العرض المشهدي من خلال جمل وصفيّة قصيرة لا حشو فيها تصف وتسرد بالقدر اللغوي الكافي الذي يتجاور فيه المعجم الرفيع والسامي بالمعجم السفلي، والجملة العربية بالجملة الدارجة والأمازيغيّة. وهناك، من جهة ثانية، العرض الداخلي، المفتوح على اللاوعي وعلى الحُلم:.... استنادا على هذه الملاحظة، يمكن القول إنّ رواية يوسف فاضل، ومن خلال المونولوغ الداخلي والأسلوب غير المباشر الحرّ، تفتح الطريق، على مستوى التلقّي، أمام ما تسمّية دويتْ كونْ «الشفافيّة الداخلية»، و»شعرية الصوت»، كما في «أراها تنزل مع شلاّل الضوء» (صفحتان جميلتان «ص، ص. 265، 266»، في بوح عزيز بحبّه لزينة)
الأسلوب غير المباشر الحرّ هو كذلك مزج وإدخال أصوات في بعضها البعض، بحث يمكّن الرّواية من الخروج من نرجسيّة المونولوغ الداخلي للشخصية الواحدة. الكلام فيه يحتوي دائما، في درجات مختلفة، على تأويل وعلى مسافة تجاه الأحداث كما تعيشها مختلف الشخصيات. الكلام لا يُقدَّم في عريه وبصورة محايدة. لذلك تندرج السخرية في سياق كلام سردي ووصفي عادي، وبخاصّة في روايات السجان بنغازي، حديثه في صفحة 39 عن الكومندار الذي احتل هذا المنصب، رغم أنه لم يذهب إلى المدرسة «كما يصبح الواحد زعيم نقابة أو وزيرا، أو كما أصبحتُ أنا دليلا لا يدلّ أحدا، وكما أصبح بابا علي طبّاخا لا يطبخ شيئا...بالعلاقات»، وانظر (ص. 244).
الأسلوب غير المباشر الحرّ مرتبط هنا ارتباطا وثيقا بما يمكن تسميته «مسألة القيم» (وجود أحكام، ما يعرف بالأثر الإيديولوجي. الرواية تبني قيمها الخاصة من خلال الشخصيات (أقوالها، معرفتها، مُعجمها، نظرتها الخ)، وأيضا عبر ملفوظها. الحوار غير المباشر الحرّ يندرج ضمْن الحدّ من الخطابات الأخلاقية، ومن الأحكام الواضحة والسّهْلة والوعظية للشخوص. ص. 10، مثلا....بحيث أن الخطاب المنقول عبر أسلوب غير مباشر حر هو تحويل خطاب داخلي للشخصية بحيث يصبح خطابا للسارد. وترى دوريت كوهين أن الغرض» من هذه التقنية تجلية الحياة الداخلية للشخصية باحترام لغتها الخاصة»
- العلاقة بين الفصول: في الحقيقة، هي ليست فصولا بالمعنى المتداول. يتعلق الأمر ببناء شذريّ تتلاشى فيه الحدود، حيث اللاترابط هو الترابط الفعلي ( هي مجرّد روايات يكتسي طابعا شفهيّا، بل حتّى العناوين الداخليّة ليسن عناوين بقدر ما بداية الجملة التي تستمرّ في بداية السطر الأول).
الساردة هندة والطائر فرج والطفلة عزيز
هل يمكن القول إن يوسف فاضل يوظّف البعد الفانطاستيكي لتكسير النمذجة الشخصية الكلاسيكية؟ أجلْ يبدو الأمر كذلك: فمن جهة، يدرج ضمن سلسلة الرّواة شخصية الكلبة هندة. إنها أنسنة للحيوان في مقابل حيْونة الإنسان الفاقد للرحمة. أهمّية الكلبة هندة أنها شاهدة على طريقة دفن الموتى بالقصبة-المعتقل الصحراوية (ص.182)، حيث تشبّهها في سخرية لاذعة بطريقة دفن الكلاب. وهندة هي التي ستنقذ الطّيّار عزيز من الموت المحقق بعد أن دفنه الحارسان بابا علي وبنغازي حيّا معتقديْن أنه فارق الحياة. هي التي طردت الفئران التي كادت تنهش لحمه بعد أن ألفت نهْش لحم المعتقلين السابقين في ساحة المعتقل.
في الصفحة 209، يصف عزيز طائرا تسلّل تحت سقف القصدير ليبني عشّه على أحد الأعمدة الخشبية. ملأ المكان حياة، وجلب الضوء إلى زنزانته، ودخل في حوار معه، وسأله عن اسمه فقال له «فرج» وطار. هذا الطائر نفسه هو الذي سيتبعه بعد الإفراج عنه، ويحطّ على كتفيه ليوصيه بالاهتمام بنفسه والنظر إلى القمر.
أما عزيز الطفلة، فإن زينة تصرّ، بعد فشل بحثها عن عزيز زوجِها مدة 18 سنة، ستعوّض بإطلاق اسمه على الطفلة التي ستشهد على القبلة التي استردّتها زينة من عزيز.
مستويات اللغة
قلتُ في البداية إنّ هذه الرواية، كما سابقتها «قطّ أبيض جميل يسير معي»، ليست تأريخا ولا توثيقا لسنوات الجمر والرصاص التي عرفتها بلادنا منذ أواسط السبعينيات، ولا هي شهادة مباشرة. إنها تخييل يعيد تشكيل الخلفية السياسية والإيديولوجية التي تتوسلها الرواية.
من هنا تبرز أهمية اللغة السردية عند يوسف فاضل، والتي تعتمد أساسا على الجمل القصيرة التي يتجاور فيها كل شيء (السرد، الوصف، الحوار غير المباشر، الحوار غير المباشر الحرّ، الحوار المباشر، وهو قليل جدّا)، كما تعدد الأصوات وتفويض الكلام. في هذه اللغة تتجاور اللغة العربية الفصيحة العالية والموحية، مع الدارجة بدون أيّ تنافر، الدارجة ذات المرجعيات الشعبية العاكسة للكلام الحقيقيّ الموجود في المجتمع، بدون أيّ تحفّظ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.