تعد مؤسسة التحكيم من أقدم المؤسسات التي تسند إليها مهمة حل النزاعات وتسويتها، حيث صاحب الإنسان منذ عهود قديمة وتطور بتطور التجارة، حتى أصبح عادة أصيلة مترسخة في نفوس الناس، وذلك لما له من دور هام في حل بعض الإشكالات والخصومات، وباعتباره كأداة لحل النزاع بين الأفراد ولما يتمتع به في إعمال مبدأ سلطان الإرادة وإطلاق الحرية في حل النزاعات دون التقيد بقواعد القانون. كما يعتبر الوسيلة الفعالة والمناسبة بل والملاذ الآمن للرجوع إليه في حسم أي خلافات تنشب بين الأطراف المتعاقدة. وهو ما شكل من واقع التحكيم عصباً مهماً في مجال الأعمال في التطوير، بل وأن أغلب المتعاقدين يصرون على التحكيم للأسباب الآنفة الذكر بعيدا عن القضاء وإجراءاته. فاللجوء إلى نظام «التحكيم التجاري» يعتبر من أهم الوسائل التي تحظى بثقة المستثمر وتأييده له، لقيامه بدور مكمل لفض المنازعات التي يمكن أن تثار بين الأطراف، فهو يخول لهم حرية كافية في اختيار قضاتهم، كما يسمح لهم بتحديد الإجراءات الواجبة الاتباع أمام هيئة التحكيم، فضلا عن مرونة إجراءاته واختصار وقته وتكاليفه. ومن ثم،فإن نظام «التحكيم» من شأنه أن يسهم في توسيع حجم المبادلات التجارية للدولة، وهو بالتالي يبعث الاطمئنان للشخص بشأن ما يمكن أن ينشب بينه وبين الدولة من منازعات. وارتباطا بالموضوع، تعززت المكتبة الفقهية-القانونية القضائية المغربية بصدور كتاب جديد هو: «التحكيم التجاري من خلال العمل القضائي- رصد لقرارات محكمة النقض ومحاكم الموضوع» لمؤلفيه الدكتور مصطفى بونجة، دكتور في الحقوق، محام بهيئة طنجة، والدكتورة نهال اللواح، دكتورة في الحقوق، وباحثة جامعية، نشرته مطبعة سبارطيل، الطبعة الأولى 2014، يشتمل على المقدمة، القسم الأول، القسم الثاني وهو في جزأين. وتكمن أهمية هذا الإصدار في أمرين: الأول: الكتاب كما يبدو من تسميته ومواده يرتبط بالكشف عن مختلف القرارات القضائية المتعلقة بالتحكيم، كما يهدف إلى تسليط الضوء على موقف القضاء المغربي من الموضوع. وتتجلى أهمية الكتاب في كونه دراسة قضائية في موضوع التحكيم، قد تكون له فائدته الكبرى، وبصورة خاصة في الوقت الراهن الذي أخذ التحكيم فيه دورا بارزا لحل الكثير من المنازعات، وجعل المشرع ينص على اعتباره طريقا ملزما في حل الكثير من الخلافات ولاسيما تلك الخلافات التي تحصل بين مؤسسات الدولة وشركاتها العامة وفي نطاق عقودها الإدارية والخارجية. وحتى يواكب المغرب التطورات الحاصلة ومواجهة تحديات العولمة الاقتصادية، حكمت هذه الوضعية الجديدة على المشرع المغربي أن يتماشى ويتجاوب مع التطورات الاقتصادية، وذلك بسنه قوانين تتجاوب مع متطلبات العصر، وتستجيب لطموحات الفاعلين الاقتصاديين بالمغرب. الثاني: هو كتاب من تأليف وعناية أستاذين جليلين، لهما اهتمام كبير بموضوع التحكيم، واهتمام خاص بالتحكيم الداخلي والدولي، يدل على ذلك ما أشارا له المؤلفان في ظهر الكتاب من أن هناك مؤلفات أخرى لهما تحت الطبع، وهي تتعلق بالتحكيم الداخلي والدولي. ويأتي موضوع التحكيم التجاري من خلال العمل القضائي المغربي؛ ليجعل من الكتاب محط اهتمام وبحث من لدن مختلف المتخصصين والباحثين وخصوصا القانونيين، بالتطرق إلى مختلف قرارات محكمة النقض ومحاكم الموضوع التي أولاها المؤلفان بعناية خاصة، وبحثا فيها، ورصدا الأهمية من خلال جاذبية الموضوع وحساسيته. وإتماما للفائدة، شمل الكتاب نحو 583 صفحة، وهو من الحجم الكبير، وقد جاءت صورته مناسبة لموضوعه ومادته. ويظهر من خلال القواعد القانونية المبثوثة في أعلى كل قرار، والترتيب المعتمد في التصنيف، المجهود الكبير الذي بذله الباحثان؛ الأستاذ مصطفى بونجة، والأستاذة نهال اللواح، المعروفان بإرادتهما وأمانتهما الوديعة، إلى غير ذلك من الأمورالمهمة التي تزيد من توضيح المعنى، وتنم عن واسع معرفة، وتهدي القارئ والباحث لطريق البحث السليم، وتهيئ له مرشدا إلى الممارسة في جميع جوانبها القانونية والقضائية.