يشهد التاريخ على أن من بين الأسس التي قام عليها تقدم الأمم، نقد الفكر الديني. ويكفي لتبيّن ذلك أن نتصفح تاريخ أوربا، بدءا من فرنسا «عصر الأنوار» إلى ألمانيا «اليسار الهيغلي» (نسبة إلى الفيلسوف الشهير F.W.Hegel) مرورا بحركات «الإصلاح الديني» ومقومات الفكر السياسي الحديث. وهو نقد مهما اختلفت توجهاته وتباينت مرجعياته، سعى بالأساس إلى تقويض الركائز العتيقة التي يقوم عليها النظام القديم، وإحلال مبدأ العقل وحكم التجربة وسلطة التاريخ . لقد صبّ فولتير Voltaire، منذ مدة لا تقل عن قرنين ونصف جمّ غضبه على التعصب الديني، ونادى بالتمييز بين رجال الدين «الكذبة» والدين «الطبيعي» الذي يرى في نظام العالم مرآة تعكس روح الله. وتحمّس معاصره هلفسيوس Helvetius لتأسيس «أخلاق جديدة» تتجاوز الأسس الغيبية وترتكز على مقومات دنيوية تحقق منفعة الفرد وسعادته دون تعارض مع المنفعة العامة. وكان دولباخ Dholbach صاحب كتاب «المسيحية المكشوفة « Le christianisme d?voil? أكثرهم جرأة، وهو القائل أن الجهل والخوف هما الأساس الذي يبني عليه رجال الدين الكذبة قوتهم الموهومة، ويعطي للحكام حرية لا حدود لها في اضطهاد رعاياهم باسم الله والمقدس. غير أن نقد الدين، والفكر الديني بشكل أكثر عمقا هو ما شهدته ألمانيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما تدل على ذلك كتابات فويرباخ Feuerbach وستراوس Strauss وباور Bauer وماركس Marx أو ما يعرف عموما ب «اليسار الهيغلي». فلقد قام شتراوس في كتابه عن «حياة المسيح» بنقد تاريخي لنصوص الإنجيل مبرزا تناقضاتها العديدة ومنبّها لطابعها «الأسطوري». وكان معاصره «فويرباخ»، باعتراف أغلب مؤرخي الفكر الفلسفي، أكبر ناقد للدين والفكر الديني بوضعه اليد على مفهوم مركزي هو: «الاستلاب الديني» lali?nation religieuse ، وهو المفهوم الذي سيجد امتدادا له عند مفكرين آخرين وخاصة منهم كارل ماركس. فالدين لا يعدو أن يكون تعبيرا عن عجز الإنسان على تحقيق إنسانيته في الحياة الدنيا، ولا خيار له أمام هذا العجز سوى القيام بعملية «تصعيد» لكل صوره الجميلة و»إسقاط» ماهيته نفسها على كائن كامل ومكتمل. ولا سبيل إلى تجاوز هذا الاستلاب المركزي إلا باسترجاع الإنسان إنسانيته التي سلبها هو من نفسه وأودعها لغيره، وتلك قصة سوف تجد صدى في كتابات أخرى مثل «مخطوطات 1844» أو «الإيديولوجيا الألمانية» لكاتبهما كارل ماركس. وفيما عدا هاتين الحركتين الثقافيتين، الفرنسية والألمانية، اللتين وضعتا أساس الإنسان الحديث، يمكن القول إن «نقد الدين» فكرا ورجالا ومؤسسات، يوجد في عمق الفكر السياسي الحديث منذ نشأته مع ماكيافلي Machiavel ومساره الصاعد مع بودان Bodin وهويز Hobbes ولوك Locke وروسو Rousseau ومن تلاهم... فقد تضمن «أمير» ماكيافلي نقدا لاذعا للكنيسة التي رأى فيها سبب خراب إيطاليا، كما ميّز بين مسيحية «جبانة» ترتزق على التجزئة والفُرقة الوطنية بإذكائها للنعرات، ومسيحية «حقيقية» لا تتعارض مع مقومات الدولة الحديثة التي كان ماكيافلي يناضل من أجلها، والتي جعل منها «قيمة» أعلى من كلّ القيم. ومن جهته أقام المفكر السياسي ج. «بودان» J Bodin تصوره للدولة على أساس مفهوم للسيادة Souveraint? يجعل منها كائنا مطلقا لا يحدّه لاهوت، ولا يؤثر فيه انتماء ديني، وكان بذلك يرى أن وحدة الأمة تقتضي وضع الاعتبار «السياسي» فوق كل اعتبار، و خاصة الاعتبارات الدينية، كما كان يرى أن «وحدة الأمة» هي في نهاية المطاف أهم من « وحدة الدين»، ومن تمّ كان «بودان» من الأوائل الذين كانوا ينادون بضرورة الاعتراف بالاختلاف الديني، واعتباره أمرا واقعا يتطلب التسامح مع الآخر بدل التطاحن الذي لا ينتهي. كما شكلت نظريات «العقد الاجتماعي» Le contrat social بمختلف أشكالها عند هوبز Hobbes أو لوك Locke نقدا حاسما لكل خلط بين مجالي الدين والسياسة بسحبها البساط عن كل تنظير لاهوتي لمسألة الدولة التي أصبحت نتيجة «العقد الاجتماعي» كائنا اصطناعيا ومخلوقا بشريا.. لا داعي هنا للاسترسال في استشهادات يمكن الاطلاع على تفاصيلها بالرجوع إلى تاريخ الفكر الأوربي الحديث. وإذا كنا أشرنا إلى بعضها على سبيل الاستئناس، فلنبيّن بالمقابل مدى الضعف، إن لم يكن غياب المفكّرين العرب أمام سؤال الدين، وإن كنت على خطأ، فلتذكّروني بأسمائهم !!