سجلنا خلال السنوات الأخيرة ظهور سوق «إسلامية» يرى البعض أنها النسخة «الحلال» للرأسمالية الغربية. في حين يرى محللون آخرون أن هذه الظاهرة ليست سوى تجسيد، بل انتصار، ل «ثورة محافظة» تعيشها النخب المنحدرة من الحركة الإسلامية بعد فشل غزوها للسلطة، حسب « .oumma.com» مقال ليوسف جيرار ، نشره بتاريخ 2 يناير 2014 على موقع. بالفعل، فبعد فشل معركتهم السياسية، حوّل فاعلو الحركة الإسلامية اهتمامهم إلى اجتياح قطاع التجارة. وباتخاذهم قرار ولوج عالم الاقتصاد، استوردوا إلى هذا المجال علامات، رموز «إسلامية» لخلق منتوجات جديدة تستجيب لانتظارات المستهلكين المسلمين. و قد تمت ترجمة هذا المشروع ماديا بظهور مواد وخدمات تجعل صفة «إسلامية» رهن إشارة «المؤمنين - المستهلكين» أو «المستهلكين - المؤمنين». مع ذلك، فما اعتبره البعض «بديلا» للنظام الاقتصادي المهيمن، يمكن تحليله على أنه امتداد لمجال تأثير الرأسمالية التي تسعى دائما إلى خلق أسواق جديدة. من هذا المنظور، فإن سلطة لغة الرأسمالية، دراسة السوق، هي أن تبدو مستقلة عن المفهوم، أي عن الحكمة والأخلاقيات. بصيغة أخرى، تستعير اللغة الرأسمالية كلمات الإسلام بإفراغها من حمولتها المتسامية وأخلاقها لكي تحولها إلى مادة للاستهلاك. إنهم يُسوقون مظهرا «إسلاميا»، صورة للإسلام. بذلك، تكون لخطاب المظهر «الإسلامي» سلطة إفناء الكائن المسلم. إن دينامية تقويض الإسلام وتدمير الكائن المسلم هذه ترتكز على إيديولوجيا الافتتان، الرغبة، وهي تتم عن طريق دراسة السوق. و يشارك هذا في الشكل الجديد للرأسمالية الذي يعتمد على قوة الصورة، قوة الرمزية التي ينشرها بواسطة الإشهار. إن شكل الرأسمالية هذا، الذي درسه ميشيل كلوسكار، يرتكز على الإيجاد المتبادل لاقتصاد السوق - المتجه نحو إرضاء الحاجات - والرغبة التي تبعث دينامية اقتصاد الكسب. في هذه السوق، وعوض استهلاك المواد والخدمات، تستهلك الرمزية، العلامات، السلوكات، الكلمات. إن هذه العلامات، هذه الرموز، هذه السلوكات، حين يتم إخراجها من سياقها، وتستخدم في المجال التجاري، لا يمكنها سوى أن تطور غير الاًصيل، المصطنع، المزيف. إن دينامية الرأسمالية دينامية شمولية ليست لها حدود ولا فواصل، هدفها الوحيد نشر التحكم لكي يشمل المجتمعات كلها، الثقافات كلها، الحضارات كلها. ليست الرأسمالية مجرد نمط تدبير اقتصادي، إنها ثقافة أيضا، ترتكز على تحكم القيم التجارية، على تصور للعالم، على ثقافة، على حضارة، على نمط عيش. إن للرأسمالية ميزة شمولية وجمعية تنزع إلى إخضاع الوجود الإنساني كله لحكم البضاعة. إن الرأسمالية، بالطبيعة، نظام يدفع إلى تبضيع المجتمع الشمولي، إلى تقويضه. في منطق الرأسمال، يمكن لكل شيء وينبغي لكل شيء أن يتحول إلى مادة تجارية. بالمقابل، لم تعد هناك حدود بشرية للانتشار الكوني لرأس المال. وبهذه الصيرورة، ينزع منطق الرأسمالية إلى تعميم قوانين السوق في المجالات غير التجارية و، بالمناسبة نفسها، تقويض التنوع الثقافي، القضاء على الخصوصيات الهوياتية، تدمير الفكر النقدي - نوع من «الترويض» الإدراكي - أو إخراج الديانات والروحانيات من حقل الإدماج. بذلك، سيكون على الرأسمالية اجتياح المجتمعات و الفضاءات غير التجارية، ليس بغرض تحويلها حتى تسمح بخلق أسواق جديدة بمنافذ جديدة. وفق هذا المنظور، يمكن تحليل السوق «الإسلامية» كأداة موجهة لتوسيع مجال تأثير الرأسمالية في فضاء غير تجاري: فضاء الإسلام، متخيله وروحيته. من الضروري أن نفهم أنه في الدينامية الشمولية للرأسمالية - النظام - العالم، السوق «الإسلامية» مجرد جزء لا غير، جزء صغير جدا من السوق الشمولية بقواعد سيرها. بذلك، تجد النخب الاقتصادية «الإسلامية» نفسها مرتبطة بطريقة هيكلية بدينامية الرأسمالية الغربية التي يظل نشاطها الأساسي هو «تحويل العمل إلى رأسمال والتحكم في السلط الاجتماعية » 1 . بغض النظر عن نشاطها، فإن النخب الاقتصادية «الإسلامية» تقدم آفاقا جديدة للرأسمال الغربي. فعلا، فبِحثّها على «الحاجيات»، فإن السوق «الإسلامية» تخلق سوقا جديدة، سوق التدين الإسلامي، بمستهلكيها: «المؤمنون المستهلكون» أو «المستهلكون المؤمنون». مع ذلك، فإننا بخلق هذه السوق الجديدة، نعمل ضمنيا على فرض نموذج ثقافي جديد، نموذج الرأسمالية الغربية، لغايات ميركنتيلية. وهما يصفان هذه الصيرورة، كتب ماركس وإنجلز: «بما أنها تعيش دائما تحت ضغط الحاجة إلى أسواق أكثر اتساعا لمنتوجاتها، فإن البورجوازية تنتشر في الأرض كلها. ينبغي أن تستقر في كل مكان، أن تكون لها علاقات في كل مكان » 2 . إن ما يترتب عن السوق «الإسلامية» هو اتساع الرأسمالية الغربية وفرض نموذج ثقافي رأسمالي حتى لو تمت تغطيته بطلاء «إسلامي» . فلكي تحقق النجاح، لا يمكن للرأسمالية أن تجعل تأثيرها محصورا في المجال الاقتصادي الخالص، بل عليها أيضا أن تنكب على غزو روح الشعوب لكي تبعث في تلك الشعوب رغبة الاستهلاك. إن الرأسمالية تقف وراء صيرورة تقويض الشخصية، تقويض كل ما هو أصيل، «اغتصاب وعي» الشعوب لإدماجها في سوق عالمية. هكذا، وكما كتب ماركس وإنجلز سنة 1848، «باستغلالها للسوق العالمية، فإن البورجوازية قد أضفت انعطافة كونية على إنتاج واستهلاك الشعوب كلها» 3 . إن الرأسمالية تسعى، بالفعل، إلى تشكيل شعوب بلا بوصلة، عديمة الشخصية، بعادات ثقافية جامدة، ورجال تسحقهم الحمى، بلا روابط ولا معايير، مجثتين حقيقيين ، على استعداد لاستهلاك منتوجها الموجه بإحكام. كل ما يكبح استهلاك منتوجاتها، كل ما من شأنه تعطيل انتشار منتوجاتها الثقافية الموحدة الشكل، من الموسيقى إلى السينما مرورا بالأدب، ينبغي أن يختفي، أو أن يتحول إلى شيء مادي، أن يصبح فولكلورا في نظامها. بالنسبة للرأسمالية، الاستلاب المسبق للأذهان ضروري لعملها الرامي إلى جعل كل شيء متشابها. بذلك، فهي تسعى إلى تدمير الأصلي، الأصيل، الخاص، الاستثنائي لصالح كل ما يمضي باتجاه انتشار الرأسمال. من هذا المنظور، فإن السوق «الإسلامية» تعمل على تكريس التفوق الاقتصادي، الإيديولوجي، الثقافي والسياسي للغرب الرأسمالي. بفضل «حيلة تاريخية» أصبحت النخب الاقتصادية «الإسلامية» تمثل «الحلفاء الموضوعيين» للرأسمال الغربي ولتغريب العالم، بينما يقدمون أنفسهم، في التزامهم السياسي الأصلي، باعتبارهم ألد خصوم هذا التغريب. ولتقوية هيمنته، فإن الرأسمال الغربي يجتهد لإخضاع الشعوب، العوالم الثقافية والحضارات لنمط عيشه بواسطة مواد يومية تخلق شعيرة للتعلم عن المجتمع الرأسمالي. إن بعض المواد الثقافية تطبيق فعلي للرأسمالية. بفضل التلقين اليومي للقواعد، «يُخلق» زبناء كامنون. ويتم فرض هذه المواد بفضل دراسة السوق التي تعمل على تثبيتها كما لو كانت نماذج ثقافية. مثلا، من الضروري أن نفهم أن الأكلات الخفيفة «الإسلامية» تنتج علاقة بنمط الاستهلاك، بالتغذية، بالذوق، بالزمن، بإستطيقا ما نأكله والمناخ حيث نستهلكه. إن هذه العلاقات، حتى لو كان اللحم حلال، تعيش قطيعة مع أخلاق وإستطيقا التقاليد العربية - الإسلامية التي تُعتبر طريقة التناول فيها - سواء تعلق الأمر بالمواد أو بطريقة استهلاكها - مختلفة كلية. كما أن الملابس «الإسلامية» ، على الطريقة الأمريكية، توَلّد علاقة بالجسد، بطريقة الظهور في الفضاء، بإستطيقا اللباس، بالمظهر. إن هذه العناصر التي لا تنهل أصولها من الفضاء الحضاري العربي - الإسلامي، تم استيرادها بشكل مباشر من «ثقافة» الهيب هوب الأمريكية ومن عالم «الفرجة الرياضية». و يوضح منير شفيق بهذا الخصوص: «لقد حان الأوان لإبعاد أي فكرة ترتبط بالتغريب، لقد حان الأوان لكي نفهم أننا قوينا» قنوات « بارتدائنا اللباس الغربي بدل لباسنا التقليدي، الذي استلهم من عاداتنا، من فلاحتنا، من صناعتنا التقليدية، من حضارتنا، بتخلينا عن كل ذلك. إن اللباس الغربي ترجمة لنموذج حضاري، واستيراده يعني تبعيتنا. لقد ساهم في تدمير اقتصادنا، شخصيتنا وتراثنا» 4 . هذه المنتوجات «الإسلامية»، التي تُروج في الوقت نفسه أنماط عيش جديدة مستنسَخة عن «النموذج» الأمريكي، أنتجتها الحضارة الرأسمالية وروجتها بفضل دراسة السوق. إنها تساهم في نشر غير الأصيل، المصطنع، المزيف، الذي تنتجه الرأسمالية بغرض تحقيق الاستهلاك المكثف. بواسطة هذه المتوجات، وبواسطة الإيديولوجيا المُصاحبة لها، ينتهي الأمر بنمط العيش الرأسمالي إلى الانتشار في العالم برمته، بما أن البورجوازية الغربية، كما يؤكد ذلك ماركس وإنجلز «تُجبر الأمم كلها، إذا كانت ترغب في البقاء، أن تجعل من نمط أنتاج البورجوازية نمطها هي؛ إنها تُلزم تلك الأمم على أن تدمج لديها ما نسميه الحضارة، أي أن تصبح هي نفسها بورجوازية. إنها، إجمالا، تخلق لنفسها عالما على صورتها » 5 . بذلك، يفرض البورجوازيون وأجهزتهم الإيديولوجية وصايتهم الإيديولوجية، نموذجهم الثقافي والحضاري، مصالحهم ونمط عيشهم، على المجتمعات كلها لجعل قيمهم الخاصة كونية. إن قوة الهيمنة هذه تجعل من الصعب الإفلات من التوجيه الذي يفرضه نموذج ثقافي مكثف و ساحق كهذا. بجعلها تصور العالم وإيديولوجية الرأسمالية الغربية تصورها وإيديولوجيتها هي، فإن النخب الاقتصادية «الإسلامية» تشتغل بالنيابة، غير واعية، في عملية عن تغريب العالم. ووفق هذا المنظور، فإن « طبقة التوسيط »، تبني نمط عيش البورجوازية الغربية، الهيمنة وتثبيت طرق العيش، تشكل أسلحة فعالة على نحو مرعب لتدمير أية خصوصية ثقافية، هوياتية ودينية بإمكانها مساءلة الهيمنة الاقتصادية والإديولوجية - الثقافية للغرب. بذلك تختفي أي محاولة لمقاومة النظام العالمي. إن بند ظاهرة التقويض، «تبضيع العالم»، الذي يفرض حكم الكم، هو أساس صيرورة سخط العالم المدمر لليونوبيات المبدعة، المُخيلات الجماعية والتطلعات. ويصرح ماينار كيينس، وهو يصف هذه الصيرورة التي يرى أنها إيجابية، بأن: «الرأسمالية الحديثة في حالة كفر جذرية » 6 . كانت بالنسبة له السمة المميزة للرأسمالية لأن الإيديولوجيات المادية نفسها تعرف شكلا من الإيمان المؤكد، بينما لا تعرف الرأسمالية سوى عالم التجارة الذي تسعى إلى إخضاع البشرية له. لمواجهة قوة النظام المسيطر، فإن نقد الرأسمالية الذي يتوقف عن حد إدانة عواقبها الفظيعة، دون مواجهة منطقها الخاص - التقويض - لا يمكنه مواجهة القلب النابض للعالم المعاصر. ينبغي انتقاد الرأسمالية لماهيتها - نظام هدفه تقويض المجتمعات كلها - وليس فقط لما يُولده، التفاوتات الاجتماعية، البؤس، الاستغلال والحروب الإمبريالية. إن قوة الرأسمالية تكمن في إخضاع كل الناس، كل الثقافات وكل الشعوب بفرض حكم البضاعة والإديولوجيا المرتبطتين بها. والتناقض الرئيسي الذي تعيشه مرحلتنا يتمثل على شكل صراع بين إرادة الهيمنة الكونية والحركات المقاومة لهذه الصيرورة. و لمواجهة القوة الشمولية للرأسمالية وطابعها الموحِد، لا يمكن للمقاومة أن تنتظم إلا بإنعاش تنوع الثقافات، الشعوب، الروحانيات والحضارات. إن الخصوصيات الثقافية، الخاصيات الروحانية، هي أيضا بمثابة أسلحة للمقاومة في مواجهة الرأسمالية الموحِدة. في مواجهة هذا التوحيد، على الذين يعارضون الرأسمالية أن يعوا بأن كل شعب، كل لغة، كل إثنية، كل فرد، كل روحانية، كل خصوصية انعكاس لتنوع العالم غير التجاري. على المناهضة الحقيقية للرأسمالية أن تعارض كل محاولات الهيمنة العالمية وعليها أن تدافع، تبعا للنمط السمفوني، على كل الخصوصيات طالما أن بإمكانها تشكيل أسس التحرر الاجتماعي والثقافي. إن المفروض في المقاومة الفعلية للرأسمالية أن تدمج بالضرورة معارضة نشر الثقافة الرأسمالية وما يترتب عنها من تغريب للعالم. 1 - بيان الحزب الشيوعي، فلاماريون، باريس، 1998، ص 95 2 - نفسه، ص 77 - 78 3 - نفسه، ص 78 4 - الإسلام يصارع لأجل الحضارة، البراق، باريس، 1992، ص. ص 104 - 105 5 - بيان الحزب الشيوعي، ص 79 6 - كريستوف لاش، الجنة الوحيدة والحقيقية. تاريخ إيديولوجيا التطور وانتقاداتها، فالماريون، باريس، 2006، ص 95 .