في مفهوم العولمة: العولمة أو الكونية هي عملية توسيع مستمر لمجال رأس المال الاحتكاري وتدويل عملية الإنتاج والتسويق للسلع ولرؤوس الأموال متعدية بذلك الحدود والأسواق القومية في محاولة لإزالة جميع العراقيل والحدود والقوانين التي وضعتها الدول غير المصنعة أو ضعيفة التصنيع لحماية أسواقها وبنيتها الاقتصادية المحلية. وهي توسيع لنفوذ الرأسمالية وشركاتها الاحتكارية للسيطرة على موارد وطاقات وأسواق الكون دون قيود أو عوائق أو عراقيل. وهي تعميم لقوانين "اقتصاد السوق" في كافة المجالات أي اعتبار الصحة والتعليم والبحث العلمي والإنتاج الثقافي والمياه والخدمات الاجتماعية وغيرها من الضروريات، سلعا تباع وتشترى حسب قانون العرض والطلب. العولمة هي درجة من درجات التطور الرأسمالي، فبعد السيطرة على الأسواق المحلية يتجه رأس المال إلى الأسواق الخارجية لمواصلة عملية تراكم رأس المال والأرباح. إن اجتياح الكون وتوسيع السوق ضرورة حيوية وعت بها البرجوازية الأوروبية التي تقاسمت فيما بينها العالم في القرن التاسع عشر. هذه المرحلة من تطور النظام الرأسمالي التي وصفها لينين بالامبريالية ما زالت متواصلة وان تخللتها فترات من التراجع أو التريث بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا وظهور حركات التحرر الوطني والأنظمة المنبثقة عنها... الجديد في ما نعيشه اليوم هو السيطرة شبه المطلقة للامبريالية الأمريكية واحتكاراتها وجيوشها واستعمالها لآليات وأدوات ووسائل لم نعهدها بين 1917و1990. مقدمات العولمة الجديدة: منذ حوالي ثلاثة عقود، وبعد الأزمة التي سميت "أزمة البترول"، تكثف تدخل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لدى الدول الفقيرة ضعيفة التصنيع. كانت الوصفة واحدة لكل هذه الدول:التخفيض من قيمة العملة، رفع القيود عن التوريد والتخفيض من قيمة الأداة الجمركية، فتح الأسواق المحلية أمام الاستثمارات الخارجية، رفع الدعم عن المواد الأساسية، تخلي الدولة عن القطاع العام والبنوك والمشاريع الصناعية والتجارية لفائدة الخواص ورأس المال الأجنبي، فتح المجال للخواص للاستثمار في قطاعات الصحة والنقل والتعليم الخ. وكانت القروض و"المساعدات" مشروطة بتطبيق هذه الإصلاحات الهيكلية بعد دراسات دقيقة تقوم بها المؤسسات المالية الدولية و"الدول المانحة". هذه الاجراءات تهدف إلى تصريف الفائض الذي تراكم في البلدان الرأسمالية الامبريالية والسيطرة على ما تبقى من مجالات خارج السيطرة الكلية للاحتكارات والقضاء على الهامش الصغير الذي لا زال بيد الرأسمال المحلي المملوك للدولة أو للخواص. فرضت المؤسسات المالية هذه الشروط بتعاون مع الحكومات والأنظمة الحاكمة التي ادعت أن تطبيق هذه الاجرءات يعتبر مقدمة ضرورية "للالتحاق بركب الحضارة والرقي". لكن الشعوب العربية سرعان ما انتفضت ضد هذه السياسات: مصر، المغرب، تونس، الأردن، الجزائر الخ. وكذلك الشأن في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية بسبب الآثار السلبية لهذه السياسات على حياتهم اليومية. في سنة 1989 انعقد بواشنطن اجتماع ضم أخصائيين من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومة الولاياتالمتحدة واتفقوا على مبادئ أساسية لتصفية تدخل الدولة والقطاع العام في كافة المجالات الاقتصادية والمالية والثقافية والعلمية،وتعزيز حماية الملكية الخاصة وإلغاء الرسوم الجمركية، في أسرع وقت ممكن وفي أي بلد من العالم. وقد صاغ النص الذي عرف ب"وفاق واشنطن" نائب رئيس البنك الدولي آنذاك. كما عقدت لنفس الغرض العديد من الاتفاقيات طيلة العقدين الأخيرين من القرن العشرين بين صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك الفدرالي الأمريكي وول ستريت وأهم الشركات الكبرى الاحتكارية العابرة للقارات. منذ التسعينات أصبحت الاجتماعات الدورية ل"مجموعة السبعة" ( ثم الثمانية بعد ضم روسيا إلى هذا النادي) إلى جانب مسؤولي أكبر المؤسسات الاحتكارية العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تقرر مصير العالم وتفرض "قوانين" وإجراءات تلزم كافة الدول التي تتعامل معها. أما منظمة التجارة العالمية فإنها أصبحت أداة فعالة تلعب دور الخصم والقاضي والشاهد لردع أي دولة تروم التحكم في وارداتها وصادراتها وأسواقها الداخلية ومواردها المتأتية من الضرائب الجمركية... مجموع هذه الاجراءات و"الاتفاقيات" يصفي دور الدولة كمعدل للسوق والأسعار ومسالك توزيع المواد الضرورية وتحديد سعر أقصى لها، وضبط مخططات للتنمية. وهي تقطع مع السياسات المتبعة منذ أزمة 1929 وفيما بعد الحرب العالمية الثانية حيث لعبت الدولة دورا أساسيا في التخطيط لإعادة البناء وسن قوانين ذات صبغة اجتماعية. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يبق للأمريكان منافس في الساحة الدولية فأصبحت تروج ل"نظام عالمي جديد" بزعامتها، لا مكان فيه لأي شكل من المعارضة لمصالحها ومصالح شركاتها، وأي احتجاج أو معارضة لسياساتها تعتبره تهديدا لأمنها القومي يستوجب فرض عقوبات صارمة ومقاطعة وحصار وتجميد الأموال المودعة في بنوك العالم، "وآخر الطب الكي" أي القصف والاحتلال بمعونة "المجتمع الدولي" إذا أمكن...وإلا فإنها تتصرف كما شاءت وما على بقية العالم الا الرضوخ. أدوات العولمة الجديدة: عولمة الأسواق مطمح "طبيعي" للرأسمالية لتتمكن من السيطرة على الموارد والمواد الأولية ولتصريف فائض الإنتاج، بدأت منذ القرن التاسع عشر بالاستعمار المباشر تحت تعليلات ويافطات مختلفة، والحربان العالميتان تظهران درجة التناحر التي وصلت إليها الامبريالية لتقاسم النفوذ والأسواق. مثل انتصار الثورة البلشفية (1917) وأزمة 1929 عوامل كابحة لنهم رأس المال في مرحلته الامبريالية، لكنها لم تمنعه من مواصلة النهب والتوسع رغم الدمار الذي لحق أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية والانصراف إلى إعادة بنائها بمساعدة أمريكا. لعب الاتحاد السوفياتي دورا هاما في الحد من الهيمنة الامبريالية في البلدان المستعمرة والمهيمن عليها كما في التصدي الايديولوجي للقيم التي تسعى لفرضها أمريكا وحلف الناتو وأوروبا الغربية. أما داخل البلدان الرأسمالية الامبريالية فان البرجوازية مضطرة لتقديم بعض التنازلات للعمال والأجراء تتمثل فيما اصطلح على تسميته ب"دولة الرفاه الاجتماعي"، لكي لا تتأثر الطبقة العاملة بالأفكار الاشتراكية وتثور في وجه من يستغلها. بداية تهاوي النظام السوفياتي بعد احتلال أفغانستان كما في أوروبا الشرقية (بولوندا، المجر،تشيكوسلوفاكيا...) وتبني الصين رسميا للنمط الرأسمالي، تزامنت مع صعود ريغن وتاتشر إلى الحكم في أهم بلدين رأسماليين امبرياليين، وعاد المحور الألماني-الفرنسي واليابان بقوة إلى الساحة الدولية. تكثفت في هذه الفترة لقاءات التشاور السياسية والاقتصادية والتدخلات العسكرية في أفريقيا (تشاد،أفريقيا الوسطى، أنغولا والموزنبيق والزايير) وأمريكا الوسطى (نيكاراغوا، غواتيمالا، سلفادور) والمنطقة العربية (لبنان، الحرب العراقية-الإيرانية)... وكل هذه المناطق إما غنية بالمواد الأولية أو ذات مواقع إستراتيجية. في نفس الوقت بدأت مخططات "الإصلاح الهيكلي" تفرض على بلدان الأطراف والمحيط أما في داخل البلدان الرأسمالية الامبريالية فان إعادة هيكلة الاقتصاد أدت إلى تسريح الملايين من العمال في قطاعات المناجم والحديد والصلب والتجمعات العمالية الكبرى في الصناعة (السيارات، التجهيز المنزلي). كل هذه الأحداث والتغيرات لم تتزامن بمحض الصدفة، ولو عدنا اليوم إلى ما كان يقوله ريغن أو ميتران أو تاتشر لعرفنا أن التحضير كان يجري على قدم وساق لما يسميه البعض اليوم ب"العولمة المتوحشة" التي هيمنت على مراكز الإنتاج ومراكز المال ومراكز البث الإعلامي بالاعتماد على العناصر والأدوات التالية:1) القوة العسكرية الضخمة (وخاصة الأمريكية) التي كانت معدة لاحتمالات مواجهة الاتحاد السوفياتي بشكل مباشر أو غير مباشر والتي أصبح تمركزها في أوروبا غير مفيد، إضافة إلى القواعد العسكرية والأساطيل المنتشرة في كافة المناطق الإستراتيجية في العالم على الأرض وفي مياه البحار وفي الجو. هذه القوة العسكرية أعيد تمركزها بحيث يصبح هدفها التدخل في المناطق التي تعتبر أمريكا أن السيطرة عليها من ضرورات "الأمن القومي" أو المحافظة على المصالح الإستراتيجية الأمريكية. هذا بدوره أدى إلى توسيع نفوذ الاحتكارات الصناعية-العسكرية وقدرتها على توجيه السياسات الخارجية لبلدانها ومساندة المرشحين الذين يخدمون مصالحها. هذه القوة العسكرية اتجهت نحو المنطقة العربية والشرق الأوسط بعد أفول الاتحاد السوفياتي، مع إعادة انتشار للقواعد العسكرية لمحاصرة الصين وروسيا من الجانب الآسيوي لحدودها، وتحويل جزء كبير من القوة العسكرية التي كانت منتشرة بأوروبا (الأمريكية خاصة) إلى الخليج.2) الفائض المالي الهائل المتجمع بسبب المضاربة بالبورصة وسرعة حركة الأموال، والمركزة المكثفة لرأس المال الذي تمكن من إدماج العديد من المؤسسات البنكية والمالية والصناعية ذات القيمة المضافة العالية، وتملكها الشركات عابرة القارات أمريكية المنشأ في أغلبها، كما ابتلعت الشركات الكبرى العديد من المؤسسات الصغرى والمتوسطة على المستوى المحلي كما على المستوى العالمي. هذه الرساميل المتراكمة متأتية في جزء منها من الاستغلال الفاحش لعمال وأطفال ونساء بلدان المحيط والأطراف ذوي التكلفة المنخفضة بسبب انعدام أبسط الحقوق الاجتماعية. هذه الدول التي طبقت برامج الإصلاح الهيكلي ووصفات صندوق النقد الدولي فأصبحت أفقر من ذي قبل ومدانة لا تستطيع تسديد فوائد الديون فتقترض لسداد الديون أو فوائدها. إضافة إلى هيمنة الدولار الأمريكي كمرجع نقدي عالمي. 3) الجهاز الإعلامي والايديولوجي ووسائل الاتصال الحديث التي روجت إلى حتمية العولمة الرأسمالية وضرورتها وعودتها بالمنفعة على الجميع واستحالة وجود حلول أخرى غير العولمة بوجهها الأمريكي هذا الذي جربناه: نهاية التاريخ، أي الانتصار النهائي للرأسمالية، صدام الحضارات الذي يعوض الصراع الايديولوجي ضد الفكر الشيوعي، إلغاء الخصوصيات القومية والثقافية ونشر ثقافة "ديسني وماك دونالدز وكوكاكولا وفوكس نيوز" في كل أنحاء العالم. أي "التنميط" ومحو التعدد الثقافي والحضاري لصالح النمط الرأسمالي وقيمه التي يروج لها وفرضها في أرجاء العالم.4) أجهزة الأممالمتحدة التي تشرع النهب باسم"المجتمع الدولي": مجلس الأمن الذي يشرع العقوبات ضد من تعتبرهم أمريكا محور الشر أو الدول المارقة بينما تعطل أمريكا القرارات ضد الكيان الصهيوني باستعمال "حق النقض"، البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي تحولت منذ لقاء "سياتل" عام 1999 إلى أداة للهيمنة الأمريكية تفرض قواعد ملزمة للدول في المجالات الاقتصادية والمالية والتجارية والثقافية وتشرعن إلغاء الحماية الجمركية، والخصخصة وحماية الملكية الخاصة وحرية تنقل الأموال والسلع والخدمات، بشكل يؤثر في تركيبة المجتمع ومساره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويعيق تطوره "الطبيعي". أصبحت هذه الأجهزة وخاصة منظمة التجارة العالمية أداة لفرض العولمة ومفوضا رسميا من الاحتكارت الرأسمالية لكسر شوكة كل من لم يذعن لإرادتها. أما من رضي طوعا أو كرها بدخول اللعبة فإنها تذكره بالواجبات: فتح المجال كاملا أمام الرساميل والسلع والثقافة والخدمات الوافدة من وراء البحار، والبنك العالمي وصندوق النقد مستعدان لتقديم النصائح والدراسات والقروض لتسهيل هذه المهمة. 5) إضافة إلى هذه الأدوات فان وجود أنظمة حكم تمثل مصالح البرجوازية الكمبرادورية، يرتبط بقاؤها في الحكم بالمساندة التي تلقاها من الدول الامبريالية، هو شرط ضروري لنجاح الاحتكارات الرأسمالية في السيطرة على المنطقة العربية خصوصا ودول المحيط عموما. أما البلدان التي تمردت ورفضت تطبيق وصفات البنك العالمي فان وضعها الاقتصادي يبقى أحسن حالا من تلك التي أذعنت لرغبة خبراء ومحللي المؤسسات المالية العالمية. إن ضعف ثقافة المقاومة لدى الشعوب بسبب تسلط الأنظمة الدكتاتورية يسهل عملية الاختراق والهيمنة الخارجية والأمل في تحسن الأحوال ولو عن طريق التدخلات الخارجية. أما الإسلام السياسي الذي يمثل قوة هامة في المنطقة العربية فانه لا يقدم بديلا اقتصاديا وسياسيا لنتائج الهيمنة الامبريالية وإنما يتفاعل ويتكيف معها لأن قياداته تمثل شرائح التجار اللبراليين الذين يقدسون الملكية الفردية ويكرسون علاقات اجتماعية عمودية أساسها الطاعة العمياء والخضوع للقادة "أصحاب الأمر والنهي". نتائج العولمة: في تقرير صادر في ديسمبر 2006 عن المعهد العالمي لدراسات التطوير الاقتصادي (أو الاقتصاد التنموي) التابع للأمم المتحدة، يتبين أن 2 بالمائة من الأثرياء في العالم يسيطرون على 50 بالمائة من ثروات الكوكب، وأن نصف سكان العالم مجتمعين لا يملكون إلا واحدا بالمائة من هذه الثروات. الأثرياء الكبار الموجودون بأمريكا الشمالية وأوروبا واليابان يسيطرون على ما قيمته تسعون بالمائة من ثروة العالم. أما داخل كل بلد فان 10 بالمائة من الأمريكيين يسيطرون على 70 بالمائة من الثروة، ونفس النسبة في انجلترا تسيطر على 56 بالمائة من الثروة وفي ألمانيا على 44 بالمائة من الثروة... في نفس الوقت يوجد بأمريكا 35 مليون بشر عام 2005 "يجدون صعوبة في الحصول على قدر كاف من الغذاء لمنع الجوع" حسب تعبير التقرير السنوي عن الجوع الصادر عن وزارة الزراعة الأمريكية... في فرنسا واحد من تسعة من العائلات تعيش بمبلغ لا يتجاوز ثلاثة أرباع الأجر الأدنى الذي يفترض أن القوانين تضمنه. في داخل الدول الرأسمالية الامبريالية تركزت الثروات بين أيدي عدد قليل من السكان وتكاثرت البطالة والفقر والتشرد، رغم تراكم الثروات المنتجة داخليا أو المتأتية من فائض القيمة الإضافي نتيجة الاستغلال الفاحش لكادحي الدول الفقيرة. أما دول الأطراف فان نسيجها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي يتأثر سلبا بسبب القضاء على مقوماته التقليدية والزج بها في نمط استهلاكي لا قدرة لأغلب السكان بمجاراته. أن رفع الدعم عن المواد الضرورية وتناقص موارد الدولة من الرسوم الجمركية ومؤسسات القطاع العام، وخصخصة التعليم والصحة والنقل والمياه والطاقة وغيرها من الاجراءات تحرم ملايين المواطنين من أبسط شروط الحياة لأن نتيجة الخصخصة تكون دائما تسريح العمال بأعداد غفيرة وتدني مستوى الخدمات مع غلائها، وتدهور ظروف العمل. لم يبق أي مجال خارج الهيمنة والسيطرة الامبريالية بما في ذلك مجالات الثقافة والخلق والإبداع والمنتجات المحلية التي تختص بها بعض المناطق الزراعية في العالم أو الصناعات التقليدية... من سمات هذه الحقبة من العولمة الرأسمالية أن تقع الدعوة (والتطبيق) لحرية تنقل الأموال والسلع ويقع منع تنقل البشر الذين تضرروا من جراء هذه الاجراءات. إذ يتم التضييق على المضطرين للهجرة بسبب الحروب أو الظروف الاقتصادية التي خلقتها "برامج الإصلاح الهيكلي" من بلدان الجنوب نحو بلدان الشمال، كذلك التضييق على صادرات الجنوب نحو بلدان الشمال إما بدعم الدول الامبريالية للمنتوجات الزراعية أو بفرض رسوم ومقاييس صعبة التحقيق لمنتجي دول الجنوب على صعيد آخر فان أغلب مناطق العالم التي تحتوي على مواد أولية أو تمتاز بموقع استراتيجي هام تعاني إما من الحروب "الأهلية" (إفريقيا) أو من الاحتلال (العراق، أفغانستان) أو من التهديد المستمر( فنزويلا، سوريا، إيران، كوبا)، أو هي خاضعة تماما للسيطرة الامبريالية كمعظم البلدان العربية. أما فلسطين فان الوضع ازداد تعقدا بعد تطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني ومعظم الأنظمة الحاكمة العربية. وأصبح الكيان الصهيوني ركيزة هامة من ركائز العولمة والهيمنة الأمريكية على شعوب المنطقة وخيراتها. ورغم تعثر المشروع الأمريكي-الصهيوني في العراق ولبنان فان القيمة الإستراتيجية لجهاز دولة "إسرائيل" لا زالت ثابتة أو ترسخت أكثر باعتبارها الحليف السياسي الأول للامبريالية والحلف الأطلسي قبل تركيا ومصر وتمثل خطرا عسكريا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، خاصة بعد عمليات التطبيع المتتالية... لم تنجح في الإفلات من قبضة العولمة الامبريالية إلا الدول التي لم تطبق وصفات صندوق النقد الدولي. أما تلك التي انصاعت له فإنها عاشت هزات عنيفة وانتفاضات كالبرازيل والأرجنتين واندونيسيا، رغم تقديمها لنا سابقا كدول منتعشة الاقتصاد ومستقرة اجتماعيا بفضل تطبيق تعاليم المؤسسات الدولية.استخلاصات عامة: أ إن الاحتكارات الامبريالية والشركات عابرة القارات، مهما توسعت نشاطاتها على الصعيد العالمي تبقى ذات قاعدة قومية، وتخدم مصالح امبرياليتها أولا، كما فعلت الاحتكارات الأمريكية في العراق والفرنسية في أفريقيا الخ. ب إن القرارات المتعلقة بالهيمنة على العالم ما زالت تتخذ من قبل قادة الدول الامبريالية سواء في الأممالمتحدة أو في "مجموعة الثمانية" بالاتفاق مع مسؤولي المؤسسات الاحتكارية الكبرى والمنظمات المالية الدولية وبالتالي فان العولمة لا تعني إلغاء دور الحكومات والأنظمة في دول المركز، بل إن هذه الأخيرة هي التي تخطط وتدبر للهيمنة على العالم.ج ان انتخاب الرؤساء والأغلبيات البرلمانية في الدول الصناعية الكبرى يتم بمساندة من شركات كبرى صناعية-عسكرية-إعلامية، مما يضفي على العملية الديموقراطية (الانتخابات) العديد من الشبهات والشكوك في تمثيليتها لإرادة الشعوب، لأن الحكومات ليست محايدة وفوق الطبقات وانما هي نتاج موازين قوى طبقية، هي الآن في صالح الرأسمال الاحتكاري. د ان الصناعات الإستراتيجية ذات الصبغة العسكرية أو التكنولوجية ذات القيمة المضافة العالية لا يتم نقلها إلى بلدان المحيط والأطراف، بل تبقى متمركزة في الوطن الأم، مهما كانت تكاليف إنتاجها، باستثناء بعض عمليات التركيب أو تلك التي لا تتطلب مهارات خاصة، بحيث لا يتم نقل التكنولوجيا ولا تطوير المهارات الصناعية والتقنية إلى "العالم الثالث".ه إن المنتديات الاجتماعية العالمية أو القارية أو الجهوية تمثل حالة متقدمة منذ حوالي عشر سنوات، لكن لا يجب التعويل عليها لمحاربة الرأسمالية وتبعاتها، لأنها مجرد مهرجانات للشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة في البلدان المصنعة أساسا، تتم في أجواء احتفالية وخطابية، تعارض المظاهر الأكثر بشاعة لرأس المال الاحتكاري "ولبراليته المتوحشة" وما نتج عنها من حروب وفقر مدقع، لكنها لن تتحول إلى قوة فاعلة ضد الرأسمالية، وضد الاستغلال الطبقي والقهر القومي لأن ذلك من واجبات ومشمولات أحزاب الطبقة العاملة إن وجدت، ومهمة العمال والفلاحين والمنتجين أنفسهم.و كلما تقهقر دور الدولة في إعادة توزيع الثروة والتخفيف من حدة الفقر في دول المحيط، أو كلما دمر بلد بفعل احتلال أو حرب أهلية، كلما تعاظم دور"المنظمات غير الحكومية" والعمل "الإنساني الخيري" الممول من قبل الدول والشركات التي تسببت في أصل المشكلة. خطورة هذه المنظمات تتمثل في تجزئة القضايا (الطبقية والوطنية) وتمييعها، فتصبح قضايا أفراد وفي أحسن الحالات قضية أطفال أو نساء أو أقليات لا رابط بينها وبين أصل الداء. وهي تتعامل مع الضحايا حسب برنامج أعده الممولون الذين لهم وحدهم حق الرقابة والمحاسبة فهي اليد العليا التي لا يمكن أن تحاسبها اليد السفلى. هذه المنظمات، مثلها مثل الجمعيات الخيرية الإسلامية- تحول قضايا المضطهين والمستغلين إلى قضية إحسان، وتشجع الانتظارية والاتكال على أهل البر والإحسان عوض التفكير في التعبير عن الغضب والثورة على الوضع القائم ومن تسبب فيه.ز يزعم اللبراليون العرب أنه بالإمكان بناء مجتمع رأسمالي (إنساني أو مؤنسن؟) في البلدان العربية لو توفرت الديموقراطية. موضوعيا، لا يمكن للبلدان العربية والبلدان المستعمرة والمهيمن عليها أن تصبح مجتمعات رأسمالية مثل أوروبا وأمريكا واليابان لأسباب عدة: فالرأسمالية هي نتاج لعدة قرون من التحولات والتراكم والهزات العنيفة إلى أن بلغت مستوى الهيمنة والعولمة الحالية. أما البلدان العربية، وغيرها من المستعمرات وأشباه المستعمرات، فان الامبريالية أوقفت عملية التطور "الطبيعي" بها وألحقتها باقتصاديات المركز منذ القرن التاسع عشر كأسواق ومحميات تابعة لها. ويعود فشل التجارب في مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن في بناء اقتصاد وطني متحرر من الهيمنة الامبريالية إلى طبيعة الطبقات التي قادت هذه التجارب والتي توهمت أنه بالإمكان إعادة ما حصل في أوروبا في القرن 18 و19، فلا هي حازت رضا الامبريالية التي لم تكن في الأصل معادية لها، بل طمعت في مساعدتها، ولا هي حررت شعوبها التي حكمتها بالحديد والنار، رغم الخطب الفجة والرنانة. لا يمكن في عصرنا الحالي فصل قضية التحرر من الامبريالية وبناء اقتصاد وطني، عن قضية الديموقراطية الشعبية، أي عدم حصر قضية الديموقراطية في الأحزاب والانتخاب فقط، وإنما في الرقابة الشعبية لعملية التخطيط والإنتاج والتوزيع والاستهلاك. أما الهدف الاستراتيجي فلا يمكن أن يكون غير الاشتراكية. الآفاق: عندما كتب ماركس وانجلس "البيان الشيوعي" عام 1848 كانا واعيين تمام الوعي بطبيعة الرأسمالية التي بدأت في عولمة السوق كضرورة حياتية لتصريف الإنتاج الزائد عن حاجة السوق المحلية ولضمان التزود، بأبخس ما يمكن، بالمواد الأولية اللازمة لعملية الإنتاج واستثمار الرسام يل المتراكمة من جراء عملية الاستغلال. من هنا جاء الوعي بضرورة عولمة النضالات العمالية في مواجهة عولمة رأس المال المجسد في شعار "يا عمال العالم، اتحدوا" وفي بناء الأممية العمالية الأولى. ما أضافه لينين يعتبر تحيينا لهذا التحليل والاستنتاج الماركسي، في مرحلة الامبريالية، وبالتالي فان الشعوب المستعمرة والمضطهدة هي حليفة عمال العالم في النضال ضد الرأسمالية في عصر الامبريالية. كيف يمكن للماركسيين العرب، في الوضع الراهن، تجسيد هذا الشعار والعمل على ربط مناهضة الامبريالية بالنضال من أجل بناء مجتمع اشتراكي؟أولا: التوثيق وتبادل الإعلام عن أشكال الهيمنة في كل بلد وأشكال النضال التي وجدت ضدها ونقدها بهدف تطويرها. ثانيا: رسم خطة مشتركة بهدف التعريف بنضالات الطبقة العاملة في كل قطر وأشكال التضامن والمساندة الممكنة. ثالثا: المشاركة في المنتديات العالمية بخطة موحدة هدفها الدفاع عن قضايا العمال العرب وشعوب فلسطين والعراق، وطرح مساندة مقاومة الشعب الفلسطيني من منطلق مناهضة العولمة الرأسمالية وممثلها في المنطقة، الكيان الصهيوني. رابعا: العمل على بناء تحالفات (جبهات) قطرية وعربية لقوى اليسار المناهض للامبريالية والدكتاتوريات المحلية وعدم إفساح المجال للإسلام السياسي واللبراليين للمزايدة باسم الديموقراطية.خامسا: تكوين تنسيقية شيوعية عربية كخطوة نحو تكوين أممية شيوعية تأخذ قضايانا الخصوصية على محمل الجد. حركة القوميين العرب