وتمر الأيام.. «25 يناير».. «11 فبراير».. للمرة الثالثة بعد ثورة الشعب في العام 2011، تعيش مصر أجواء غامضة في ميادين الثورة وخارجها. ويخرج «الإخوان» بعد عام كبيس من رأس السلطة، التي حلموا بها وواتتهم الفرصة فانتزعوها، وخلقوا التفجيرات والسيارات المفخخة التي تحمل ملامحهم في الشوارع والحارات، وتتولد عن هذه الأجواء المشحونة بالخوف والقلق اسئلتها الضرورية، أين نحن الآن؟ وماذا جرى؟ هل حقا عاشت مصر حلم الثورة أم كابوسها وشبحها؟ أين المأزق؟ ولماذا لا نصل بعد إلى بر الأمان؟ إلى متى يظل المصريون يطرحون الأسئلة، ويشخصون النظر فيرتد إليهم البصر خاسئاً وهو حسير بلا إجابات؟ وخشيت وأنا أشاهد أعراض حالة الشك التي نعيشها ويتسرب اليأس إلى المصريين في قدرتهم على التغيير والنهوض إلى المستقبل الذي يستحقونه، برغم طوفان فوراتهم وتعدد موجاتها الهادرة في درب الحرية. ما هي الحقيقة بعد كل ما جرى خلال ثلاث سنوات من تداعيات ثورتهم، ومتى ومن أين يبزغ الأمل؟ { كيف يري الأستاذ هيكل حصاد ثلاثة أعوام من خروج المصريين في ثورة على حكامهم وحكوماتهم، ما هو تفسيرك لتلك الحالة الدائمة من «الفوران» بعد عقود من الكمون وإستبعاد الثورة؟ وهل نحن ازاء حالة سوف تستمر طويلاً أم مرهونة بوصول من يثق به المصريون في صناعة طريق الأمل؟ في كل ما سمعت منك حتى الآن الكثير عن قضية الثورة. ذكرت مرة «ذلك يوم من الثورة»، وتحدثت عن «نجاح الثورة»، وأشرت إلى «إحباط الثورة»، ثم تكررت كلمة «الثورة» عدة مرات. وجهة نظري مركبة بعض الشيء، ولعلي أتمكن من شرحها. { لعلك لاحظت منذ «25 يناير» 2011، أنني اقتصدت في ما كتبته أو تحدثت به في استعمال كلمة «الثورة»، وآثرت أن أستعمل «حالة ثورة». على نحو ما، كان شعوري أن شيئاً ما تغير في هذه القضية. الثورة كما عرفنا من سوابق التاريخ دورة كاملة متصلة: شعب غاضب لا يستطيع احتمال ما هو فيه، وينتفض لتغييره. فكرة أو تصور يبشِّر بقدرته على وعد المستقبل. قيادة مُعتَرف بها تقود الجماهير في طلب الفكرة أو التصور. النظام القديم يسقط. والأفكار والمشروعات الجديدة تحت قيادة النخَب الجديدة تضع نظاماً يحل محل نظام. دورة كاملة مثل قصة مكتملة: قصة تدور على مشهد (وطن) لها بطل (على مستوى شعب) ولها ذروة (سقوط نظام قديم) ولها عقدة تنفك وينزل الستار (بعد مجيء نظام جديد يحل محل نظام قديم). ذلك حدث في الثورات التي نستطيع رصدها في الزمن القريب، سواء تلك التي نجحت في بلوغ هدفها، أو التي فشلت. الثورة البلشفية كانت كذلك، أي أمة مستعبدة لقيصر مستبد، وفكرة الشيوعية تطرح نفسها، ثم حلم موعود. وهناك حزب منظم يقوده لينين، وطلائع ثورية معه، يستولون على السلطة، والقيصر يسقط ومعه كل أسرته (أسرة «رومانوف»)، والنخبة القائدة (الحزب الشيوعي) تدخل بأفكارها ونظرياتها كي تحكم. ذلك أيضاً وقع في الثورة الإسلامية في إيران. الشعب الإيراني غاضب من نظام «الشاه»، وآية الله الخميني يقود ثورة تطيح بأسرة بهلوي، ثم يتقدم الخميني إلى السلطة بمرجعية الإمام الغائب، وتقوم الجمهورية الثورية الإسلامية على أنقاض عرش الشاهنشاه (ملك الملوك). عندنا في مصر مثال قريب من هذا النوع، هو ثورة «23 يوليو» 1952. شعب غاضب، شباب من الجيش يقودون حركة عصيان، الملك فاروق يخرج ومعه أسرة محمد علي، روح الثورة تصنع زعامة وطنية ضد قوى الاحتلال حتى تفرض عليها الجلاء، ثم وبقرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس تكتمل دائرة الثورة. الدورة كاملة، وهي طبيعية حتى في أحوال تسارع حركتها أو تصاعدها إلى درجة العنف، تبقى الدائرة موصولة: لها بداية، لها ذروة، لها نهاية. { إذاً، في إطار «الدورة الكاملة» التي تتحدثون عنها، ما هو موقع المشهد في مصر منها؟ تعال الآن إلى «حالة الثورة»، «حالة الثورة» من النوع ذاته، لكن فصيلة مستجدة جاءت بها تطورات العصور. «حالة الثورة» هي رفض وتمرد على وضع قائم وغير قابل للاستمرار، وحركة متدافعة، وسلطة قديمة تسقط، ولكن برغم الحركة الجارفة للجماهير وهديرها، فإنه ليس هناك فكرة جامعة تحشد للمستقبل، وليس هناك قيادة مُعترف بها تقود الحشد وتوجهه، وإنما فراغ يمنع الدائرة من أن تكتمل. الفراغ في بعض اللحظات يدعو جماعات وتنظيمات وحتى أفرادا إلى الساحة، أو لاقتحامها أو التسلل إليها، لكنهم ليسوا من معدن الحدث، ولا من طبيعته، وكذلك تبقى الدائرة مفتوحة ولا تتصل، لأن الحركة انفجرت قبل أن تجد فكرتها، وقبل أن تجد قيادة تعبِّر عن سلطتها وتقيم نظامها. وذلك بالضبط ما جرى في مصر، الثورة طلب للتغيير بلا تصور يجسد طموحه، وبلا قيادة تمثل شرعيته. الأحزاب القديمة الموجودة على الساحة لا تملك فرصة ملء الفراغ، لأن الزمن تجاوزها وابتعد. وهناك تيار إسلامي لا يستطيع هو الآخر ملء الفراغ، لأنه بالطبيعة تيار محافظ، وتناقضات التاريخ البعيد بما فيها صراع المذاهب تسكنه، والثورة بالضرورة حدث جديد آن أوانه، وحركة مستقبل لم يعد قابلاً للحل إلا بوسائط العلم، وكذلك تبقى الإشكالية من دون حل. وفي ظرف «الثورة»: هناك سؤال وهناك جواب. وفي ظرف «حالة الثورة»: هناك أسئلة، وليست هناك إجابات، وهناك حركة لكن هدفها يتعثر وهو حتى الآن لا يحقق وعده. هي إذاً بدايات لا تلحقها نهايات. وكذلك فإن «حالة ثورة» تواصل حركتها بالقلق وبالعصبية، وتكاد تُقارب الفوضى، أو تتحول بالفعل إلى فوضى، لأنها تدفق تلقائي، ليس لديه مسار معلوم، وليس في آخره مصب معين؟ { لو كان التدفق تلقائياً ومسار المستقبل غير معلوم، نحن إذاً أمام مأزق أو حالة من السيولة التي تحمل مخاطر جمة؟ أنت تسأل وأنا معك أسأل: أين المأزق؟ ولماذا لا نصل؟ ولماذا نطرح السؤال ولا نجد الجواب؟ وهل هناك خطأ؟ أما الرد فهو: انه ليس هناك خطأ، وإنما هي طبائع أشياء، أو بالتحديد طبائع عالم وعصر. متغيرات الزمن والعصر غيَّرت أشياء كثيرة مما عرفناه وألفناه. في أزمنة مضت كان العالم عبارة عن دول لها حدود سياسية معروفة، ولها سيادة على إقليم محدد، لكن هذا الوضع سواء اعترفنا أو أنكرنا لم يعد موجودا. الأمر الواقع الآن أن العالم كله حاضر ونافذ في كل بلد، داخله، في قلبه، فاعل مؤثر فيه ومن داخله. العصر كذلك قادر على اكتساح الخطوط والحدود بوسائل لم تكن تخطر على بال، كنا دائماً نتحدث عن ثورة الاتصالات، لكننا لم نتصور أن ثورة الاتصالات ستنفذ إلى عمق حياتنا، بل إلى عمق العمق من حياتنا. وسائل الاتصال الاجتماعي جعلت قضية الرفض والتمرد حركة عالمية عابرة للقارات، فهناك أجيال من الشباب في العالم ترفض أن تقودها رموز مراحل سبقت من بقايا الحرب الباردة، ومن بقايا المذاهب المتعددة التي شاركت في صراعات الحرب الباردة، أو حتى مما أعقب الحرب الباردة من انتفاضات مثل «ربيع براغ»، و«ربيع وارسو»، فكل تلك المراحل في رأي أجيال الشباب أشباح من الماضي، لكنهم أمام حاضر مليء بالاحتمالات، ومستقبل مفتوح على الآفاق، وهم جميعاً يطلبون حلماً لم يتحقق بعد، ولكنهم يطلبون وبمثالية تصل إلى حد العدمية أحياناً! الفراغ إذاً مستمر، والدوامات الداخلة إليه تلف به إلى درجة تدعو للدوار، والفراغ مفتوح كذلك على الخارج، والخارج على استعداد لأن يدخل إلى العمق داخله، إلى عمق الأوطان، والفراغ يتسع أو يضيق بمقدار درجة التقدم في أي بلد، فمع حركة التقدم يضيق الفراغ، ومع جمود التخلف تزيد الفجوة. { ماذا عن التداخلات والضغوط، وذلك العالم المعقد الذي يحيط بالثورات في عالم اليوم، والحالة المصرية ماثلة أمامنا؟ كانت هناك في ما عرفنا من تجارب احتمالات معروفة لما تستطيع قوى العالم فعله إزاء أي أوضاع لا ترضى بها في بلد من البلدان، أو إذا وقع نزاع وصراع مع هذا البلد. كانت هناك إمكانية تدخل في شؤون ذلك البلد بالدعاية والتشويه والتشهير أو غيرها من ضروب الحرب النفسية. وكانت هناك احتمالات ضغوط اقتصادية وسياسية يمكن أن تصل إلى حد المقاطعة والملاحقة. كما كانت هناك ظلال تهديدات عسكرية تلوِّح بالسلاح ضده وبالغزو. ذلك ما عرفناه من إمكانية تدخل وتداخل العالم والعصر في الشأن الداخلي لأي بلد سواء مكشوف بفراغ. التدخل وإمكانياته واحتمالاته وظلاله، تجري من الخارج، من خارج حدود هذا البلد. لكن التدخُّل الآن نافذ وعميق، يدخل بهما العالم والعصر إلى قلب أي بلد تظهر فيه ثغرة فراغ. يدخل إلى أهله في غرف نومهم، يؤثر في طعامهم وشرابهم، واصل إلى عقولهم وعقول أبنائهم والمحيطين بهم. نافذ إلى الرأي العام في هذا البلد وعلى اتساع رقعته. في المواجهات السابقة كانت الضغوط كلها من الخارج، ابتداءً من الضغوط النفسية إلى الضغوط الاقتصادية إلى التهديد بالسلاح. والآن اختلفت الوسائل، وفي الوسائل الجديدة فإن الضغوط تتولد من الداخل، وتتركز على مواقع التأثير، وتبحث عن عناصر تتلاقى مع وسائلها، والضغوط لها فعل الزلازل ترج وتهز وتكسر، وتؤجج التناقضات الداخلية حتى وإن وصلت إلى حد الحرب الأهلية. { إذاً... نحن أمام منظومة معقدة تسمى «ثورة»؟ هناك معضلة تتصل بعلم الثورة في حد ذاته، وقد أصبح بالفعل علماً مستقلاً ضمن منظومة العلوم السياسية. هناك متغيرات كبرى لحقت بقضية الثورة في حد ذاتها. في ما مضى كانت للثورة أوصاف ومواصفات معروفة. الثورة الفرنسية، أم الثورات الحديثة، كانت ضد الملك وأمراء الإقطاع وسطوة الكنيسة، عبَّر عنها الزعيم الثوري الأكبر «روبسبير» بقوله: «إن الثورة لا تحقق مطلبها إلا إذا شنقنا آخر قسيس بأمعاء آخر أمير». الفكر الماركسي وهو دليل الثورات الحديثة كان يتحدث عن فائض القيمة، واستغلال البشر للبشر، وديكتاتورية الطبقة العاملة باعتبارها ديكتاتورية الغالبية، والقطيعة الكاملة بين دولة الثورة وما بعدها، وضرورة تحطيم النظام السابق عليها، وملكية وسائل الإنتاج بتأميمها من الأرض إلى الصناعة إلى التجارة. هناك مستجدات كثيرة تغيرت، وقد زادت كمية المتغيرات على المستجدات، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوڤياتي، وكذلك بعد تجربة نمو الصين الأسطوري. بعد سقوط الاتحاد السوڤياتي وحتى من قبل سقوطه سقطت ديكتاتورية البروليتاريا لأربعة أسباب رئيسية: أولا: ديكتاتورية الطبقة العاملة أصبحت في الواقع ديكتاتورية بيروقراطية الحزب الشيوعي. ثانياً: ملكية الدولة لوسائل الإنتاج عن طريق التأميم لم تثبت نجاحها، وإن ظلت مشاركة الدولة في قيادة عملية الإنتاج لازمة، خصوصاً في العالم الثالث. ثالثاً: إن فكرة الديكتاتورية نفسها سواء لطبقة أو لحزب لم تعد مقبولة، وحتى في الدول الشيوعية السابقة فإن الاتجاه كاسح نحو التعددية الديموقراطية، وذلك نفي صريح لديكتاتورية الطبقة العاملة. أخيراً: إن فكرة فائض القيمة وهي الأساس في فكرة استغلال الإنسان للإنسان، أصابها نوع من الشرخ بسبب اختراقات تكنولوجيا العلوم، لأن التمكن من التكنولوجيا بالمعرفة، كما حدث مثلاً مع أغنى أغنياء العالم وهو بيل غيتس في شركة «مايكروسوفت» الذي حقق ثروة طائلة من دون استغلال الطبقة العاملة، وبيل غيتس مجرد نموذج وغيره آلاف، فالفكرة الجديدة الآن لدى رجل يمكن أن تكون مصدر ثروة خرافية له. هناك مشكلة أخرى كبيرة في قضية الثورة، وهي أن وسائل الإعلام الحديثة ألغت تقريباً دور الأحزاب السياسية المعبِّرة عن الطبقات الاجتماعية كما كان الحال سابقاً. ثم إن القادة الجُدد لم يعودوا نفس العقائديين الكبار، وإنما هم النجوم اللامعة في سماء الحياة العامة. الرئيس كينيدي في أميركا مثال، كانت الصورة هي التي صنعته، وليس الحزب الديموقراطي الذي اختاره مرشحا له من خارج السياق الحزبي. أكثر من ذلك، فإن السياق الحزبي لم يفرز من القادة الناجحين إلا من استطاعوا أن يصلوا إلى درجة النجوم، ومارغريت تاتشر في إنكلترا نموذج. رونالد ريغان نفس الشيء، نجم قام بدور الرئيس. كما أن باراك أوباما نفس الشيء، رجل من خارج السياق جاء ليقنع العالم بأن أميركا تغيرت. حتى الديموقراطية التعددية، التي حلت محل ديكتاتورية الطبقة العاملة، وعمادها المعارك الانتخابية أصبحت تحتاج إلى أموال طائلة، والأموال الطائلة عدو طبيعي للثورة من الأصل والأساس. لاحظ إلى جانب ذلك أن الصين وهي بلد ما زال يحكمه حتى الآن حزب شيوعي قوي، هو نفسه البلد الذي يضم أكبر عدد من أصحاب المليارات في العالم. أليست هذه بالمقاييس الطبيعية للثورة الشيوعية ظاهرة متناقضة بالكامل مع ماركس ولينين وماو تسي تونغ. ما أريد قوله باختصار ان قضية الثورة في حد ذاتها لم تعد تلك التصورات المعروفة والمحددة في الأدبيات الشائعة، وإنما هناك مستجدات أتت بها أحوال جديدة ما زالت تفور، ما زالت تتفاعل، ما زالت تغلي في الدنيا كلها، كما عندنا. هذه المستجدات مما عرضته كله من إشكاليات الثورة وقضاياها أضاعت قدرة أي بلد مستهدف على إدارة شأنه الداخلي، وأصابت استقلال قراره، وعطلت دولته بمصاعب تزيد وطأتها، والمجتمع مهدد بالانفراط في غيبة دولة تحمي تماسكه. وهذا البلد المكشوف يواجه حالة سيولة تصبح قابلة للاستمرار من دون حسم، فهي لا تتحول إلى دورة كاملة متصلة لها بداية ولها ذروة ولها نهاية. وفي حلقة لا تكتمل، فإن الدائرة تظل مفتوحة لثغرة أو ثغرات. إذاً نحن هنا أمام لحظات خطر في حياة الأمم، تتبدى فيها مخاطر حياة بلا سقف، ولا أرض، ولفترة قد تطول. { هل وصلنا لمنحنى خطر؟ أريد أن أضيف أن «حالة الثورة» كما عرضت لظروفها ومخاطرها ليست عقيمة إلى الدرجة التي تخطر على البال لأول وهلة. هي لحظة انكشاف وخطر صحيح لكنها أيضاً وحتى في ظروف ما قد نعتبره انفلاتاً وفوضى تحقق في وسط الزحام والتدافع والقيام والوقوع، ما يمكن اعتباره عملية فرز واختيار، وقبول وعدول، واختبار وامتحان. خذ ما حدث في الحالة الثورية التي عاشتها مصر من «25 يناير»، وما نحاول النظر إليه بأكثر مما يبدو على السطح فيه. ما جرى هو أن الشعب المصري من خلال القلق في البحث عن المستقبل، أجرى حتى من دون قصد عملية فحص ودرس شديدة الأهمية، وهذه العملية أظهرت لديه أشياء، وأنكرت أشياء غيرها: مناخ الفوران في مصر أظهر مثلاً أن قوة الجماهير عنصر أساسي في المعادلة الوطنية، وفعلها مؤثر، وتجاهلها خطر، لأن هذا الحضور لهذه القوة في المشهد العام أحدث فارقاً يدعو الجميع إلى الحذر في التصرفات، ويمهِّد لمشاركة من نوع ما، وذلك في حد ذاته إيجابي. مناخ الفوران أظهر أن البلد لا يريد حكما تسلطيا، وهذا ظاهر لا يحتمل الالتباس. مناخ الفوران أظهر أن الادعاء بالدين لا يكفي غطاءً لحقائق دنيوية، اقتصادية اجتماعية وفكرية. مناخ الفوران أظهر أن الأزمة أكبر من الحلول السريعة المسكِّنة. مناخ الفوران أظهر أيضاً أن ما يجري في أي بلد أعقد من اعتباره شأناً محلياً يخصه وحده، أو يمكن التغطية عليه بأي وسيلة، مهما تنوعت الأساليب، وذلك في حد ذاته، وبصرف النظر عن تعقيداته تنبيه قوي بأن تظل التصرفات في إطار ما يمكن شرحه للجميع والدفاع عنه. وتلك كلها إيجابيات أُضيفت إلى الحياة السياسية المصرية خلال فترة صعبة من البحث والتفتيش عن بداية جديدة لمستقبل مختلف في مصر. وهكذا فإن ما يتصوره بعضنا فوضى مطلقة أظهر أن له إيجابيات أكيدة، تساعد كما قلت بالفرز على سلامة الاختيار. بالفعل هناك سؤال بلا جواب، لكن الحركة الهادرة تركت على الأرض شواهد إيجابية تدعو إلى النظر، تدعو إلى البحث، تدعو إلى اليقظة، وهي تطرح المقاصد وتؤكدها من خلال عرض أحوالها. { الفوران في تلك الحالة يبعث طاقة إيجابية في شرايين الثورة ولا يعني المشهد بالضرورة الاستسلام لحالة نفسية قاتمة. كي أشرح لك ما أتصوره في «حالة الثورة» من منظور مختلف، دعني ألفت نظرك إلى أن المسألة ذاتها جرت وبنفس مستجدات العصور في الأدب والفن، كما في قضايا السياسة، وضمنها قضية الثورة. نهايات تظل عالقة لبعض الوقت، أعمال أدبية وفنية بغير نهايات تقليدية، تترك الدوائر مفتوحة ولا تقفل الدائرة عليها. في الأدب والفن خذ الرواية المسرحية مثلاً. أنت تذكر مسرحية في «انتظار جودو» لصموئيل بيكيت، أليس صحيحاً أنها بلا بداية، وبلا ذروة، وبلا نهاية؟ المسرحية من لحظة رفع الستار حتى نزولها، رجل واحد جالس على مقعد، يفكر في شيء ينتظره، وهذا الشيء لا يجيء، والرجل يحاور نفسه بصوت عالٍ يرتفع بالصياح، وينخفض بالهمس في بعض المواضع، وهو بمفرده على المسرح، مربوط إلى مقعده. هذه ليست مسرحية ولا قصة على النحو الذي كنا نعرفه من فلوبير إلى تشيكوف، ومن هيكل (باشا) إلى نجيب محفوظ. عند هؤلاء جميعا كانت القصة خطاً متصلاً، سياقا له بداية وله ذروة أو عقدة أو حبكة وله نهاية وله خاتمة، أو لحظة نزول ستار. الآن اختلف الوضع. ما رأيناه ونحن نشاهد رواية «في انتظار جودو» هو بطل في «حالة شك». في الموسم المسرحي الأخير في لندن شاهدت مسرحيتين، مسرحية «الملكة» التي قدمتها الفنانة الرائعة هيلين ميرين، يلفت النظر الى أن المسرحية كلها عرض لعشر مقابلات بين ملكة إنكلترا، وبين كل رؤساء الوزارات في عهدها، من ونستون تشرشل (رئيس وزرائها الأسطوري)، إلى دايفيد كاميرون (رئيس الوزراء الحالي من دون أساطير). حوارات الملكة مع رؤساء وزاراتها تمس شواغل بريطانيا السياسية على اتصال أكثر من ستين سنة. هي ليست قصة، وليست مسرحية. وإنما هي «حالة»، «حالة سياسة» بلا بداية، وبلا ذروة، وبلا نهاية. «حالة» مثل «حالة الثورة» تماماً. المسرحية الثانية التي شاهدتها في الموسم الأخير اسمها «تشيمريكا» وهو لفظ يجمع بين اسم «الصين» واسم «أميركا»، والمسرحية عن قضية العلاقات المتشابكة بين الولاياتالمتحدةوالصين. وهي استعراض للعلاقات بينهما. بلدان في مجال القوة، أحدها يبدو نازلاً عن عرشه، والآخر يبدو متردداً أمام العرش، ويخشى أن يصعد إليه، على فرض أنه في هذه اللحظة يقدر. هذه أيضاً ليست قصة ولا مسرحية بالمعنى المتعارف عليه تقليديا. هذه «حالة بحث عن الآخر»، وليست مسرحية لها فكرة، ولها بطل، ولها عقدة أو حبكة، أو نهاية. هناك شيء جديد طارئ، علينا أن نضعه في فكرنا، ونحن نبحث عن حقيقة ما جرى في مصر، ويدعونا إلى القلق لأننا لا نرى نهايات نتوقعها، لبدايات رأيناها. لنا أن نسأل: ما الذي جرى؟ كان هناك سخط يتنامى إلى درجة الغضب من نظام مبارك. وكان هناك رفض لفساد واستغلال تفشى في زمانه، وترهل إزاء التدخل الأجنبي، وصل بمصر إلى درجة الأمر والإملاء، خصوصاً من جانب الولاياتالمتحدة. بالإضافة إلى انعزال عن الإقليم، وفي نفس الوقت توظيف للدور المصري في الإقليم أفقدت هذا الدور جاذبيته. وغَضِبَ الناس وكان لا بد من أن يغضبوا، وتَمرَّد الناس وكان لا بد من أن يتمردوا. لكن الحكم المتسلط لم يترك للقوى السياسية فرصة أن تتجمع، وبقيت هذه القوى شظايا متناثرة. وفي الوقت نفسه، فإن التنظيمات السياسية التقليدية عجزت لأنها بالحصار من حولها، وبالقصور عن فهم متغيرات العصور لم تعد قادرة على طرح يقنع الناس لا بفكرها ولا بفعلها. وفي الوقت ذاته، فإن وسائل العصر تحولت إلى عملية اجتياح بظهور الإنترنت ومشتقاتها من الرسائل الإلكترونية، والصور والأفلام التي لا تحفظ سراً، ولا تنتظر تدقيقاً أو تحليلاً، وإنما كله موجات غاضبة متلاحقة، «تسونامي» يجرف كل شيء أمامه. وفي وقت من الأوقات كانت الأحزاب تتحدث إلى طبقات: طبقة عاملة تخاطبها الأحزاب الشيوعية أو طبقة متوسطة تخاطبها الأحزاب الليبرالية أو طبقة تقليدية تخاطبها الأحزاب اليمينية. والآن تغير كل شيء، فقد نزل الطوفان على الجميع وبوسائل مستجدة، إلى جانب وسائل سبقت مثل الصحافة والإذاعة والتلفزيون. أصبح الخطاب السياسي وحتى الدعوي والأخلاقي والتحريضي والقتالي، واصلاً إلى كل عقل وفكر وأعصاب، في نفس اللحظة. { كيف إذاً توصف مشهد ما بعد «25 يناير» في ظل كل الاعتبارات والمسارات السابقة؟ ظروف «25 يناير» نموذج حي ل «حالة الثورة». انفجار مستحق على حكم ضاع منه الصلاح والصلاحية، وطلب التغيير الثوري دائم، والنتائج غير محددة، لأن العالم اتسع، والحركة تتسع مع اتساعه، والحلول ليست عقدة نفكها ثم ينزل الستار، ويذهب كل واحد إلى بيته: الأبطال والمتفرجين وعُمال المسرح. هذا لم يعد صحيحاً ولا دقيقاً ولا كافياً. وذلك هو ما غاب عن كل الأطراف التي كان عليها تصريف الأمور بعد «يناير 2011». لا أعرف إذا كنت قد استطعت أن أشرح لك ما أفكر فيه، ولكن ما أقوله باختصار ان التفكير بالأساليب القديمة لم ينفع ولن ينفع. نحن أمام سؤال عن المستقبل غير محدد، والسائلون هم الشعب بأكمله، بل وأتجاوز وأقول أمة بأسرها. وليس هناك جواب قاطع بالضرورة، لأنه ليس هناك سؤال محدد، ولا مسؤول معروف. ما هو الممكن في هذه الأحوال؟ الممكن في ظني هو أولاً محاولة تفهم «حالة الثورة»، وساحتها الواسعة، وطبيعتها المختلفة. والخطوة التالية نحو الحل، نحو إمكانية الحل، هي تحديد مجالات ومسارات وملفات على رقعتها، تصب فيها روافد السيل الثوري الذي لا يتوقف عن الزحف. والخطوة الثالثة تتبُّع كل مجال ومسار وملف، وملاحقته، والتصرف حياله. هناك مسار اجتماعي في بلد تردت أحواله وزادت فيه فوارق الثروة (وهذه ظاهرة واقعة في أميركا وإنكلترا، لكنها في مصر تصل إلى حد البذاءة). وهناك مسار اقتصادي لبلد تعرَّض للنهب بأكثر مما علا فيه العمران. وهناك مسار علمي وتعليمي في بلد خرجت جامعاته من قوائم التصنيف العالمي للعالم المتقدم. وهناك مسار فكري وثقافي، ديني وإنساني، شاع فيه الخلط والتبست القيم، وضاعت الحدود بين الأصول والفروع، وبين الدنيا والآخرة، وبين الفوضى والأمل! ولولا ان القوات المسلحة المصرية تحملت مسؤولية حماية حركة الجماهير، حتى وإن لم تستطع توصيفها بدقة، لوصلت الأمور في مصر إلى ما وصلت إليه في بلدان عربية حولها، وما يمكن أن تصل إليه في أي مكان في العالم العربي من دون استثناء. ومن الغريب أن جماهير الشعب في مصر، وبحماسة التجربة التاريخية الطويلة، راحت تطالب وتسعى في طلب سلطة قوية، سلطة تستوعب ضرورات التغيير، وتفهم دواعي «حالة الثورة»، وتقدر أن تحمي المسيرة، وتقدر أن تفتح المسارات إلى المستقبل، واعية بأن الحركة إلى وراء مستحيلة، وأن الوقوف في المكان هو الآخر مستحيل. وربما ان جماهير الشعب المصري أدركت بالحِس قبل الفكر أن الطوفان لا يمكن صده في هذا الزمن الحديث، وإنما يمكن تنظيمه وفتح مسارات ومسالك أمامه تستوعب تدفقه وتستفيد منه، تماماً كما كان المصري القديم يفعل مع الفيضان، يفتح له الضفاف حتى يدخل إلى الأرض المحروثة، التي تناثرت عليها بذور الخصب، ثم يتناقص طوفان الفيضان وتتشرب الأرض الطيبة بفيضه، وحين يجف الماء تظهر الخضرة الجديدة تتلقى ضوء الشمس. إنني أطلت في محاولة شرح «حالة الثورة» في الزمن الحديث، لكني تصورت أن أفتح باب الاجتهاد في أحوال عالمية وإقليمية ووطنية مختلفة في كل ما نرى، وهي حالة تفرض علينا أن نعرف أكثر أن القصة ليست لها خاتمة سريعة وسعيدة، كما كان الحال في ما نسميه أحياناً «الزمن الجميل». إنني تكلَّمت في مجال الأفكار أكثر مما هو لازم، وربما بأكثر مما هو ضروري، لكني حاولت شرح أحوال، حاولت أن أشرح بالتحديد أنها «حالة ثورة»، فصيلة جديدة من نوع الثورة. دعنا الآن نعُد إلى الواقع إذا أردت. دعنا ننزل من سماء الأفكار التي أثقلنا بها على الناس إلى تضاريس الأرض، تضاريس السياسة في مصر هذه اللحظة. عن الاهرام