كما لو كان عصفور الغصن الأعلى ، أو نسرا لايرى مديحا للحرية سوى في الأعالي ، يوائم هذا الرجل بين روحه و الجبل، كما لو كان توأم الثلج الذي يفيض حرارة ، الجبل ظل حياته الأكبر ، رئته الأعظم المليئة بأكسيجين المحبة و الصداقة ، و زرقة السماء قلبه الفسيح . المختار بناني ، هكذا هو اسمه ، و صفته الوجه الثاني لأوكايمدن ، هذه المحطة الثلجية الفريدة من نوعها في المنطقة المغاربية و عموم شمال إفريقيا ، تاريخه و مساره يشتبك بتاريخ الرياضات الثلجية ببلادنا ، منذ فجر الاستقلال ، صادق أمجادها ، و قاوم من أجل بقائها ، و أغرى أجيالا متعاقبة بلا كلل و لا ملل ، و بنفس لا ينقطع أبدا ، من أجل تعلم لغة الجبل ، رياضة الصفاء و الحكمة . قد تلتقيه في مراكش ، و هو ابنها ، يسير بين دروبها مشمولا بمحبة أهلها ، لكنه كالطائر يدرك أن عشه الحقيقي يوجد في القمة ، يسير واضعا قدميه في السهل و روحه في الجبل . بوفاء نادر ، وهب المختار بناني المدرب الوطني و عضو اللجنة التقنية بالجامعة الملكية المغربية للتزحلق و الرياضات الجبلية، وقته و حياته و انشغاله الأكبر لتطوير هذه الرياضة و كسب طاقات جديدة لاستمرارها و تألقها . واضعا رهن إشارة أجيال متعاقبة ، ما راكمه من كفاءة و خبرة عمل بكد و إخلاص من أجل إغنائها على مدى ما يناهز خمسين سنة ، قادته إلى البحث عن كل ما يقوي قدراته في التدريب في مختلف عواصم الرياضات الثلجية بالعالم . و هو ما أهله ليكون إحدى العلامات البارزة لهذه الرياضة ببلادنا ، و إحدى ركائز تاريخها . الالتقاء بالحاج محمد المختار بناني ، هو الاقتراب من ذاكرة حية ممتدة في المستقبل . يتقاطع في مساره الشخصي تاريخ متشعب ليس فقط لرياضة التزحلق ، و إنما أيضا لازدهار الثقافة الرياضية ، و لحظات الصعود و الهبوط التي اجتازتها ، لناسها و أحداثها و حكاياتها الكبرى ، أو كما قال أحدهم عنه « إنه المخبأ الجوهري الذي وضعت فيه ذاكرة أوكايمدن أسرارها ..» ابن حي المواسين بعمق مراكش العتيقة ، التقطت أنفاسه الأولى و هو مازال طفلا متعة الرياضة من أب كان ممارسا للقنص و السباحة ، علمه منذ الخطوات الأولى أن الجسم السليم يضمن سلامة أكبر لحياة العقل و الروح معا . فكان أن تدرج في ممارسة الرياضة من خلال مرافقة والده و هو ما زال طفلا إلى أوكايمدن ، و منذ ذلك الحين أدرك أن في الجبل و الثلج نداء خفيا ، لحكمة واصل حياته من أجل اكتشافها . يذكر حينها أن أوكايمدن كان منتجعا جميلا ، و ملاذا لممارسي التزحلق من الأروبيين و خاصة الفرنسيين ، الذين كانوا يأتون إلى هذه القمة من مختلف أنحاء المغرب بل و من خارجه ، من أجل غاية واحدة هي التزحلق على منحدراته المكللة بالبياض . درس في شعبة التقنية بثانوية عرصة المعاش و تابع دراسته بثانوية الحسن الثاني إلى أن حصل على الباكلوريا . و كان تفوقه مدخلا لاستقطابه لمجال التزحلق . ففي بداية الستينات من القرن الماضي ، بادرت وزارة الشبيبة و الرياضة إلى انتقاء تلاميذ المدارس الذين أبانوا عن مستوى جيد في التربية البدنية ، و منحتهم تدريبا مجانيا في محطة أوكايمدن بمناسبة رأس السنة الجديدة . و طبعا كان من ضمنهم محمد المختار بناني الذي حصل على الرتبة الأولى في هذا التدريب ، و حينها و بفضل الموهبة التي أظهر ، قرر مدير مركز الشبيبة و الرياضة بمحطة أوكايمدن، بأن يحضر كل التداريب المُقامة ، وخصص له التجهيزات اللازمة للتزحلق . فكانت انطلاقة ناجحة لمغامرته مع هذا الصنف من الرياضة. لم يكتف المختار بناني بالمواظبة على حضور المعسكرات التدريبية ، بل عمل على تعميق ثقافته و صقلها من خلال استشارة كتب متخصصة كان يعمل على جلبها من الخارج ، لأن الأمر بالنسبة له لم يكن مجرد هواية و إنما دراسة تحتاج تعمقا أكاديميا و مجهودا علميا . و هي القناعة التي مازالت تحركه إلى اليوم ، دافعة إياه إلى البحث عن كل الفرص التي تتيح له مجاراة كل تطور في مجال التدريب . كان بناني الفتى يتدرب بأوكايمدن ، و هو يشاهد الأمراء و كبار رجال الدولة و أسرهم و الأطر الفرنسيين ، يقبلون على المحطة ، لممارسة رياضتهم المفضلة . و في سنة 1968 اقترح عليه مدير مركز الشبيبة و الرياضة أن يساعد في التداريب أثناء العطل المدرسية . و بعدما لمس اكتمال الكفاءة لديه سلمه بطاقة مدرب بحضور المهدي بن بوشتى وزير الشبيبة و الرياضة حينها ، الذي اقترح عليه ولوج معهد الوزارة بالرباط ، لكنه رفض رغبة منه في إتمام دراسته . في نفس السنة التحق بنادي مراكش للتزحلق و بالجامعة الملكية المغربية للتزحلق ، ليواصل مشواره كمدرب، مستفيدا في ذلك مما وفرته له الجامعة من فرص المشاركة في معسكرات تدريبية بالخارج كإيطاليا و فرنسا و بالمدرسة الوطنية للتزحلق و التسلق و إسبانيا و سويسرا و غيرها .. و التي حصل على دبلومات منها . دام ذلك طيلة سنوات السبعينات و الثمانينات و التسعينات إلى يومنا هذا، و كان آخر تدريب دولي يشارك فيه بسنة 2011 . و كان كل خبرة يضيفها إلى ما راكمه من كفاءة يضعها رهن إشارة ممارسي الرياضات الجبلية بالمغرب ، استكشافا لمواهب جديدة تعلن عن نفسها كأبطال للمستقبل . جالست الحاج المختار بناني ، بمناسبة تأسيس نادي الصحافة للتزحلق و الرياضات الجبلية ، فعثرت فيه على مخبأ ثمين لذاكرة تحضن عوالم و شخصيات و حكايات . فقد أشرف الرجل على تدريب عدد من رجالات الدولة المغربية و كبار شخصياتها و عدد من الوزراء. لكن الذكرى الأقوى بالنسبة له ، هي مرافقته للملك محمد السادس في جولة فوق الثلج دامت حوالي ساعة و نصف، خلال زيارته الوحيدة لمحطة أوكايمدن في يناير 2002 . يذكر بناني أن الملك كان يتصرف في غاية البساطة متحررا من أي بروتوكول ، بشكل يعكس احتراما لكل المواطنين بغض النظر عن رتبهم أو مناصبهم أو مواقعهم الاجتماعية . يذكر أيضا أن هذه الزيارة عادت بالنفع على المحطة و خاصة عندما التفت الملك نحو «التيليسييج « الذي كان غارقا في عطالة دامت طويلا ، ليسأل أحد الجنرالات الذي كان برفقته ؟ لماذا هو متوقف ؟ فكان ذلك كافيا لتجديد التليسييج و إعادة الحياة لمرفق مهم بالمحطة . و إلى اليوم يتمنى الحاج بناني التفاتة ملكية أخرى لمحطة اوكايمدن العالقة في شرك الإهمال المزمن الذي تظهر أعراضه في كل شيء ابتداء من الطريق المؤدية إليها ، و مرورا بالتجهيزات المتآكلة و البنى المهترئة .. تنتشر ثمرات العمل الصادق للحاج بناني بداخل المغرب و خارجه ، فكثير من الذين دربهم و أطرهم ، يتحملون مهام التدريب ببلدان أخرى ، و منهم بعض مدربي محطة دبي للتزحلق بالإمارات العربية المتحدة . يذكر هذا الرجل أيام مجد أوكايمدن ، حينما كانت في الستينات و السبعينات من القرن الماضي محطة راقية و نظيفة يقصدها عشاق رياضة التزحلق ، يمارسون فيها هوايتهم المفضلة باحترام كبير لرونقها و أناقتها . حينها كانت المحطة تعيش ازدهارا كبيرا . لكن بعد حلول سنوات الجفاف في الثمانينات تراجعت كثيرا ، و فقدت ألقها . و أضحت أشبه بزهرة جفت و ذبلت ، و لم يعد فيها سوى ذكرى عطر جميل . و بعد ذلك لم تستطع المحطة استرجاع ازدهارها بل دخلت في مسلسل تقهقر محزن. يأسف الحاج بناني لكون القليل جدا من سكان مراكش ، هم الذين يقبلون على ممارسة رياضة التزحلق ، رغم قرب هذه لمحطة من مدينتهم . فهي مهوى القلب بالنسبة للبعيدين ، الذين يشدون الرحال إليها من قارات بعيدة ، طلبا للاستمتاع بسحرها ، هي المصنفة ضمن أحسن مائة محطة ثلجية في العالم بكامله . يأسف أيضا لكون الكثير من الزوار المغاربة الذين يحجون إليها جماعات ، لا يأتون إليها بقصد استغلال ما توفره من إمكانيات لممارسة رياضة جميلة كما التزحلق . و لكنهم يقصدونها لنقل صخب المدينة إليها دون احترام لما تفرضه جمالية الفضاء من هيبة . إنهم يتناسون أن الجبل يعلمنا حكمة الإنصات لدواخلنا ، حيث الصمت نار مطهرة من الضوضاء الزائدة ، إنه يؤمّن رشاقة الروح . لأنه في التوتر و القلق نفلت اللحظة و يفوز الزمن و تنتصر الشيخوخة. المختار بناني اليوم شاب يجتاز الستين ، ذلك ربحه الأكبر من صداقة الجبل، كل يوم ينضاف إلى رصيده من الزمن يزيد روحه فتوة و تفاؤلا و بهجة . أقنعته مصاحبة القمم أن غناء العصافير يكفي لتغيير شكل الغيوم، و أن صوت الماء الذي يسري خفية ينطق بما تفكر فيه هدنة الليل، وأن الهواء الشهي في الأعالي يملأ القلب حلما ..