إحدى الفضائل المنصوص عليها، والمتفق بشأنها، والمنعقد الإجماع حولها، هي الكلام الموزون، والقول المحكوم، والتلفظ المسؤول؛ فَبِهَا تُنْتَسَجُ العلائق بين الأفراد، والجماعات، بين الشرائح، والفئات، والطبقات، وتَحْصُلُ الإفادة، والتقدير المتبادل، والثقة الضرورية، التي تستوجبها الأحوال، والمقامات. ما يعني، بتعبير آخر، أن تبادل الكلام، والخطاب أَيًّا كان مستواه، وأيًّا كان نوع وصنف المتوجه إليه، ينبغي أن يكتسب خُلُقًا، وصفاء، وصدقية وواقعية. فما نُلَوِّحُ به - أحيانا- من تافه الكلام، ولا مسؤول القول، وساقط الرأي بغية المداورة أو الإقناع، يعمل - في العمق- على تكسير قاعدة الأخلاق، والتطويح بعقد الصوابية والاجتماع، ومن ثمة، بالثقة الواجب توافرها في كل علاقة إنسانية، إذ هي مناط التقدم، والنمو، والاستمرار، ومواصلة الدأب والسعي لمعانقة الأفق المرسوم، والفضاء المعلوم. ومن نافل القول، التأكيد على تَرَجُّحِ هذا المعنى، أي، تَرَجُّحِ ما نذهب فيه وإليه، عن المسؤول على شؤون البلاد والعباد، فِيمَنْ تقلد مقاليد التسيير، وَأُعْطِيَ زمام القيادة والتدبير، فما بالك بتدبير شأن عام، شأن وطني يَمَسُّ المواطنين كافة في حالهم ومآلهم، في مسعاهم ومعاشهم، يومهم، وغَدِهم، حاضرهم، ومستقبلهم المنظور، وفق خطاطة جامعة مانعة، وتسطير مفكر فيه، واستراتيجية مرسومة، لها النقاط المفصلية التنموية سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، بَوْصَلاَتٌ، والإطارات المُزَمَّنَةُ والمبرمجة، مشاعلُ وقناديلُ هادية في مُضْطَرَب الضرائب، والموازنة، والأداء، والنفقات والاستغلال والاستثمار. لانُرِيدُ كلاما «مُرَصَّعًا» يُزَيِّنُ الحال المأزومة، ويستر العيوب الواضحة الفاضحة، ويملأ الثقوب بأكوام «التراب» الذي تذروه الريح المهددة القادمة. ما نريده كلاما مسؤولا، يتغيا الحقيقة، والوضوح، والواقعية، وينأى عن كل ما يخدش سمعة صاحبه قبل أن يخدش سمعة المتوجه إليهم. فالأمر يحتاج إلى تريث، وتدبر، وَلَوْكِ الكلام سبعًا بين الفكين، واللُّثَتَيْنِ، قبل إخراجه، وتصويبه نحو الهدف المراد، والغاية المبتغاة، والمرمى المنشود. سَيَسْتَبِدُّ الدَّهَشُ بالقارئ إذا فهم أن الغمز إنما هو من قناة مسؤول كبير، لعله أن يكون الرجل الثاني في التراتبية وطنيا، ولعله أن يكون رئيس حكومة، وأن يكون حامل لواء قوم لا يدخرون جهدا في التصايح اليومي، بالتلفيق الكلامي، وتزيين الشائن، والذهاب الصفيق إلى إقرار النجاح الحكومي، وتأكيد الطفرة التنموية الهائلة التي يعيش في مدها وخيرها ونعمتها، الشعب المغربي طرا. لعله كل ذلك، لعله الذي لم يٌفِقْ بَعْدُ من سكرة الحكم التي «باعها» له الصندوق/الفَلْتَه، والربيع الخديج، والخلطة/ الخبطة التي كانت قدر أوطان عربية، وشعوب. لسنا ضد قانون اللعبة الديمقراطية أبدا، فهي قد أتت بالفاشية «الموسولنية»، وبالنازية الهتلرية، وبالتنطع الإسلاموي المصري، والكبوة لا النهضة التونسية. لكننا ضد تسخير اللعبة في اللعب المتواصل، والضحك على الذقون، وَحَرْفِ الأمل إلى ألم، وتحويل الحلم إلى كابوس. ليس بالكلام تُمْلأ الخزائن، وترتفع أسهم الدول الديمقراطية، ويعلو ناتجها ووفرتها، ورقم نجاحها الاقتصادي، ومنسوب معدلها التنموي. وليس بالقفشات، والبلاغة البالية، والمَتْح من قواميس اللغة الميتة، تقاد الأمور، وتدبر الشؤون، وتعنو الوجوه، وتحمر الخدود، وتجري المياه، وتخضر الزروع، وتفيض الضروع. يشعر المتتبع، المكتوي بنار ما يجري، وشواظ ما يسمع، بالقرف أحيانا، وبالتقزز دائما، مما يسمع، وما يطلق من كلام على العواهن، كلام منفلت من عقاله، يراد به - غالبا- التعتيم، والتعميم، والتعويم. هكذا توضع الملفات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية الحارقة جانبا، ويعلق الدستور، وتتقدم - عوضا عنها وعنه - العضلات والأشداق، والأحناك، والأوداج، والزبد المتطاير من الأفواه، وقذف الكلام كيفما اتفق، بل والتزود بكلام فيه تحقير وتطاول على السامعين، وفيه تَنَفُّجٌ وغَطْرَسَة، وطاوُوسية تفضح صاحب الكلام. فما معنى : (غَادِي نَتْبُورَدْ عْلِيكُمْ)؛ وهي عبارة عامية قوية حمّالة أوجه، تتأرجح دلالاتها، وأوجهها بين الفروسية، والاحتفالية، والنخوة، والقوة، والفحولة، وَتَسَيُّد المضمار، وإعلان التتويج، وشق أديم الأرض بالنقع والغبار، وَعَنَان السماء بالطلق المثار والمغوار. «غَادِي نَتْبُورَدْ عْلِيكُمْ»، تعني ? في ما تعنيه - كيف للوضيع أن يلحق بالرفيع، وبالماشي أن يَطُولَ الراكب والممتطي- وكيف للمُنْتَظِر الجاف أن يَتَعَفْرَتَ، على الماء والغيث والرحمة . يقول باطن الكلام: أنا الرئيس، والخَيَّالُ والفارس المقدام، وأنتم المضمار أعمل فيه رَفْسًا وَوَطْءا، أستبيحه متى شئت، وكيف شئت، وأَنَّى شئت ، ويعني - من جهة أخرى- أنا الفارغ الأجوف، أنا القصبة التي تتماهى مع الفرس، أو «العُودْ» الذي خَيَّلْتُ» به ذات طفولة غضة تَنْتَابني بين الفَيْنَات. وإذا كنتم قرأتم - أيها المحترمون- ضُونْ كِيخُوتي : (دون كيشوت)، رائعة سِرْفَنْتِيسْ، فأنا هُو ضُونْ كِيخُوتي، محارب الطواحين، والأذرع العملاقة الشبحية التي تقض مضجعي، وتطرد عن جفني النوم. أنا من يرى القطعان السائبة جيوشا مدججة، تُجَرِّرُ الحديد، والأثقال، والنبال، فأنطلق نحوها ، غير هَيَّابٍ ولا جَزِعٍ، أريد دحرها وقهرها، برصاصاتي من «الفلين» ، وطلقاتي الطائشة، وَدُعائي - في آخر المطاف- عليها، بالموت، والهزيمة، والطاعون. «غَادِي نَتْبورَدْ عْلِيكُمْ»، ولم لا؟، وفي جعبتي أصْفار تنموية، وبرامج انتخابية ممحوة، ووعود عُرْقُوبية ممسوحة؛ وفي مفكرتي، عامان انقضيا في اللغة عَفْوًا في اللغو، لأن العفاريت- النَّفاريت زرعوا بطاريات في الكراسي، وجلبوا «الهَدْرَة» بذورا رَشُّوها في المقامات والمجالس، وقبة البرلمان، فإذا الحساسية زائرة ومقيمة طوال الوقت، تدفعني، بين العَطْسَة والأخرى، إلى الكلام، والاستزادة من الكلام من دون مَلاَم حتى أقضي أمرًا كان مفعولا. أما هذا الأمر، فهو «تَفْرَاقْ اللّْغَا» حتى يْجِيبْ الله السنوات الباقيات، وَهُنَّ - ربما- خير وأبقى. نعم، سيدي الرئيس : كيف بإمكانك طلق هذه العبارة النفاثة «غادي نتبوردْ عليكم»؟، والحال أن في الأمر ما يدعو إلى الرثاء، ويحمل على الأسى والشفقة. فمثل هذه العبارة لا يمكن أن تقال إلا إذا كان الحصاد وفيرا، والمنجز غزيرا، والمتحقق كثيرا. ف «التبوريدة» والتي هي تقليد ثقافي إبداعي شعبي، منبثقة من طقوس رعوية وزراعية، وخصب، وثراء، تزكو بها الأرض، وتفيض عنها السهول والبطاح، والهضاب، والمطامير، والأهراء؛ هي نتاج الخصوبة والفرح، وحاصل العمل والعرق، واحتفال الإنسان بنفسه، وبخيله، وبأرضه المعطاء، وبقدرته على الفعل، والمواظبة، والمزيد. هو ذا إطار التبوريدة ومعناها. فماذا عملت حكومة السيد بنكيران لِيَتَبَوْرَدَ رَبُّها، ماذا فعل ضُونْ كِيخُوتي ب «سَانْشُو» المسكين، الذي أعياه اللهاث والضنك، وهو يجري وراء سيده يراكم الأخطاء، ويصارع الهواء، ويُخْطئ التسديد؟ . كيف لا يتلعثم اللسان والحال أبْلَغُ وَمُبَلِّغٌ عن واقع يتلوى بين مخالب الحاجة، وتَمِيمة الانتظار، وَيَتَبَنْدَلُ بين المتحقق القليل، والوهم الكثير؟. كيف يتبورد المرء، والإفلاس الحكومي واقع لا مِرَاء فيه، ولا تَزَيُّد، ولا افتراء، ولا تحامل، ولا يحزنون. فالفشل صَارِخٌ في تدبير الشأن المالي والاقتصادي، والاجتماعي للبلاد والعباد. والمديونية، والاقتراض سَائِرٌ إلى -أجل غير مسمى- نَحْو الغرق، والإغراق، والارتهان إلى تدخل المؤسسات المالية العالمية في الشأن الداخلي بما يقلص من العيش الكريم لجهة التوازن المالي، وانكماش الدعم الاجتماعي. فهذه الاستدانة التي نشير إليها، تؤكدها الأرقام الضخمة، والمعطيات العلمية التي لاَ أَمَتَ فيها ولاَ عِوَجَ. فما يجري من مراوحة للمكان، ومراوحة للتدبير المالي والاقتصادي، يثبت - بما لا يدع مجالا للارتياب- عجز الحكومة البَيّن، وفشلها المكشوف في احتواء الأزمة، أزمة المالية العمومية بالدرجة الأولى. وفشلها -اسْتِتبَاعًا- في إيجاد بديل يكتسي فورية، بديل ذي طابع وطني تضامني إنقاذي، وجهد داخلي مؤسس على حكامة تدبيرية، وتحكم في التبذير، ومعالجة مسألة التضريب معالجة بناءة تأخذ وتساهم، وتبني، وتدعم الطبقة الوسطى من دون الإضرار بالطبقات التحتية. إن ما يَلُوحُ، وَ مَا يُلَوِّحُ به وزراء الحزب الأغلبي، يؤشر على أن الاستدانة والاقتراض من الخارج، أصبحا حلا لاَ مندوحة عنه، وملجأ لا يمكن تفاديه. زِدْ على ذلك ما يثار - الآن- من حل مالي واقتصادي آخر، ترى فيه الحكومة «الضونكيخوتية» مخرجا من المأزق، و»الوَحْلَة»، وهو الحل الذي يكمن في خَصْخَصَة ما تبقى من مؤسسات عمومية «مِدْرَارَة» «منقذة» من الضلال، و»التَّلْفَة»، كالموانئ والمطارات وغيرها. أمام هكذا مآزق ومضايق، ورهن ل «السيادة» الوطنية، هل بقي مجال للتبوريدة»؟، وهل تسمح النفس بذلك والأرض بَوَارٌ، والحصاد هزيل، والجدب والإمْحَالُ قائمان، والخيول ضوامر؟ فعلى من يَتَبَوْرَدُ بنكيران؟ يقول واقع الحال: إنَّهُ يَتَبَوْرَدُ على شعب، وشرائح اجتماعية معينة فيه، وقطاعات واسعة منه، مغبونة، تعاني الشظف، وقلة ذات اليد، ولا يَنِي الرئيس يكويها ويمحقها بالغلاء، وَيَسْلِقُها بالزيادة تلو الزيادة. لكنني أخاف أن تنقلب الأدوار، فَيَتَبَوْرَدُ الشعب على الحكومة؛ ولله درها من تبوريدة !، وَلاَت حين مندم.