سيرفانتيس والسماد الثقافي في سنة 1616، سيودع ميكيل دي سيرفانتس الحياة دون أن يندم على شيء، مثلما كان قبل 1605 سنة إصداره الجزء الأول من مؤلف ضون كيخوتي وهي نفس السنة أيضا التي مات فيها وليام شيكسبير وتم إعدام غاليلي من طرف الكنيسة. لكن بزوغ فجر جديد كانت ملامحه تتشكل على كل المستويات بشكل ينبئ بأن روايات ضون كخوتي ،وما ستؤسس له لاحقا، لم يكن أقل من الاكتشافين الهامين في عصر سيرفانتس : دوران الأرض (1610) وآلية الدورة الدموية (هارفي 1615) ، حيث إن مرحلة ثقافية وفكرية جديدة ستولد من رحم المغامرات الفردية المشبعة بخبرات إنسانية قاسية وعنيفة، وستؤشر على بداية أخرى في مسيرة الإبداع العالمي أمام تراجع شكل الملحمة لصالح السرد الروائي بمتغيراته انسجاما مع الرؤى والأحلام الجديدة التي ستسم العصر الجديد. وتعتبر رواية ضون كيخوتي علامة من علامات التحول وهي تتغذى من التجارب الذاتية، من الأحلام المجهضة والأوهام الشتى للذات في صراعها الأزلي مع دواخلها بعيدا عن الفوق طبيعي وصراع الآلهة وتمجيد النبلاء ?السادة. إن مسيرة حياة سيرفانتس ذات أهمية بالغة في فهم عمله الروائي خصوصا أهم المحطات المشكلة لملامح وعيه واختيارته. وهو في العقد الثاني من عمره، كان يحلم أن يكون شاعرا يدبج المديح ويرتق الرثاء في الأميرات العجوزات ويكتب الصبابة على ورق الأشجار، لكن حدثا عابرا بعد عام واحد من تفتق هذه الأحلام ومشاركته ضمن كتاب جماعي في ذكرى موت الملكة سيساهم في التحول، لأنه تعارك مع شخص يسمى في سجلات المحاضر انطونيو سيكورا، ويحكم على سيرفانتس بقطع يده اليمنى والنفي عشر سنوات. لكنه فر إلى إيطاليا محتفظا بيده التي ستكتب، بعد أزيد من ثلاثين سنة من هذه الواقعة، الجزء الأول من الضون كيخوتي. في منفاه الاختياري، كان عليه أن يجد بديلا للحلم المشتت، آنذاك كانت شخصية ضون كيخوتي كيشوت تولد، وهو يتمثل نماذج الذين يريد أن يكونهم، فاقتنع بأن كبار الشعراء كانوا من المحاربين، لأن الصراع هو الطريق نحو الإبداع الحقيقي والخالد، وهو مقدمة لتجاوز الفراغ الذي تملكه، حيث قرر الانخراط في حرب ضد الأتراك. لم تكن حربا بقدر ما كانت بابا وجسرا نحو مغامرات للذاكرة، فالأتراك المسلمون وصراخهم بالتكبير، صداه لن ينسى، لأنه سيترك علامة قاسية بيد سيرفانتس اليسرى، وضربات أخرى بصدره. بعد شفاعات وتوسطات كي يعود إلى بلده، حمل توصيتين دسمتين للملك الإسباني من نائب ملك نابولي، وأخرى من الأمير دون جوان النمساوي. لكن حظه الشاعري جعل الباخرة التي يركبها تحتجز من طرف قراصنة أتراك ويجدون عنده الرسالتين مما أغراهم بطلب فدية كبيرة إن هو أراد حريته. جولة أخرى في حروبه القدرية كمحارب بدون نياشين وشاعر بدون أقلام. سيحمل إلى الجزائر، رفقة أخيه رودريكو ضمن العبيد يرسف في الأغلال التي تقيد الرجلين واليدين ضمن 25 ألف أسير. ولأنهم سرحوا للعمل بأغلالهم كعبيد في جر العربات المحملة بالأحجار، والعمل بالأرض، فإن تفكيره كان حرا، يفكر في الهرب إلى وهران التي كانت تحت مراقبة الإسبان. خمس سنوات في الأسر بقيوده، شهدت ثلاث محاولات هرب فاشلة : الأولى مع مجموعة من العبيد، لكن "المرشد الدليل" تخلى عنهم، فزيد الحديد إلى قيود سيرفانتس عقابا له. المحاولة الثانية جاءت فاشلة بعد ما وشي به أحد الأسرى معه، وخلالها نجا من قطع أذنيه وأنفه جزاء له، من طرف باي الجزائر حسن باشا وتم الاكتفاء بحبسه، بعدما اشتهر بالمسيحي الشجاع الذي يحلم بالحرية. ومن داخل معتقله، كتب خطابا إلى الحاكم الإسباني بوهران بقصد التهييء لمحاولة هرب جديدة. لكن المرسل وقع في يد الجنود وأمر الباي بجلد سيرفانتس ألفي جلدة كانت ستقتله لا محالة، لكنه، مرة أخرى نجا بأعجوبة. في المحاولة الأخيرة، وكانت في فصل الخريف، هيأ للهروب رفقة 50 أسيرا، ومرة أخرى يخونه راهب حقود غير وفي، فيعاد سيرفانتس إلى السجن. بدون شك، هذه المشاهد السردية المخطط لها من مخيلة شاعر حالم ومحارب فاشل دفعت باي الجزائر إلى تخفيض فدية سيرفانتس للتخلص منه ومن مغامراته المشجعة للآخرين. خرج من القيد والأسر بحريته التي رآها مشروطة ونسبية، ولابد له من محمي يحتمي تحت اسمه بعد موت دون جوان النمساوي. فرحل إلى البرتغال حيث هناك بعض أصدقائه، لكنهم على عكس ما كان يرغب فيه، البقاء هناك في منصب محترم، كلفوه بمهمة في وهران، وطلب منهم الخدمة في الهند، فرفضوا، ورغم ذلك شعر بنوع من استقرار المحارب فخطت يده أول نص متضمن لبعض الأشعار بعنوان "كاليتي GALATEE" وهو إبداع من النوع الرعوي المشهور PASTORALE وبدأت شهرته تدب بين أصدقائه وغيرهم، ثم كتب نصوصا أخرى : نومانس والحياة بالجزائر، وهو يخلط بين السرد والشعر والمسرح، فبدا له أن طموح الشاعر فيه قد صار خافتا أمام رغبته أن يصير مسرحيا كبيرا. ولأن سيرفانتس يعرف كيف يدمر اليقينيات ويخلط أوراق اللعبة، فكل من اعتقد أن بداية هذا الاستقرار الذي دفعه للكتابة ومعاودة التفتيش في أحلامه ستتعمق بزواجه من كاطالينادي سالازار، إذ بعد ستة أشهر من هذا الزواج، سيهجر المسرح والكتابة لمدة عشرين سنة. ومثل ضون كيخوتي الذي تلهمه الذاكرة بمساعدة خياله المتراكب بخيالات الشاعر والمحارب والبوهيمي، فإنه سيسافر لوحده إلى سيفيا ويهجر زوجته لمدة 15 سنة، هناك سيعمل محصل ضرائب على الحبوب متجولا لهذه المهمة من مدينة لأخرى، مرهقا نفسه، يستعمل القوة مع الذين لا يدفعون. أأحس بعبثية ما يفعل فعاود طلب الانتقال إلى الهند، لكنهم رفضوا طلبه. وبعد ست سنوات من ذلك التاريخ، سينهي خدماته مستقرا بسيفيا يكتب الأغاني ويحيا عوالمه محتكا بعالم الشطار ويتعرض من حين لآخر لمغامرات غير مريحة. في سنة 1602 سيعود إلى زوجته، وهناك سيكتب الجزء الأول من ضون كيخوتي (1605)، والتي فتحت له باب الشهرة. وبعد عشر سنوات، يكتب الجزء الثاني قبل عام واحد من وفاته، وهو منهك بالآلام والأمراض والذكريات الكثيفة. كتب سيرفانتس قصصا ومسرحيات ونصوصا، لكن روايته ضون كيخوتي التي ألفها في لحظة نضجه واختمار خبراته، تشكل اليوم ملتقى لأسئلة التحول المتعلقة بالرواية والذات والمجتمع، حيث غذى سروده من أزمانه المتعددة والمضطربة ومن صراعاته في المعارك التي لا هدف من ورائها وهو محارب، أو في الأدب وهو يكتب شعر الرثاء في أميرات لا يعرفهن. وكأننا بسيرفانتس عاش حياة أولى وحياة ثانية بطريقتين يجمعهما ضون كيخوتي : حياة معيشة وأخرى مكتوبة دون أن نسميها سيرة ذاتية، لأنها ستصبح سيرة أجيال ونفوس مستمرة. وهو يحيا المعارك الوهمية لأمجاد هاوية ورحلات التيه والأسر الفانطازي والمنافي الأبدية والصراعات... اختار في النهاية أن يستريح ويكتب ضون كيخوتي ليختزل العالم المتحول. وليس مبالغة القول بأن ضون كيخوتي دشنت مرحلة جديدة في الآداب العالمي بتصويرها لشخصية من صميم المتخيل الكلي بعيدا عن الأسطورة وأقنعة الغيبي، وقريبا من سخامات وإحباطات النفوس المعذبة. والحاجة إلى ضون كيخوتي هي نفسها إلى سيرفانتس لاستمداد الاحتمالات الغائبة ومعاودة قراءة التراث الإنساني والعربي، وفتح محاضر جديدة لأسئلة مغايرة وعقد مقارنات جديرة بالانتباه بين ضون كيخوتي وسندباد وتيل ولازاريو... ثم تحليل خطابات الأدب الشعبي الشطاري ومرجعياته وآفاقه وممكناته.. وموقع الذات والرؤية وصياغات الباردويا والمحاكاة والأصوات بكل طبقاتها ودرجاتها وألوانها والحس الاجتماعي والمبدأ الواقعي والعجائبي ثم المتخيل الشذري... متخيل الرؤية في ضون كيخوتي كتب سيرفانتيس نص ضون كيخوتي انطلاقا من نسق ثقافي مزدوج : ثابت وآخر متحول، شكل سمادا ثقافيا حقيقيا للمرحلة المقبلة من الإرث الملحمي إلى جانب التقاليد الثقافية، والمكونات الأدبية - الحكائية الموازية التي تبحث لنفسها عن خانة وموقع. وقد كان الاحتكاك مدويا بأصوات مختلفة للطموحات السياسية وسلطة المؤسسات الدينية والرغبة الدفينة في البحث عن جواب لسؤال ضائع أو حركة حاسمة مفتقدة، لذلك هل يمكن اختزال الضون كيخوتي في كونها تنتقد عوالم الفروسية التي شكلت نظاما اجتماعيا قائما بأعرافه وتقاليده في أوروبا منذ القرن الرابع عشر ؟ في المقابل كان إبداع هذا النظام الفروسي حاضرا باعتباره شكلا تعبيريا متحققا بفرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى جانب إبداعات احتجاجية للشعراء الجوالين وقد فرضوا وجودهم الإبداعي العامر بالتخيلات الأرضية الرافضة لملامح مثقلة بخيالات سماوية غيبية. هناك عناصر قوية ستتبدى في الضون كيخوتي باعتبارها مرجعيات ومحركات دينامية للمتخيل الروائي حيث تساهم في تحقيق الوعي بتشكل نص جديد مارس خرقا ?بشكل من الأشكال ? على مواصفات جنس الحكي والحكاية. فبالإضافة إلى السماد الثقافي هناك الخبرات والتجارب الشخصية والحياتية للكاتب عبر الارتحالات المتعددة والحروب التي كان يبحث فيها عن مجد ومال، وعن ذاته في لحظة انتقالية مفارقة في تاريخ اسبانيا مع توسع الامبراطوية وتوسع الفوارق الطبقية وانتشار الشعور الديني. كما أن تمريناته الشعرية وتجربته المسرحية في الكتابة والمتابعة حيث كان يرى إبداعاته مجسدة وفاعلة بشكل مباشر في الجمهور، أي تحقق الفعل الثقافي والرؤية الفنية المرتبطة بالقارئ/الجمهور، أكثر من ارتباطها بالمفترضات. إن تحقق هذه الرواية كان ، بالتأكيد - نتيجة عوامل شتى أخرى، أبرزها نضجه بخبرات الحياة وتقلباتها وإدراكه لعمق اللعب والسخرية وبأن لا شيء يمكن أن يخسره وأنه لم يعد قادرا على الاستمرار في كتابة شعر عاجز عن الخلود، وعدم رغبته في تكرار كتابة نصوص الفروسية، كما أن التجربة المسرحية تظل الملمح القوي في خلفية الرواية. كل هذا شكل رؤية سيرفانتيسية لكتابة متصلة بالتمرد على بعض القواعد والثوابت، وعلى الانحراف الذي سببته روايات الفروسية. هل هو فعل تمرد حينما يلتقي مع رغبة الكنيسة التي كانت تطلق تنبيهات تذكر بالتأثير الخطير والضار الذي تنتجه روايات الفروسية على عقول الشباب ؟ إن رؤية سيرفانتيس، كما انبنت داخل الرواية، غير مفصولة عن مقولة الأدب الذي كان سائدا في تلك الفترة، لذلك فهو يفهم الرواية باعتبارها جزءا من التاريخ الذي يروي الحقائق عن المحن والصدامات الاجتماعية، وهي حيلة إيهامية يرسم عبرهامسارا من السخرية في كل مفاصل الرواية بجزئيها. يرد ذكر حامد بن انجلين أول مرة في الرواية (الفصل التاسع .ج 1. ص 75) بكونه مؤرخا عربيا ناسبا الرواية إليه باعتبارها تاريخا يحكي وقائع حقيقية ضون كيخوتي. ويرد في مقاطع مختلفة من الرواية ما يبرز هذه الرؤية بعمق واضح : - " أخي هذان الكتابان كاذبان، وبهما فيض من الترهات والتفاهات، أما هذا (القبطان العظيم) فهو تاريخ حقيقي" (ج1. ف 32. ص 271-272). - " الأحداث التي لا تعدل ولا تغير القصة لا داعي لكتابتها إذا كانت ستدور حول الزراية ببطل القصة، وأقسم أن إينياس لم يكن بكل هذا البر الذي رسمه فرجيل، كما أن أوليسيس لم يكن بكل تلك الفطنة التي وصفها به هوميروس. أجاب شمشون : - هذا حق، ولكن أحدهم يكتب كشاعر والآخر كمؤرخ، الشاعر يستطيع أن يحكي الأشياء ويتغنى بها، لاكما كانت، ولكن كما ينبغي أن تكون بينما المؤرخ يكتبها ليس كما ينبغي أن تكون وإنما كما كانت دون أن يضيف أو يحدف من الحقيقة أي شيء" (ج2. ف3. ص33). إن التصور الكنسي لروايات الفروسية ذات الرؤية الحالمة المفسدة لعقول الشباب، يستثمره سيرفانتيس بصيغة أخرى حينما يقود الضون كيخوتي إلى الجنون والوهم والابتعاد عن الحقيقة، من ثمة كان سعي الكاتب إلى بذر التناقض والسخرية في رؤية واقعية يمكن تلمس ملامحها منذ القرن الرابع عشر مع أليغري دانتي (ت. 1321) في الكوميديا الإلهية، وجيوفاني بوكاتشو (ت.1375) في الديكامرون، وجيفري تشوسر (ت 1400) في حكايات كانتربري، ونص لازاريودي تورميس لمولف اسباني مجهول (كتبت سنة 1552). وما يميز سيرفانتيس عن غيره ممن سبقوه هو بناء رؤية روائية تقبض على الذاتي والاجتماعي والتاريخي، رافضا الكتابة عن واقع يستسلم له ولمألوفيته أو يخضع لأسلوب الكتابة عن عوالم بدون رائحة، فهو كما لو أنه أراد أن يثأر من واقعين، الأول في الواقع بإحباطاته اللامحدودة ولا يحقق سوى الألم والفشل، والثاني في المتخيل/المرآة ولا يحقق سوى الحمق والجنون والتهيؤات. يشيد سيرفانتيس نصا حكائيا يرسم مسار مغامرات الضون كيخوتي رفقة تابعه سانشو، وما يقع له نتيجة تخيلاته المتوهمة وتقييماته للمواقف وما يتفرع عن هذا السرد من مسارات أخرى كحكايات ومشاهد أساسية. إن الرواية بجزئيها وفصولها (124) هي بناء روائي يلمس فيه التخييل عبر طريقة السرد وتفعيل الأحداث وما يصاحبها من أوصاف وتعليقات وتذكرات واستطرادات وحوارات وتوهمات. وتتوفر الرواية على محركات أساسية حققت دينامية التخييل الروائي، ومدت الرواية بالحياة الأدبية، محركات من قبيل الارتحال، الجنون، السخرية، التوهم، الحلم، الحيلة، الخداع، التنكر، العنف... وإذا كانت تيمة جنون ووهم الضون كيخوتي مركزية تشرع أبواب الفعل والحكي، بعدما قرأ كما كثيرا من روايات الفروسية التي فصمته عن الواقع ورسمت له طريقا مغايرا لواقع آخر، فإن سيرفانتيس قد استوعب هذه التيمة ليحولها إلى تقنية سيمارس بها اللعب الروائي بكافة أشكاله، وجعل من ضون كيخوتي بطلا يرى ويصور لنفسه ما يريد ويفعل ما يريد ثم ينفذ ويبرر أي نتيجة لصالحه. إن تشكل هذا الوهم كان إثر فضاء العجوز دون كيخوتي عمره كسوه متعطلا في قرية صغيرة، يبحث عن التسلية في قراءة مؤلفات الفروسية ومغامرات الأبطال، فامتلأ خياله بكل تلك الخيالات وجن شغفا بها حتى باع أرضه ليشتري كتبا ويستزيد من تلك الأوهام وصور المعارك وأنواع السحر والخصومات والتحديات والجروح والمجاملات والعشق والعذابات والتضحيات. إن رحلة القراءة والبحث عن متعة، رسمت شخصية أخرى بفعل "التأثير الضار على العقول" فتحول من الخمول والعالم المألوف العادي إلى عوالم تنفيذ البطولات، فقرر أن يكون فارسا، ليس من ورق أو على الورق وإنما في الواقع يبحث عن الأمجاد والمغامرات، يصلح الأخطاء ويواجه الأشرار. إنه يسعى إلى تحقيق صور شخصيات وفرسان في خياله، تتعدل في الواقع بحسب ما يريد أن يرى ويكون كما لو أن دون كيخوتي بعد الإشباع المتحصل من تلك القراءات تحول إلى كاتب عبقري في حين أن الواقع بشخصياته هو الصفحة البيضاء التي يكتب عليها مغامراته كما يريد. من نماذج هذا الوهم أنه رأى في فندق ريفي متواضع قصرا ورأى في امرأتين من بنات الهوى آنستين من صفوة القوم (ج1. ف2. ص37). ورأى في التجار، فرسانا متجولين فيستفزهم وينال العقاب، ثم يبرر ذلك بسبب فرسه روتينانتي (ج1. ف 4. ص49). يرى الطواحين الثلاثين أو الأربعين مردة خارقين وجبابرة فيحاربهم (ج 1. ف8. ص69). يعتقد أيضا ويتخيل الخادمة ماريتورنس بأنها ابنة صاحب القصر (وهو مجرد فندق عادي). كما تخيل قطيعا من النعاج جيشا فهاجمها وصار يبقر ويطعن فيها. ولم يكن تطريز الرواية بالأحلام من قبيل الضرورة الفنية، ولكنها بنية أخرى مدعمة، ذلك أن الواقع الذي يرسمه ويكتبه ضون كيخوتي يولد في اليقظة ويستمر مشتغلا في الحلم، وهكذا يتواصل دائريا محققا للرواية حياتها الأبدية غير المنقطعة (الحلم الوارد في : ج1. ف35. ص 303). إن رواية ضون كيخوتي، في المحصلة، نص ثقافي يقدم صيغة انتمائه للعصر/والعصور عبر التخييل محققا رؤية جديدة في التخييل والكتابة، وسيبقى نص سيرفانتيس مفتوحا على تأويلات جديدة باستمرار، لأنه حي متفاعل تتوفر بداخله عناصر مقاومة التلاشي والبرودة وقد وجد ليحيا في المستقبل ويتغذى من التطور الأدبي والنقدي ويدوم بفعل حيوية التأويلات. إحالة : ميجيل دي ثربانتيس سابيدرا : الشريف العبقري ضون كيخوتي ديلامنشا. (ترجمة سليمان العطار). القاهرة. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. رقم 472 و473. ط1. 2002. مصر وبالطبع ظهرت أيضا العديد من الترجمات الموجزة والتلخيصات للزطفال والفتيان أو الأغراض المناهج الدراسية، نذكر منها: لجبرا ابراهيم جبرا عن داغر ثقافة الأطفال في بغداد الثمانينات، وتعريب وتلخيص لأكرم الرافعي (للفتيان) عن دار العلم للملايين الطبعة الألوى سنة 1994 والثانية سنة 2000م، و،طبعة أخرى في تونس سنة 2004م، صياح الهجم - موجز عن الفرنسية - عن دار الفكر اللبناني في بيروت 1999م، نسخة من اقتباس ومراجع للكدتور جوزيف إلياس عن دار العلم للماليين، الطبعة الثانية سنة 2000 معدة لمناهج الدراسة الثانوية، (ضون كيخوطي) عربها ويسرها للشباب عبد الواحد براهم، أعد تمارين المطالعة الميسرة شهاب بن يوسف وروم دروتي ورهاني صدرت عن الشركة التونسية للنشر وتوزيع (عالم الكتب) سنة 2001م. (حكايات ضون كيشوت) جزءان للفتيان الجرجس ناصيف عن دار سماحة في بيروت سنة 2002م... وغيرها، وتجدر الإشارة هنا إلى ما لهذه التخيصات والتعريبات المتصرفة من محاذير قد تؤثر سلبا على كيفية فهم وتلقي الكيخوطه، ومثال ذلك ما يشير إليه زكي العليلة فيما يتعلق بورودها في مناهج الدراسة الفسطينية، فقد »أثر البتر والتصرف المتعسف علي النص المترجم المستل من رواية ضون كيشوت، فبدا السياق مشوشا، مفككا ومتقطعا غير مترابط منذ اللحظة الأولى، وكأنه مبني علي اللاشيء، حيث يفتتح الدرس هكذا: »وبعد أن يحدث هذا وأصبح أنا وتصبح زوجتي آن غيتير ملكة. ضون كيشوت: ومن الذي يشك في ذلك؟. سانشو: أنا أشك، لأنين أعرف زوجتي تمام المعرفة!..« بحيث يصعب علي الدارس أن يعرف من هو ضون كيشوت هذا، ومن هي غيتير أو سانشو، بل من هي (دولسينا) التي استجار باسمها و هو يصارع مراوح الهواء وما لذي يريدونه؟ ولماذا؟ فالشخصيات ناجزة والأحداث مشوشة، تطأ الذهن دون أي تمهيد، وكان من الأجدى لو اشتمل النص على إضاءات أو أنشطة تتابع النص الروائي وتوضح مساراته و صولا إلى لحظة الدخول في الصفحات المجزئة من النص (...) كما يبرز تساؤل مشروع عن السبب في عدم إدراج أية نبذة من سير الأدباء المترجم لهم...« وفي كل الأحوال لا يمكننا أن نحسب هذا العدد من الترجمات رلى العربية كثيرا و خاصة إذا ما عرفنا بأن عدد ترجمات الكيخوطي إلى الفرنسية قد بلغ الثمانين ترجمة حتى الآن، وبأن الترجمات الي الانكليزية قد تجاوزت المائة. النص المضاعف: عبد الرحمان بدوي مترجما للكيخوطي آثرت أن يكون هذا الحديث عن المرحوم عبد الرحمان بدوي في ترجمته للكيخوطي مناسبة لاستحضار وتكريم أحد أعمدة الترجمة في الوطن العربي. فهو لم يقتصر فقط على نقل نصوص أدبية لها قيمتها العالمية، بل ترجم نصوصا فلسفية ونظرية ما فتئت تعتبر مراجع هامة في الجامعات العربية ولدى الباحثين العرب. ومن ثم، فإن مناسبة هذه اللقاء تعتبر حافزا على هذا الاستحضار الاحتفائي. إن موضوع هذه المداخلة هو الانطلاق من ترجمة بدوي، ليس للمقارنة والتقييم، وإنما لطرح بعض الأفكار المتصلة بسياقها وقيمتها من منظور نظرية الترجمة. تكمن أهمية ترجمة بدوي في كونها الترجمة الأولى الكاملة لهذا النص، وفي كونها سعت إلى تقديم المناخ العام لطبيعة التخييل والسرد في الكيخوطي. صدرت ترجمة بدوي عن دار النهضة العربية بالقاهرة سنة 1965 في جزأين، وأعيد إصدارها عن دار المدى بسوريا سنة 1998. كما صدرت ترجمة أخرى لسليمان العطار عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر سنة 2002 بعنوان : ميجيل ثيربانطيس سابيدرا »الشريف العبقري ضون كيخوطي دي لامانشا، الشهير بين العرب باسم ضون كيشوت« وتلتها ثالثة هي »ميغل دثيربانطيس سابدرا، »النبيل الألمعي ضون كيخوت دلامنتشا« ترجمة جودت عطية عن دار ورد بدمشق سنة 2004. ناهيك عن ترجمات جزئية عديدة أهمها ترجمة عبد العزيز الأهواني بعنوان السيد العبقري ضون كيخوطي دي لامانشا« مكتبة الأنجلو المصرية ضمن سلسلة الألف كتاب سنة 1957. ومنذ هذه الترجمات اهتم الباحثون بعقد المقارنات بين ترجمة بدوي وباقي الترجمات، أو بينهما وبين إحداها، وذلك في أفق رصد عناصر الاختلاف والحذف والاضافة وخيانة الأصل. ولعل أبرز هذه الدراسات تلك التي أنجزها حامد أبو أحمد بعنوان: »قراءة في ثلاث ترجمات عربية لرواية دون كيخوته (صحيفة القاهرة، العدد 260 - 2005). ما يمكن ملاحظته، أولا، هو أن النقاش المثار حول ترجمة بدوي هو نقاش الترجمة ذاتها الذي يصب حول درجات القرب أو البعد من النفس الأدبي للنص المترجم أو الالتصاق به أو إعادة إبداعه في اللغة المترجم إليها. تعرضت هذه الترجمة، إذن للعديد من الانتقادات لما يفترض أن يكون قد شابه من النقائص، إلا أن ذلك في رأيي راجع إلى المناخ العام في المنطقة العربية حيث الذهنية والرقابات المتنوعة لا تسمح بنقل الكثير من التفاصيل والصور والتعابير إلى العربية. إن الانتقادات التي واجهت بدوي تعبر، في الحقيقة عن مشكل متمثل في غياب التسامح مع الاختلافات في الترجمات وفي نظر أخلاقية لمفهوم الأصل. فترجمة بدوي ليست استنساخا لنص أصلي بل هي إنتاج لنص جديد، وهذا يقتضي أن تتحقق مجموعة من الشروط في إطار ترتيب للأولويات وهي: أن اللغة - االهدف تتقدم على اللغة - المصدر والأدبي يتقدم على المفهومي والملامح العامة تتقدم على جزئية التعبير. فوحدة الترجمة لم تعد هي الكلمة أو المركب أو الجملة، بل النص برمته. وضمن هذا المنظور، فإن دقة المعلومة أقل أهمية من خلق مفعول كفيل بإثارة رد فعل عاطفي وانفعال جمالي قريبين من المفعول والانفعال اللذين يولدهما الاتصال بالأصل1. وبهذا يمكن أن تتعدد الترجمات للنص الواحد دون أن تتشابه وهو مصدر غني للنص الأصلي، ذلك أن النصوص الكبرى هي النصوص التي تحيا مع ذلك بإعادة ترجمتها. وبالرغم من كل الانتقادات التي نالت من الترجمة التي قدمها بدوي، فإن أغلب الكتاب العرب، اعتمدوا عليها سواء في الابداع أو في الدراسة. النص المضاعف هو الذي يحيا في لغة أخرى حياة متعددة، تماما كما هو شأن الترجمات الفرنسية للكيخوطي التي كانت آخرها ترجمة أليس شولمان. لنذكر، مع فورطوناطو، أنه ليس من الضروري أن يحتفظ الكيخوطي بوضعه الأولي، وبطابعه الأصلي حرفيا، بقدر ما يكون الأثر، باعتباره oeuvre وeffet الناتج عن وحدة الشكل والمعنى، قبل أي اعتبار آخر، هو الهدف النهائي للتحويل. وينبغي كذلك ألا يتم المساس بالقضايا الكبرى كالحبكة والفكرة والموضوعة أو البنية، وذلك حتى لا يضر غياب الشكل كثيرا بتكافؤ المعنى. من المستحب، عندما يتعلق الأمر بترجمة بالمعنى المألوف، ان يتم الحفاظ، قدر المستطاع، على التربة الاصلية للنص، على اصله الغريب حتى يتمكن من توسيع الافق الثقافي للبلد المضيف، هذا الافق الذي يشكل سبب و علة تحويله. لذلك تكون الترجمة المقترحة ترجمة مفتوحة تاركة للنص اكبر عدد ممكن من احتمالات معانيه. ينبغي على المترجم، خلافا للناقد او للمؤول اللذين بامكانهما اختيار هذه الوجهة في القراءة او تلك، ان يحترس من الانحياز، و من اعطا ء نظرة اختزالية من شأنها ان تحد، فيما بعد، حقل الابحاث الممكنة. ان المرحوم بدوي مثال قوي وبارز، ونموذج لكل هذه الخطوات التي تروم تملك وامتلاك نص كبير في حجم الكيخوطي. تملك النص، عندما تفرضه قوانين الجنس الادبي، يبقى اذن في ملك الترجمة الادبية، ذلك لان المترجم ينهمك، خوفا من تعطيل النص المصدر، الى ضرب من إعادة الكتابة، ضرب من اعادة ابداع شكلية يمكنع الدلفع بهما ابعد، دون شك، منه في كل انواع التحويل الاخرى.لكن، اذا كان صحيحا كون النص المنتج ليس هو الاصل، فان هذا الاخير يبقى دائما حاضرا، ويستمر، بشكل او باخر، في تحديد الاهداف و املاء الاختيارات.ي و هكذا تظل الترجمة الادبية، وخلافا للكتابة العضوية، خطابا اكراهيا وفنيا للتراضي بالاساس، على حد تعبير فورطوناطو2. فتحية، مرة أخرى، لذكرى المرحوم عبد الرحمان بدوي مترجما كبيرا للاعمال الكبيرة. هوامش 1 - ان نترجم معناه ان نتكلم بكلمات مخالفة لا طفولة لها فينا، هو ان نشعر بكوننا مكانا للاختلاف.. هو ان نواصل شيئا ما، وان نمسي بشكل اخر، هو ان نحب قراء اضافيين، ان نتطابق مع كلمات اخرى، وان نضاعف الكلام. ان نترجم معناه كذلك ان نفقد التحكم في دلالاتنا ونقول اشياء لم نقلها، هو ان نعدد الاتجاهات ولا نكون الكاتب الوحيد للنص، بل نكتبه صحبة آخر سيختار الكلمات وفق و جوده الخاص، ووفق حياته وتجربته في العالم. معناه ان نعبر بكلماته وبعالمه هو (...) هو ان نكون في وضعية تواطؤ. وايضا الا نتعرف على أنفسنا (...) ان نترجم معناه، اذن، اكتشاف المجهول فينا.