أصبح مصطلح الإصلاح أكثر تداولا على ألسنة أعضاء الحكومة المغربية التي أتت بها رياح ما يصطلح عليه «بالربيع العربي»، وخاصة المنتمين منهم إلى الحزب الأغلبي. وقد يخال البعض أن هذا المصطلح هو وليد هذا الزمن السياسي الرديء متجاهلا المعارك الضارية والتضحيات الجسام التي خاضها مناضلات ومناضلون منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، أيام كان للصراع معنى وللسياسة مغزى في سبيل إصلاح الدولة والمجتمع. لكن هيهات، فالإصلاح لا يتأتى بالشعار والنية، بل هو نتاج فعل إنساني ومجهود فكري وعمل جماعي. وبهذا المعنى، فإن الإصلاح، أي إصلاح، لا يمكن أن يكون جديرا بحمل هذه التسمية إلا إذا كان يتجه في اتجاه تطوير الوضع القائم وتحسينه والحفاظ على ما يختزنه من حقوق ومكتسبات قائمة وقت إطلاق عملية الإصلاح. أما في الحالة العكسية فإننا سنكون في وضعية دمار قد تستدعي المواجهة والصراع لصد أي محاولة للمساس بالمصالح المشروعة المكتسبة. وتتوقف خطة الحكومة الحالية للإصلاح الجزئي والظرفي للتقاعد عند الصندوق المغربي للتقاعد فقط، بدل الإصلاح الشمولي لمنظومة التقاعد ببلادنا والتي تتشكل من العديد من الصناديق، لعل أهمهما إضافة إلى الصندوق المذكور، من النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق المهني المغربي للتقاعد. وغير خاف أن لكل من هذه الصناديق نظامه الخاص وهيكلته الإدارية وموارده البشرية واللوجستيكية وقواعده التدبيرية والتنظيمية وموارده المالية والعقارية ومشاريعه التنموية والاستثمارية. ومن ثمة، فإن الإصلاح الشمولي يتطلب نظرة كلية ورؤية واضحة تشمل هذه الصناديق أجمع لإرساء استراتيجية محكمة. غير أنه في إطار ما تعتزم الحكومة الذهاب إليه في «إصلاح « التقاعد، فإن السؤال الجدير بالطرح: هل الحكومة واعية بخطورة دور الإطفائي الذي تود الإقدام عليه وبطريقة إنفرادية في ملف يهم ما يقارب 900 ألف أسرة وفي ظل الظروف الاجتماعية التي يمر منها المغرب؟ أم أن التشنج والتعصب اللذان أبان عنهما رئيس الأغلبية الحكومية ووزراء حزبه في مناسبات عدة للرد على منتقدي سياسة تدبيره الشأن العام للمغاربة، وآخرها ما شهده مجلس النواب في جلسة المساءلة الشهرية حول الحوار الاجتماعي والفوضى التي عاشها مجلس المستشارين بسبب اتخاذه قرار منع البث التلفزي للإحاطات، هو الأسلوب نفسه الذي سيستمر في نهجه في تدبير ما تبقى من هذه الولاية؟ إن إصلاح منظومة التقاعد ليس بقضية حكومية فحسب، بل هي تعني مختلف الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، وأبرزهم المركزيات النقابية التي تعد بامتياز شريكا في كل القضايا التي تهم الطبقة العاملة، وهي بذلك القوة الاقتراحية القادرة على ضمان التوازن بين هاجس الحفاظ على حقوق ومكتسبات الشغيلة من جهة، والمساهمة بمسؤولية وبحس وطني في أوراش الإصلاح الكبرى المطروحة على بلادنا، ومن ضمنها ملف التقاعد تأسيسا على قاعدة العدل والإنصاف والعدالة الاجتماعية، من جهة أخرى. هذه المعادلة المركبة والمعقدة تتطلب تضافر جهود الجميع لتفكيك رموزها المتشابكة وإيجاد الصيغة أو الصيغ الكفيلة بتحصين الاستقرار الاجتماعي الذي لا يمكن المجازفة به من خلال خطة حكومية ترتكز بالأساس على عمليات محاسباتية لتعطيل سنوات معدودة حدة الاختلالات التي يعيشها الصندوق المغربي للتقاعد، فكيف إذن يمكن فهم محاولة الحكومة في تحميل تبعات إفلاس سياسة تدبير هذا الصندوق للشغيلة التي لا مسؤولية لها في حدوثه؟. وكان من الأفيد أن تنطلق سنة 2014 التي تتزامن من جهة مع ترميم صفوف الحكومة في نسختها الثانية، وعلى مرور فترة تقدر بسنتين ونيف على هذه التجربة الحكومية من جهة أخرى، بتنفيذ ما تبقى من مقتضيات اتفاق 26 أبريل 2011 المعطلة بإرادة الحكومة الواعية لما يفوق أكثر من سنتين ونصف، لم يعد بعدها بإمكان النقابات التي كانت على الدوام تدخل في حسبانها ظروف وشروط البلاد الاستمرار في الانتظار إلى ما لا نهاية. وهل يمكن أصلا أن تنخرط النقابات في أي حوار بخصوص أي ملف من الملفات مهما كانت حساسيته دون الحسم النهائي في هذه الالتزامات الحكومية التي طال أمدها أكثر من اللزوم؟ لكن بدل ذلك، اختارت هذه الحكومة تقديم أولى هداياها إلى الموظفين بحلول سنة 2014 بوصفة من جانب واحد تخص فقط «إصلاح» الصندوق المغربي للتقاعد من غير الصناديق الأخرى. وترتكز «خطة الإصلاح» على مجموعة من المقاييس تتأرجح بين رفع سن التقاعد ليصبح 62 سنة ابتداء من 2015 ليصل 65 سنة في أفق 2020، ورفع نسبة الاقتطاعات ب 10 في المائة ومراجعة احتساب المعاشات على أساس معدل العشر سنوات الأخيرة من العمل واستبدال قاعدة احتساب النسبة المأوية للمعاش مع خضوعه للتضريب. هذه هي خلاصات الاجتهاد التي توصل إليها قادة التحالف الحكومي الأربعة في صيغة «إصلاح» أنظمة التقاعد بالمغرب، والتي كانت ستعرض في اجتماع مجلس إدارة الصندوق المغربي للتقاعد يوم الثلاثاء 7 يناير 2014 حسبما طالعتنا بذلك كل الصحافة الوطنية الورقية والإلكترونية، وفي غياب مطلق لأي حوار مع مختلف الفرقاء الاجتماعيين والاقتصاديين، وفي محاولة إدارة الظهر للنقابات وتجاهل اللجنة التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد. إلا أنه إلى جانب مقترحات الحكومة المبنية كلها على جيب وقوت الموظف كمقاربة كلاسيكية وظرفية، هناك مقاربة متكاملة تشمل رزمة من الحلول الموضوعية والعملية وهي على أية حال غائبة على السيناريو الحكومي «للإصلاح» والتي من شأن أخذها بعين الاعتبار يمكن أن تساعد في حل إشكالية التقاعد. وأولى خطوة في هذا الاتجاه تتأسس وجوبا مع النظرة الشمولية لإصلاح متناسق لصناديق التقاعد، بدل الاقتصار على صندوق واحد منها كحل جزئي فقط للالتفاف اللحظي على اختلالات الصندوق المغربي للتقاعد. فالمقاربة الشمولية يجب أن تمتد إلى توسيع قاعدة المنخرطين بأنظمة التقاعد ليشمل المشتغلين بالمهن الحرة والقطاع غير المنظم وباقي المنخرطين المحتملين. والدولة باعتبارها المشغل العمومي ملزمة بوضع يديها في جيبها للمساهمة في تقوية الموارد المالية للصندوق المغربي للتقاعد بنسبة الثلثين مقابل الثلث للموظف، كما هو عليه الحال في العديد من التجارب الدولية. كما أن الشروع في تفعيل عملية تجميع الصناديق في قطبين، أحدهما خاص بالقطاع العام والآخر بالقطاع الخاص وفق المقترح المقدم داخل اللجنة التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد، وإعادة النظر في طرق التدبير المعتمدة بهذه المؤسسات الاجتماعية، وخاصة في جانب استثمار أموال المنخرطين ومحاسبة كل من ثبتت في حقهم مخالفات من ضمن المسؤولين المتعاقبين على هذه الصناديق، هي بعض الأفكار التي يمكن تطويرها وإغناؤها لبناء أطروحة متكاملة لإصلاح منظومة التقاعد في إطار شمولي ينبع بتوافق من طرف مختلف الفاعلين والمتدخلين، بعيدا عن منطق العنترية والاستقواء بالذات، لأن مصلحة الوطن هي أكبر بكثير من مصلحة بضعة أحزاب مهما كانت تمثيليتها العددية، وصولا إلى إقرار الإصلاحات الشاملة والعميقة التي تحتاج إليها فعلا بلادنا. ومن هذا المنطلق، فإنه مطلوب اليوم، لمواجهة صعوبة الظرف الاقتصادي والمالي الذي تمر به البلد أن تبادر الحكومة من موقع مسؤولياتها إلى ابتكار الحلول الكفيلة بإيجاد الموارد المالية وضخها بالخزينة العامة للدولة لاستثمارها في مشاريع إنتاجية لخلق الثروة وتشغيل الموارد البشرية المعطلة لتعزيز موجودات صناديق التقاعد، بدل اللجوء إلى الحلول السهلة التي تتم على حساب الطبقات المحرومة والمتوسطة، والتي تكون دائما المستهدف الأول من الإجراءات الحكومية الرامية إلى التحكم في عجز الميزانية العامة للتخفيف من ضغط النفقات العمومية وإيجاد الحلول لبعض المعضلات الاجتماعية، وهذا هو بالضبط ما يتضمنه المحور الرابع من مشروع ميزانية 2014. فالمزاوجة حتمية بين النية والعمل وهما مطلوبان لتحقيق أي إصلاح، لكن مع ضرورة التشبع بثقافة الإشراك والتقيد بالمقاربة التشاركية مع كافة الفاعلين.