إننا نعيش زمنا انعدمت فيه المروءة، وأوقاتا سرقت فيها المبادىء، ولحظات انتحرت فيها القيم ونُحرت فيها الأخلاق، فلم يعد الكاذب يخجل من كذبه، ولا الخائن من خيانته، ولا العميل من عمالته، ولا الفاسد من فساده ولا القبيح «معنويا» من قبحه ، ولا السفيه من أعماله. في هذه الأوقات العصيبة، ووسط هذه الحمى المسعورة من الدعوة للحرب العدوانية ضد سوريا، بذرائع مصنوعة ومفبركة وملفقة، خرج بابا الفاتيكان فرنسيس، في صلاته ليوم الأحد فاتح سبتمبر 2013 أمام جماهيره الغفيرة بروما، يدعو للصوم والصلاة يوم 7 من الشهر، والدعاء للسلام من أجل سوريا « الحبيبة» ، ثم دعا كل المخلصين في روما وخارجها للمشاركة في هذه الصلاة من أجل حماية سوريا. وبالفعل لبّى المخلصون دعوته، فوقفت حشود غفيرة من كل الطوائف في ساحة الفاتيكان يوم السبت 7 سبتمبر، وفي جو من التسامح الديني انضم إلى هذه الحشود حتى السياح الذين أتوا من أجل الزيارة و التبرُّك من غير المسيحيين. لقد كانت وقفة خشوع وتذرع، دمعت فيها العيون، وخشعت فيها القلوب، وأوقدت الشموع، وهمست الأصوات بالترانيم و بالدعاء من أجل سلامة سوريا الحبيبة، من أجل المصالحة من أجل السلم والحياة،»لأن الحرب ضد الإنسانية». وألقى البابا كلمته أولا، ثم توالت على منصة الخطابة شخصيات دينية وغير دينية، كلها تدعو للمحبة والغفران والسلم والتسامح، لغاية منتصف الليل. لقد كان مشهدا مهيبا ورائعا بكل المقاييس ، فساحة الفاتيكان غاصة بالجموع، والأنوار والشموع تتلألأ، والألحان الدينية تعزف، والأصوات الخاشعة تهمس. وهذه ليست المرة الأولى التي يدعو فيها البابا لسوريا ويصفها بالحبيبة. فهل البابا جاهل؟ وهل هو كافر؟ وهل هو بعيد عن سياسة ما يجري في المنطقة؟ وهل مستشاروه لا يُوصلون له الأخبار الحقيقية يوما بيوم؟ وهل هو عديم الأخلاق وعديم الإحساس ؟وهل أوباما وهولاند وأردوغان وسعود الفيصل وبندر بن سلطان، وكل»حمالي الحطب « قلوبهم وأفئدتهم رحيمة على الشعب السوري أكثر من البابا؟ الجواب طبعا هو أن البابا على اطلاع بكل شاذة وفاذة بالمنطقة، وكيف لا والأخبار تأتيه عن هدم وتدمير ونهب الكنائس، كنائس قديمة تعتبر مزارات مقدسة للمسيحيين، وكل ذلك يتم بتكبير» الله أكبر» ، بالإضافة إلى استهداف المسيحيين، بالاعتداء والقتل والخطف، في محاولة لتهجيرهم، وليس أدل على ذلك ماحدث في قرية « معلولة»أخيرا. ومع كل هذه المعاناة، يخرج البابا يدعو للسلم، ولا يذكر أولئك المتأسلمين بكلمة سوء، وهذه هي الأخلاق التي يدعو لها إسلامنا الحنيف.ألم يكن حريا به لو كانت له نفس الرؤية الضيقة كما لعرباننا، أن يدعوا هو كذلك للنفير من أجل الانتقام من المسلمين، من أجل حماية المسيحيين، من أجل الجهاد ضد الإسلام ، لكنه لم ولن يفعل لأنه إنسان قبل أن يكون بابا الفاتيكان، لأن قلبه متطهر من الحقد والغل والكراهية وعصبية الجاهلية. لم أبدأ بالحديث عن تلك الليلة الغراء في الفاتيكان كحدث عادي، بل لأقارنه بمن يدّعون مصلحة السوريين « العرب»، والدفاع لحقن دماء السوريين « العرب». لأنه في نفس اليوم الذي دعا فيه البابا للصلاة أي يوم فاتح سبتمبر اجتمعت جامعة « النعاج» التي تخيل وزراء خارجيتها أنهم أصبحوا أسودا على الشعب السوري فقط، وهم في الحقيقة ليسوا سوى غربانا وعقبانا تنعق ، تنتظر الفريسة لتنقض عليها ، ومنذرة بالشر المستطير في حق دولة عربية أصيلة. إن مأدبة اللئام تلك - باستثناء العراق والجزائر ولبنان - لم تنتظر صدور تقرير لجنة التحقيق فيمن استعمل الكيماوي، هل الجيش العربي السوري أم العصابات الإرهابية المأجورة؟ وأصدرت حكمها، وباركت الاعتداء على سوريا، بل وحرضت وطالبت بذلك دون أن ترف جفون المشاركين، لأن اللعبة حبكت خيوطها في دهاليزالمخابرات الأمريكية والإسرائيلية بمشاركة إخواننا العرب، وملايير الدولارات الخليجية منحت لتغطية مصاريف العدوان على بلد عربي شقيق ، وهذا ما اعترف به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أمام لجنة الخارجية التابعة للكونغرس . ألم يشعر نبيل العربي وقطيعه بالخزي؟ ألم يشعروا بالعار؟ ألم يحسوا بالهوان والذل وتأنيب الضمير؟ والبابا المسيحي غير العربي يدعو للسلم في سوريا، وهم يقرعون طبول الحرب ويوقدون شرارتها وينفخون بكل قوتهم لتستعير. لن نستغرب من قطيع النعاج هذا، لأن العروبة انمحت من وجدانهم، وشطبت من ذاكرتهم، وحلت محلها الدولارات الخضراء بنكهة النفط والغاز، لأن من ساهم في تحطّيم دولة عربية عريقة كالعراق لا يضره خراب دولة عربية أخرى كليبيا وسوريا. لأنهم أناس خارج التاريخ ولا يستوعبون أن من يصنع السلام أقوى من الذي يصنع الحرب، وأن هناك أبطالا يدخلون التاريخ من الأبواب الأمامية، وهناك حثالات تدخله من الخلف. وهنا لابد من الرجوع إلى تاريخ أمتنا العربية المليء بالخيانة والعمالة، ولعل ما يشهد على ذلك ما قاله رئيس مخابرات دولة عربية للرئيس الأمريكي جونسون للتحريض على الاعتداء على مصر سنة 1967 «ينبغي كسر عظام عبد الناصر وإزاحته عن المسرح»، وهذا ما كتبه المفكر الأمريكي «جيفري كمب» حول « التدخل في صناعة القرار»، إذ أن رئيس مخابرات نفس الدولة العربية قال حاليا: « أطيحوا بالأسد فإذا أطيح به أطيح تلقائيا بعلي خامينائي في إيران وسيتغير الوضع في إيران» ونفس هذه الشخصية هي التي ساهمت بكل قوة لتشجيع بوش على غزو العراق. إن أقل ما يقال عن هذا: غباء سياسي وغرور قاروني، نسبة إلى قارون الذي خرج يتباهى بأمواله ، فخسف الله به الأرض، فهل من معتبر؟