يواصل الاستاذ الدكتور وعالم البلاغة محمد العمري رسالة التنوير وتفكيك خطاب الكراهية والتكفير، بالرصانة المعروفة وبقوة الحجة الثابتة في مقالاته. وقد وافانا مشكورا بمقالة جديدة في نفس السياق والمعنى ننشرها في ما يلي. في كلام أبي النعيم طريقان إلى الجحيم. اهتم الناس بالطريق الأول وشُغلوا به عن الطريق الثاني، ولذلك سنجعله موضوعا لهذا التعليق بعد التمهيد. الطريقُ الأول هو طريق التكفير والقذف الذي سماه، هو نفسُه، طريق «الفتنة والويل والتصادم»، هذا الطريق الذي أعلن إصراره على السير فيه إلى نهايته ولوْ أدى به إلى أن «يرشى» في السجن (أي يبلى ويتعفن)، أو «يقطع إربا». لقد كان في الماضي متحفظا خوفا من الفتنة وتوابعها، أما اليوم فالطريق إلى الجحيم مفتوح. وهذا هو الطريق الذي تبعته فيه «حركة التوحيد والجهاد» الإرهابية حين أهدرت دم الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي. وقد كثر الراغبون في السير في هذا الطريق على النيت حتى أرعبوا أبا نعيم فخرج شخصيا ينظم المرور ويتبرأ مما قد يحدث عن الزحام من حوادث هو غير مسؤول عنها. هذا الطريق أخذ نصيبه من الوصف، وهو الآن بين يدي القضاء. الطريق الثاني الذي يهمنا في هذا المقال هو نوعُ الإسلام الذي يقترحه أبو نعيم على المغاربة، بل يريد فرضه عليهم تحت طائلة التكفير. وتبعا للقول المأثور: «بضدها تتميز الأشياء»، فقد أخبرنا بأن الإسلام الذي يريده هو نقيض إسلام «علي جمعة»، على حد تعبيره. وعلي جمعة هذا مجرد مُشبَّه به، أما المشبه (أي علي جمعة المغربي) فهو موجود في الرباط: قد يكون وزيرَ الأوقاف، وقد يكون رئيسَ المجلس العلمي الأعلى، وقد يكون رئيسَ الرابطة المحمدية، وقد يكون وقد يكون. دين أبي النعيم يحرم كل ما يحله علي جمعة الرباطي. وفي ذلك يقول: «أسياد المؤسسة الدينية [(!)] يريدونها أن تكون مثل الأزهر وعلي جمعة: 1 الغناء، ما كاين باس! 2 والسياحة، ما كاين باس! 3 الفن، ما كاين باس! 4 والربا، على كل حال! 5 حرية الرأي،... هذا هو الإسلام الأمريكاني، والنموذج ديالو هو علي جمعة، وشيخ الأزهر، وأمثالهم من وزراء الأوقاف ورؤساء... الذين يودون أن يجعلوا الإسلام علمانيا والعلمانية إسلاما. اللهم عليك بهم...الأمراض والأسقام». تخيلوا مُجتمعا لا يُغنِّي ولا يرقص، ولا يسير في الأرض (يسيح) ولا يعرف النزهة، ولا يمارس أي هواية فنية أو لعبة رياضية، مجتمعا بدون حرية الرأي، وبدون نظام بنكي، تخيلوا مجتمعا فيه فقط أفواه تبلع، وبُطون تدفع، وشهوات تَرْتَعْ! لهذا قيل عن الفكر الخارجي إنه فكر بدوي رعوي، ظل فيه الراعي ينعقُ بما لا يسمعُ، ثم يعود في المساء ليقضي الليل تحت خيمته في الظلامين والشهوتين. وتدور الدائرة فيلتحق الخلف بالسلف، والإبن بأبيه، وتتلاحق القرون فلا ينتج الخوارج فكرا ولا شعرا ولا فنا ولا فلسفة: هل سمعتم بمفكر خارجي، أو شاعر خارجي، أو روائي خارجي، أو مسرحي خارجي...إلخ؟ كل ما خلفه الخوارج أبيات حماسية انتحارية أو زهدية متقشفة تجعل التمسك بالحياة جريمة، ولكن كم تريدون من سيوف ومتفجرات ومن انتحاريين وصواعق وقنابل... وأخيرا سفاحٌ باسم «جهاد النكاح». أبو النعيم يريد مخلوقات على صورته، ويريد إيمانا وكفرا يطابق فهمه وتصوره: بدل أن يدخل في حوار مع مؤسسات الدولة وينضبط لما أجمعت عليه الأمة درءا للفتنة، يخير هذه المؤسسات بين تبني منهجه التكفيري وبين أن تصبح بدورها مرتدة كافرة. وهذا منطقه: أنا أكفر هؤلاء الاتحاديين والمفكرين العلمانيين، فإما أن تتبعني مؤسسات «علي جمعة» الرباطي في تكفيرهم وإلا فهي مرتدة. ونظرا لأنها لم تقم بما يدل على أنها كفرتهم وهو ضرب أعناقهم فقد كفرت بدورها. وهكذا نُحِر الفيلُ في دم بعوضة من مستنقع الخوارج! الفكر الخارجي فعال في البيئات الفقيرة فكريا وعاطفيا وماديا أيضا، لأنه خطاب بسيط وكسول غير مكلف: تأتي بساطته من أمرين: أولهماأنه خطاب هوياتي، يداعب «غريزة» التملك عند الشخص. يعطيك علبة مختومة فيها كل ما تريده شريطةَ ألا تفتحها حتى تتجاوز أبواب الجحيم، لأنه يعتقد أن مجرد تعرضها للهواء يؤدي إلى تبخرها. أما العلمانيون والحداثيون فإنهم يتمسكون بفتح العلبة وتنظيف محتوياتها من غبار الزمن، وإعادة ترتيبها. أما العيب الثاني فيكمن في أنه خطاب مضلل يوهم «المعوزين» أن عوزهم سيزول بمجرد النطق ببعض الكلمات. وهيهات هيهات. الغريب في بعض المغاربة (ما نسميه أحيانا انفصاما في الشخصية أو نفاقا بيولوجيا) هو أنهم يرفضون هذا النوع من الحياة الذي يدعوهم إليه الخوارج بلسان أبي نعيم وألسنة أخرى، فيتزاحمون في الشواطئ التي يحرمها، والمهرجانات التي يفسقها... ولكنهم يصفقون له ويدعون له بالنصر.