رغم مرور أكثر من 30 سنة على اعتقال الفقيد السي عبد الرحيم بوعبيد بسجن لعلو على خلفية الموقف التاريخي حول القضية الوطنية بصحبة العديد من قيادات الاتحاد، يتذكر القيادي عبد الهادي خيرات تفاصيل الأحداث التي جرت داخل السجن مع هذا الوطني الكبير، الذي دافع عن استقلال المغرب، في عهد الاستعمار، وناضل أيضاً من أجل الديمقراطية والحرية في عهد الاستقلال، يقول عبد الهادي خيرات الذي كان أصغر معتقل بسجن لعلو بالرباط:« ليلة قدوم السي عبد الرحيم إلى السجن، دبت حركة غير عادية، واستعانت إدارة السجن بالعديد من »البلانطوات« الذين حرصوا على تنظيف السجن وترتيبه، كما خضع السجن ذاته إلى مراقبة شديدة. كما سرت شائعة وسط المسؤولين هناك، تفيد أن عبد الرحيم بوعبيد قادم الى هذا السجن. وفسرنا ذلك أنه سيأتي ضمن لجنة معينة للاطلاع على أحوال المعتقلين» ويضيف خيرات «لم نعتقد ولم يخطر ببالنا أن هذا الرجل الوطني سيأتي إلى سجن لعلو كمعتقل. تلك الليلة. أقفلت أبواب الزنازن، كما هو معتاد بعد عملية النداء على أسماء المعتقلين. بعد ذلك، جاءنا »الشاف ادريس« أحد المسؤولين هناك. وأخبرنا بأنه جيء بالسي عبد الريحم كمعتقل.» مازال خيرات يتذكر تفاصيل ذلك اليوم ب، بل كيف تلقى المعتقلون الاتحاديون وغيرهم داخل السجن هذا الخبر. يقول:« حينما فتحت أبواب الزنازن، اهتز السجن بالشعارات، احتجاجاً على هذا الاعتقال، بل إن هذه الشعارات رفعها أيضاً باقي السجناء. وكانت هذه الشعارات مرفوقة بالضرب على الأبواب، منها شعار: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، »عبد الرحيم يا رفيق، لازلنا على الطريق« وغيرها. إذ انخرط في ترديدها 1800 سجين، وقد كان السي عبد الرحيم مرفوقاً بالوطني محمد منصور، والحبيب الفرقاني ومحمد لحبابي كأعضاء للمكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، في حين سيلتحق بالمعتقل الأخ محمد اليازغي، الذي كان مختفياً عن الأنظار. وقد أمره عبد الرحيم بوعبيد عن طريق المحامي الأخ محمد الصديقي بتسليم نفسه، وعوض أن يسلم الأخ اليازغي نفسه للبوليس، أخفاه الصديقي في سيارته، وعرضه مباشرة على النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بالرباط، التي استمعت إليه وأمرت بإيداعه سجن لعلو هو الآخر». ويقول خيرات:« إن الزنزانة التي كان معتقلا فيها بعد الرحيم بوعبيد كان تحمل رقم 18، بعدما أن وضع هناك، ذهبنا إليه في زنزانته، وقد حكى لنا عن تاريخ هذا السجن، الذي كان عبارة عن »قشلة« ثكنة عسكرية برتغالية، وأن الزنازن الكبرى المتواجدة في قبو السجن، كانت تستعمل كمخابىء للأسلحة، قبل أن يتم إصلاحه وتطويره من طرف المستعمر الفرنسي، وتحويله الى سجن»، وأخبرهم السي عبد الرحيم، أنه سبق وأن اعتقل من طرف المستعمر الفرنسي بذات السجن بصحبة المجاهد أبو بكر القادري، وقاسم الزهيري، على إثر المظاهرة الكبيرة التي قادها من المسجد الأعظم بمدينة سلا، واغتيل فيها أحد الفرنسيين، واتهم بوعبيد كمدير لهذه العملية، في حين اتهم أبو بكر القادري وقاسم الزهيري وآخرين كمؤيدين، وكان بوعبيد مهدداً بالإعدام، لولا بعض الشهود الذين صرحوا عكس ذلك. ويقول عبد الهادي خيرات، إن السي عبد الرحيم بوعبيد أخبرهم أنه كان نزيلا بالزنزانة رقم 1 آنذاك في عهد الاستعمار، فابتسمنا، وقلنا له: »لقد تمت ترقيتك في عهد الاستقلال، وأصبحت نزيل الزنزانة رقم 18، بدل رقم 1 في عهد الاستعمار، وهذه الملاحظة التي انتزعت الابتسامة من فم القائد بوعبيد، كما أخبرنا أنه تم تنقيله إلى سجن عكاشة بالدارالبيضاء، وسجن في الزنزانة التي كان يتواجد فيها الحنصالي، الذي كان ينتظر أن يتم تنفيذ حكم الإعدام فيه. ويقول عبد الرحيم بوعبيد، : كنت أرفع من معنوياته من قبيل أن ما قام به من جهاد، سيدخل بفضله إلى الجنة، وأخبرته أيضاً أنني سألتحق به». وتحدث بوعبيد، يضيف خيرات بمرارة عن تلك الصبيحة التي تم فيها اقتياد الحنصالي إلى الإعدام، حيث تشبت به، وبقي الفقيد يرفع من معنوياته، وقد كان الوديع الأسفي في الزنزانة المجاورة، وقد سبق أن تحدث عن الموضوع، يقول عبد الهادي خيرات. ومن الأشياء التي يتذكرها أول كاتب عام للشبيبة الاتحادية والشاب المقرب لعبد الرحيم بوعبيد، أنه يبدو أن أوامر عليا أعطيت لإيجاد مخرج لإطلاق سراح الأخ محمد منصور في قضية البيان الشهير للاتحاد حول الصحراء المغربية الذي كان مكتوباً، في الأصل باللغة الفرنسية. و«هو ما تجلى في تعليل الحكم، نفس التخريجة التي استفاد منها الاخ الحبيب الفرقاني الذي هو الآخر لم يكن يتقن اللغة الفرنسية ، ويبدو ان شخصية محمد منصور ورمزيته كبطل من أبطال المقاومة الكبار جعلت المسؤولين يبحثون عن هذه التخريجة». اذ قام محمد منصور في عهد الاستعمار بتفجير قنبلة بالسوق المركزي بالبيضاء. وكذلك قنبلة مركز الطرود البريدية إضافة إلى تفجير« القطار السريع الرابط بين الدارالبيضاء والجزائر». ومكون وحدات المقاومة صحبة الزرقطوني وسعيد بونعيلات والسكوري صاحب المرآب الذي كانت تصنع فيه القنابل. وقد حكم على البطل محمد منصور بالاعدام، وأوقف التنفيذ بعد التفاهم مع ملك البلاد المنفي محمد الخامس كما سبق أن حفر له قبر . وعندما أخبر بالمغفور له محمد الخامس بذلك، امر بالابقاء على القبر وكتابة اسم محمد منصور على الشاهدة. ومازال هذا القبر بسجن العاذر وسط قبور الشهداء الذين تم إعدامهم من طرف المستعمر الفرنسي». وعن اللحظات الأخرى التي مازال يتذكرها ، يقول خيرات:« أذكر انه حدث ان كان يملي على السي عبد الرحيم التصريح الذي كان سيد لي به أمام المحكمة. فحدث ان قال في معرض حديثه: كما قلت لصاحب الجلالة، فابتسمت وقلت له، هل تبقي على هذه الصفة وحتى وأنت داخل الزنزانة. فاجأني بوعبيد بالقول «هذه الصفة لملك البلاد وفي ذات الوقت رئيس دولتها. وعبد الرحيم عندما يقول ذلك خارج السجن فلأنه مؤمن بما يقول: أما اليوم فداخل السجن فعبد الرحيم هو.. هو، لن يتغير وليشهد التاريخ ان الاخرين هم الذين تغيروا». حكاية أخرى يرويها خيرات تتعلق بالتحامل على عبد الرحيم بوعبيد من طرف الصحف المغربية آنذاك بعدما كانت المحرر متوقفة. يقول خيرات إن «احمد عصمان اخبر بوعبيد داخل السجن عن طريق أحد المحامين الذين بعثه خصيصا لهذا الغرض. آلا يؤاخذه على ما يصدر في جريدة الميثاق فلا حول ولا قوة له في ذلك. وأضاف عصمان قائلا عبر هذا المحامي: «ملك البلاد الحسن الثاني جمع مجموعة من الوزراء واستشارهم حول اعتقال بوعبيد. فهناك من طلب من الملك التريث والا يأخذ قراره تحت الانفعال. و للتاريخ ان رجلا نطق امام الملك وقال له: سيدي، عبد الرحيم بوعبيد، لا يعتقل والامر هنا يتعلق بعبد الحفيظ القادري. الذي كان وقتها وزيرا للشبيبة والرياضة وعضو اللجة التنفيذية لحزب الاستقال. غير ان رجلا اخر وهو محمد الدويري صاح موجه خطابه لملك البلاد:« سيدي، عبد الرحيم بوعبيد «زطم في ارياض»، وانا مع الاعتقال . وهذا ما اشعر به عبد الرحيم بوعبيد بعد لقائه بمبعوث احمد عصمان». ويحكي خيرات عن مذكرة النيابة العامة، انها طلبت ظروف التخفيف للسي عبد الرحيم على اعتبار انه شخصية وطنية وأسدى خدمات جليلة للوطن. لكن آخر كلمة صدح بها بوعبيد في وجه النيابة العامة كانت هي: عبد الرحيم يتبرع بالتخفيف عنه». يقول خيرات:« إن عبد الرحيم بوعبيد كان استثنائيا في كل شيء حتى داخل السجن، فمن كثرة الزيارات التي كانت تتم له داخل السجن من شخصيات مختلفة مقاومين ومن عناصر قيادية من الحزب، فضلا عن افراد العائلة. وقع مسؤولو السجن في حرج، ونظرا لان المكان المخصص للزيارة كان ضيقا وكذلك المهلة محددة. رآى عبد الرحيم ان هذه الزيارات تتم على حساب حقوق السجناء الآخرين. مما دفعه إلى الأمر بإيقاف جميع الزيارات واكتفى بالضروري منها لتنسيق عمل الدفاع». ويتذكر خيرات أن العائلات الكبرى خاصة بسلا كانت تتقن إعداد الوجبات الغذائية. وكانت تبعث ذلك إلى عبد الرحيم بداخل السجن.«لكن السي عبد الرحيم رفض تناول هذه الأطعمة التي كانت تأتي بكميات كبيرة. وأمرنا بتوزيعها على المعتقلين، كما طلب من مسؤولي السجن أن يعاملوننا كباقي السجناء وأن يمدوه بالأكل المعد من طرفهم والتي كان يقتصر على »بيصارة وخبزة واحدة« رغم تعفن الأكل، إذ كان يتم رفس الفول بأقدام المعتقلين»، لهذا يقول عبد الهادي خيرات «اضطررنا إلى النزول إلى المطبخ وأخذ كمية من الفول، لتنقيتها ولإعداد »بيصارة«، وكان المسؤول عن توزيع الأكل يوهم بوعبيد أن هذه البيصارة المعدة خصيصا له مثلها مثل باقي »البيصارة« التي يستفيد منها النزلاء».. ومن الحكايات الأخرى التي يرويها عبد الهادي خيرات، أنه شخصيا اتفق مع نجاة بوزيد زوجة الفقيد على اقتناء مذياع Sony7 وأن تسلمه للأخ خالد السفياني باعتباره محاميا، وكذلك كان الأمر، حيث «سلمني الأخ السفياني المذياع بالسجن، وسلمته بدوري الى المناضل السريفي الذي كان لا يخضع للتفتيش على اعتبار أنه كان محكوما بثلاثين سنة. وكان نزوله بسجن لعلو مؤقتا، حيث قدم من السجن المركزي بالقنيطرة حتى يتمكن من العلاج بالرباط. وحينما ذهبت الى الزنزانة وقدمت المذياع لبوعبيد، صاح في وجهي بل انتفض قائلا: لا أريد من إدارة السجن أن تسلمني شيئا بصفة استثنائية، وأريدها أن تعاملني كباقي السجناء، وهنا تدخل الأخ محمد اليازغي، وأكد له أن الأمر يتعلق بعملية تهريب قام بها كل من خيرات والسريفي، وأن زوجته نجاة هي من اقتنت المذياع وسلمته للسفياني، إذ ذاك قال مبتسما: معذرة، لم أكن أتصور أن العملية بهذا الشكل». عندما أقفل باب الزنزانة في منتصف النهار، حيث كنا تعد و جبة الغذاء، أشعلت المذياع. وكانت نشرة الأخبار وسمعنا أن الرئيس المصري أنور السادات قد تعرض الى هجوم، وأنه نقل الى المستشفى ومازال على قيد الحياة، إلا أن عبد الرحيم بوعبيد علق علي هذا الخبر بالقول، :«هذه إجراءات تحفظية. وفي الغالب أن الرجل توفي». ومن « الأشياء التي كان يرويها لنا الأخ بوعبيد أنه في الأربعينات بسجن العاذر، حدث أن كان بذات الزنزانة مع شخص من مراكش كان جزارا، وكانت جريمته هو قتل العديد من الناس وتحويلهم إلى »كفتة« وبيعها. فسأله عبد الرحيم، هل أكلت من هذه »الكفتة« فأجابه أن نعم.. فقال له بوعبيد وكيف وجدت طعمها؟ فرد عليه الجزار. إنه لذيذ جدا. وقد أعدم هذا الرجل فيما بعد». يقول خيرات :« صبيحة ذلك اليوم الذي سيتم فيها نقل عبد الرحيم إلى ميسور، جاءت مجموعة من الأشخاص يتطاير الشرر من أعينهم وذلك قبل الفجر مصحوبين بمدير السجن وفتحوا الزنزانة، حيث كنت بصحبة محمد اليازغي ومحمد لحبابي وما أن فتحوا علينا الزنزانة رقم 18 التي كان نزيلا بها بوعبيد، حتى صاح فينا أحدهم: أين عبد الرحيم بوعبيد واعتقدوا أن بوعبيد قد هرب من السجن في حين أنه كان نائما في الزنزانة المجاورة رقم 17 ولما فتحوا الزنزانة استيقظ المناضل الحاج عمر الغوجاجي الذي شعر بأقدامهم. وصاح متسائلا: »واش لفجر ودن؟« فأجاب بوعيد مبتسما: إنه على الأبواب فاستعد لصلاتك. ولم يكن الحاج عمر الغوجاجي يدري أن الزبانية جاءوا لنقل بوعبيد إلى مكان آخر، وهذا المكان هو ميسور صحبة محمد لحبابي ومحمد اليازغي، وقد وجدوا سيارة »فاركونيت« تابعة للسجن المركزي بالقنيطرة وأيضا شاحنة بها بعض الأغراض التي ستكون كفرش للاقامة الاجبارية لهم بميسور، . وعندما طلبوا من عبد الرحيم بوعبيد أن يمد يده لوضع القيد بصحبة محمد لحبابي، ابتسم الفقيد وخاطب رفيقه »خافو منك الحبابي لتهرب ليهم«. الخلاصة. يقول عبد الهادي خيرات. أن السي عبد الرحيم كان منتشيا بهذه الأفعال داخل السجن، إذ أنه لم يحصل أن اعتقل في ظل الاستقلال الذي فاوض الفرنسيين عليه.