سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تازمامارت.. بشاعات «معتقل الموت» التي تحولت إلى حكايات تقتل بالضحك المعتقلون سخروا من رؤساء وملوك واخترعوا «لغة» خاصة وألفوا نكتا أخرجتهم من قبورهم القاتلة إلى الحياة..
لم تكن المعاملة غير الإنسانية التي تلقاها نزلاء معتقل تازممارت الرّهيب، طيلة ما يقارب عقدين من الزمن، لتحطم صمودا أسطوريا سجله نحو 30 معتقلا، تمكنوا من مغادرة أسوار المعتقل «أحياء»، وهم أشباه أشباح.. تدفقت الحياة في عروقهم من جديد، ونجوا ليحكوا للأجيال حكاية السجن الأكثرَ رعبا في تاريخ المغرب الحديث.. وعلى عكس ما قد يتصوره البعض من أن هذه الفترة الطويلة كانت كلها أحزانا ودموعا على المعتقلين، فإن ما تقدّمه «المساء» في هذا الملف يعكس الوجه الآخر ليوميات السجناء، والتي حملت في بعض لحظاتها صورا مُشْرقة من الفرحة والضحك حدَّ البكاء.. بناء على حكايات عدد من «التازممارتيين»، الذين التقتهم «المساء»، وحكوا لها ذكريات طريفة من قلب سجن يعتبر أحدَ أكبر مآسي المغرب المعاصر. ابتداء من المحاكمات التي طالت المتّهَمين في انقلاب الصخيرات لسنة 1971، وانقلاب الطائرة الملكية لسنة 1972، عاش المعتقلون -رغم الأجواء الرهيبة والمشحونة- لحظات ضجّت فيها قاعات المحكمة بالضّحك من تصريحات بعض المتهمين ومن «السذاجة» التي تحدّثوا بها، قصدا أو دون قصد، إلى درجة جعلت القضاة العسكريين المُتجهّمين ينخرطون في ضحك هستيريّ.. داخل السجن الرهيب، أيضا، وظف المعتقلون كل إمكاناتهم العقلية واللغوية من أجل خلق جو من الفكاهة والنكتة، يصرف النظر شيئا ما عن واقع المعاناة البئيس الذي ظل يخطف رفاقهم بين الفينة والأخرى، فنظم بعضهم ما عرف ب«سينما تازممارت»، وتكلفوا بحكاية «الأفلام» التي شاهدوها بكثير من التشويق والتفصيل والإضافة.. فيما تحوَّل آخرون إلى «إذاعة» تنقل الأخبار بما تيسّر لها من وسائل. كما عاش عدد من المعتقلين على ذكرى حدثت لهم وهم في حالة ضعف شديد، وأخرى وقعت للحراس الشّداد الغلاظ، وظلوا يضحكون على ذكراها أياما طويلة، حتى ما بعد الإفراج عنهم، حيث صارت هذه الحكايات مادة دسمة للضحك في اللقاءات التي كان الناجون من جحيم تازمامارت يلتئمون فيها. من أبرز ما ابتدعه «التازممارتيون» للتنفيس عن ذواتهم، كانت «اللغة التازممارتية»، التي استعملوها للتواصل في ما بينهم ونقل أخبارهم الحساسة دون أن يتمكن الحراس من معرفة ما كان يدور داخل الزنازن، إلى درجة أن هؤلاء الحراس اعتقدوا أن الجنون قد أصاب المساجين، وهو الاعتقاد الذي ساهم، بشكل من الأشكال، في تخفيف الوطأة على السّجناء. سخرت اللغة التازممارتية من السياسيين والعسكريين ورؤساء وملوك الدول.. كما اعتمدت ألقابا خاصة لحرّاس السجن، واخترعت أفعالا جديدة لم توجد في غيرها من اللغات.. وقد تميّز بعض المعتقلين بالإبداع في اختراع هذه الكلمات ليتداولها الآخرون بعد ذلك. بعد خروج المعتقلين من السجن وعودتهم إلى «الحياة» مرة أخرى، كان عليهم التكيّف مجددا مع واقع مختلف عن الذي عاشوا فيه قبل 20 سنة، فحدثت لهم مواقف طريفة وغريبة عاشها هؤلاء، ومنهم من «اتهموا» بأنهم أصبحوا فاحشي الثراء ويتلقون أموالا طائلة، ومنهم من وجدوا أنفسهم يتعلمون المشي من جديد، أو يحاولون معرفة أصول الحساب الماليّ المعتمَد في زمن ما بعد تازممارت.. «المساء» تنقل لقرائها جانبا من المواقف الطريفة والمضحكة التي عاشها «سكان» قبور تازممارت، انطلاقا من بدء محاكماتهم، وصولا إلى «قبورهم» المظلمة في السجن الرّهيب، وانتهاء بعودتهم إلى الحياة مجددا.. مواقف يرى التازممارتيون أنها تعكس روح التحدي والإصرار، التي جعلهم يغادرون جدران زنازنهم البئيسة إلى الكون الفسيح، وفوتت على سجانيهم فرصة «التلذذ بقتلهم بوتيرة بطيئة»، ومثلت تعبيرا عن أقصى طاقات التحمّل البشري..
اللغة «التازمامارتية».. الشفرة التي أنقذت المعتقلين من الجنون
حكايات طريفة وأخرى أليمة «أبطالها» معتقلون سابقون
بعدما قضى معتقلو تازمامارت 10 سنوات داخل قبورهم المعزولة فوجؤوا -في شتاء 1982- بتفتيش شامل همَّ كل الزنازن، فتم تجريد السجناء من كل «الزوائد» التي جمعوها طيلة سنواتهم العشر وتركِ الزنازن قاعا صفصفا.. إلا أن المُعتقَل عبد الله عكاو سيتمكن، رفقة بعض رفاقه، من جمع بعض المُقتنيات «الثمينة»، مثل قطع القماش والكرتون، حيث صنعوا منها «أفرشة» بدائية تقيهم شرّ البرد الصقيعيّ القاسي. حينما نزع السّجانون من عكاو «فراشه»، الذي طوره عبر السنوات التسع السابقة، شرع في الصّراخ بشكل هستيريّ، وفي الضرب على الباب الحديدي والبكاء وطلب «الرّحمة»، أملا في استعادة «الخرقة» التي كان ينام عليها، واستمر على هذه الحال وقتا طويلا، قبل أن يصل الدور على زنزانة المرزوقي التي تحمل الرقم 10، والموجودة قبالة زنزانة عكاو، وما إن انفتح باب الزنزانة وظهر المرزوقي حتى انقلب حال عكاو فجأة، وانخرط في ضحك هستيريّ، سالت معه الدموع، ولم يستطع التوقف منه لمدة طويلة. لم يُصب صاحبنا بالجنون، كما ظنّ الحراس، الذين وقفوا ينظرون إليه باندهاش، ويتساءلون عن سبب هذا الانقلاب المفاجئ.. لكنّ الخارج من ظلام الزنزانة رقم 10 كان يحمل الجواب، فقد كان «شكل» المرزوقي «البهلوانيّ» سببا كافيا لموجة الضحك التي اعترَت زميله، فعندما علم أنّ الحراس يُفرِغون محتويات «الأفرشة» البدائية التي صنعوها بأيديهم، تفتقت ذهنه عن فكرة تمكنه من حماية «ممتلكاته» كما اعتقد، حيث أغلق سرواله من أسفل، جهة الحذاء، وأفرغ قطع «الفراش» داخل سرواله لإخفائها، لكنها «تكوّمتْ» شيئا فشيئا عند ساقيه، وانتفخ السروال حتى صار شكله أشبهَ ببهلوان في سِيرْك.. ويحكي محمد الزموري قصة أخرى وقعت مع المرزوقي في الفترة التي كان مسموحا فيها لزميله «الطويل» بالخروج من العنبر والبقاء لفترة طويلة في الخارج، بعد تدخلات زوجته الأمريكية، وأصبح يحظى بوجبات «ممتازة» بالمقارنة مع غيره من المعتقلين، حيث كان يحصل في كل صباح على كميات من الزبدة والمُربّى، لم يكن بإمكانه استهلاكها كلها لوحده، فكان يقوم بتجميعها من أجل إعادة توزيعها على زملائه في يوم يشكل «عيدا» بالنسبة إلى هؤلاء. ويقول الزموري إن السجناء كانوا يعدّون ليوم «الوليمة» عدّته، حيث يجهزون المكان ويستعدون لاستقبال حصتهم.. وذات يوم حصل المرزوقي على حصته من الزبدة في الصحن البلاستيكي، فوضعه إلى جانبه، ثم التفت إلى الجهة الأخرى بحثا عن غرض آخر، ليكتشف أنّ الصحن قد «اختفى» واختفت معه «الوليمة»، فقام بتمشيط الزنزانة ومسح كل سنتمتر منها بحثا في الظلام عن الصحن المفقود، حتى يئس من إمكانية إيجاده، وظن أنّ «عفريتا» قد اختطف طعامه، ثم قرر الجلوس على فراشه الإسمنتي والاستسلام للأمر الواقع.. وفي لحظة جلوسه سمع المرزوقي صوتا غريبا، وأحسّ بأنه قد جلس فوق «شيء ما».. واكتشف أنه صحن الزبدة، الذي كان ملتصقا بسرواله من الخلف طيلة المدة التي كان يبحث عنه.. كان قد جلس عليه عن غير قصد، في البداية، فالتصقت الزبدة بسرواله، وظلت «خلفه» طيلة الوقت الذي كان يبحث عن الصحن.. وحين أخبر زملاءه باكتشافه «مكان» صحن الزبدة انفجر العنبر ضحكا، وخلّد المعتقلون الواقعة الطريفة إلى يومنا هذا.. لغة تازمامارت ظهر للمعتقلين في سجن تازممارت، منذ اللحظة الأولى لدخولهم هذا المعتقل الرهيب، ورميهم في زنازن مظلمة موحشة، أنهم لن يحتاجوا كثيرا إلى حاسة البصر، فلا شيء يلفّهم هناك غير السواد.. كما تمنى هؤلاء المعتقلون لو فقدوا حاسة الشمّ أيضا، فهي لن تحمل إليهم غير الروائح النتنة.. لكنْ بقي السمع والكلام السّلوى الوحيدة لقاطني «القبور المُرقَّمة». لم يكن التواصل بالأمر الهيّن، في ظل وجود مساحات فاصلة بين الزنازن، التي أحاطت بها أسوار سميكة عزلت ساكنيها عن العالم الخارجي بشكل شبه كامل، ولم يكن هناك بدّ من رفع الصوت إلى أقصى مدى ممكن من أجل إسماع بقية السجناء ما يريد أحدهم قوله.. ولأنّ المعتقلين كانوا متيقنين من تنصت الحراس عليهم، تنفيذا لتعليمات مدير السجن، حسب ما أخبر به أحد الحراس الذي كان متعاطفا مع السجناء، والذي نبّههم إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر، فقد كان رفع الصوت بالكلام يحمل خطورة عليهم، لاحتمال أن يُنصت الحراس إلى ما كان يدور في الداخل، وقد تنتجت عن ذلك مُضاعَفات خطيرة على وضعية السجناء، التي كانت في الحضيض أصلا.. في ظل هذه الوضعية تفتقت عبقرية سكان «دولة تازممارت» -كما كان يحلو للمعتقلين تسمية المعتقل- عن فكرة استخدام مصطلحات خاصة بهم، تحُول دون فهم الحراس الأحاديثَ التي تدور داخل عنبر الاعتقال.. بدأ الأمر -كما يقول أحمد المرزوقي- بمصطلحات بسيطة شكّلت النواة الأولى للغة التازممارتية، وكانت تصاغ بطريقة عفوية أو عن طريق المصادفة، فلم يجتمع السجناء يوما للتقرير في أمر اللغة واختيار المصطلحات. كانت اللغة التازممارتية -أو «الكود» كما سماها المعتقلون أول الأمر- خليطا من الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والأمازيغية.. فضلا على بعض الكلمات التي لا أصل لها في أي لغة، والتي نُحتت من طرف السجناء عبر التداول والتكرار، حتى صارت جزءا من تراكيب الجمل التي لا يفهمها غيرهم.. أولى الكلمات «فيها» كانت أول كلمة أنتجها المعتقلون من قاموس «الكود»، وبدأت إبان فترة اعتقالهم في سجن القنيطرة قبل محاولة الانقلاب الثانية على الحسن الثاني في غشت 1972، حيث كانت الأبواب الحديدية للزنازن تحتوي على نوافذ صغيرة، تغلق بمزلاج توضع فيه «إبرة» حديدية سميكة لإحكام إغلاقه، وكانت تلك النوافذ بمثابة المتنفس الرئيسي للمعتقلين، لذا كانوا يعمدون إلى محاولة فتحها باستعمال بعض الأسلاك التي تستغلّ كصنارات لالتقاط الإبرة التي تحكم إغلاق النافذة. ويعمد السجين إلى إخراج السلك المعقوف، ويشرع في تحريكه بناء على تعليمات سجين آخر يوجد في الزنزانة المقابلة، حتى إذا استقر السلك في ثقب الإبرة، صاح الموجه قائلا: «فيها»، أي أنّ السلك في المكان المطلوب، فيسحبه صاحب الزنزانة ويتمكن من فتح النافذة.. لكن هذه الكلمة، التي انتقلت مع «المختطفين» إلى سجن تازممارت، أصبحت لها دلالة أخرى، فقد صارت بمثابة «البشير» الذي يخبر السجناء الجياع بوجود وليمة منتظرة، يقول المرزوقي.. «فيها».. كانت كلمة سحرية بالنسبة إلى السجناء، وكانت في عرف «دولة تازممارت» تعني أن وجبة الغداء لهذا اليوم تحتوي على اللحم.. «طبعا، لم يكن لحما بالمعنى المعروف لدى عامّة الناس، ولكنه مع ذلك كان يوما احتفاليا بالنسبة إلينا»، وفق المرزوقي دائما. ويضيف صاحب كتاب «الزنزانة رقم 10»، والابتسامة تعلو محياه: «لم نكن نحصل على اللحم إلا في بعض المناسبات القليلة، مثل الأعياد الدينية أو الوطنية، وحتى في هذه المناسبات فقد لا يكون نصيبك إلا قطعة شحم متجمد أو عظم».. وكان كل من المعتقلين محمد الرايس ومبارك الطويل مقابلين لباب العنبر، لذا كانا أول من يرى وجبة الغداء ومكوناتها، وحين يكون اللحم موجودا يطلقان العنان لصرخاتهما المُبشّرة: «فيها.. فيها»، وتعلو أصوات باقي المعتقلين ابتهاجا بالخبر. لغة تازممارت 2 يؤكد المرزوقي أن اللغة التي استعملت من قبل معتقلي العنبر الأول قابلتها لغة تازممارتية ثانية، أنتجها المعتقلون في العنبر الثاني، والذين عايشوا ظروف الاعتقال نفسَها أو أسوأ، والذين كانت لهم الاحتياجات التواصلية ذاتها، لذا كان من الطبيعي أن يخلقوا لغة خاصة بهم. لكن لغتَي العنبرين كانتا مختلفتين بشكل كلي تقريبا، باستثناء بعض المصطلحات التي تصادف تشابهها، نظرا إلى الخلفية «العسكرية» التي تجمع المعتقلين جميعا، والتي أنتجت تسمية بعض الأمور بأسماء متقاربة من طرف المجموعتين، وهو ما اكتشفه سكان العنبر الأول عندما نقل عدد من سجناء العنبر الثاني للإقامة في الزنازن التي رحَل أصحابها إلى قبورهم.. «إذا كانت اللغة التي استحدثناها في عنبرنا هي الإنجليزية مثلا، فإن نزلاء العنبر الآخر كانوا يتكلمون الإسبانية»، يقول المرزوقي، موضحا الفرق الكبير بين اللغتين المستعملتين للتواصل، لذا لم يكن بالإمكان استعمال «الكود» نفسه مع القادمين الجدد إلى الزنازن الفارغة. نشرة الأخبار كان الغرض الأساسي لاختراع لغة تازممارت هو إيصال المعلومات التي يمكن الحصول عليها بطرق خاصة من قبل بعض السجناء إلى بقية المعتقلين، دون أن يدرك الحراس أنّ القابعين في الزنازن قد أصبحوا على تواصل مع العالم الخارجيّ!.. ويذكر المرزوقي أنّ اثنين من رفاقه في العنبر الأول تمكنا عند قدومهما إلى تازممارت من تهريب جهازَي «ترانزيستور» أفلتا من عمليات التفتيش التي انتزعت من السجناء كل شيء قبل «رميهم» في الزنازن، وكان هذان الجهازان النافذة الوحيدة على العالم الخارجيّ لمدة طويلة. لكن «الترانزستور» الذي كان بحوزة المعتقل محمد لغالو كان سببا من أسباب الوضعية المأساوية التي آل إليها بعدما اضطرّ إلى تكسيره ورميه في مجرى الصرف الصحي حين أعلمه صديقه، حارس تازمامارت (الطيّب) العربي لويز، بقدوم لجنة تفتيش إلى الزنازن، فتسبب ذلك في انسداد المجاري وفيضان الماء الحارّ في زنزانته، وإفساد بيئتها الملوثة أصلا، مما أدى إلى تدهور حالة لغالو، الذي صار مشلولا بالكامل.. وهكذا أصبح عبد الكريم الساعودي السجينَ الوحيد المتوفر على «كنز» اسمه الراديو، الذي بإمكانه أن ينقل أخبار العالم الخارجي إلى السجناء.. «لكنّ مذياع الساعودي بقي بدون بطاريات إلى أنْ أتى اليوم الذي قال فيه الحارس الطيب، العربي لويز للمعتقل محمد لغالو إنه سيُحضر لنا البطاريات، وهو ما تطلب عقد اجتماع ساخن لمناقشة القضية.. لتحديد ما إذا كان الحارس يريد أن يمنّ علينا بهذه الخدمة أم أنه فقط يجسّ نوايانا ليبلغ عنا الإدارة».. يقول المرزوقي، الذي يضيف أن الحارس العربي لويز كان صديقا لمحمد لغالو منذ أن اشتغلا معا في إحدى الثكنات، قبل أن يلتقيا مجددا في تازمامارت: لويز حارسا ولغالو معتقلا.. «بعد نقاش حاد وانقسام في الآراء بين متخوف من وشاية العربي لويز، وبين قائل إن الرجل لم يفعل إلا خيرا، استقرّ رأينا في الأخير على أنه ليس لدى السجناء ما يخسرونه، فطلب لغالو من صديقه إحضار البطاريات، وهو ما وقع بالفعل، فأعيد تشغيل الجهاز»، يضيف المرزوقي. شغّلت البطاريتان اللتان أحضرهما العربي لويز «الترانزيستور» لمدة 6 أشهر.. كان الساعودي خلالها يلتقط بثّ الإذاعات يومي الاثنين والخميس، ويحتفظ بالبطاريتين في مكان دافئ بقية الأيام، حتى يمضيا أطول فترة ممكنة.. وخلال تلك الشهور الستة، كان الساعودي يوصل إلى زملائه الأخبار أولا بأول، فتتحول إلى مواضيعَ للحديث لمدة طويلة، نقدا وتحليلا وتنبؤا... مصطلحات عجيبة إذا كانت اللغة الفرنسية تستعمل أفعالا مساعِدة لكثير من المعاني، مثل فعل الكينونة «être» وفعل التملك «avoir»، فإن اللغة التازممارتية بدورها «خَلقتْ» لنفسها أفعالا من هذا القبيل، وأشهرها بين المعتقلين «سلوبَا» و«ما يسلوبي».. ولهاتين الكلمتين العديدُ من المعاني المتداولة، مثل إنجاز أمر ما، حيث ينادي أحد المعتقلين على زميله ويخبره أنّ «الأمر سلوبا»، أيْ تم إنجازه، أما إذا أخبره أن الأمر «مَا يسلوبي» فذاك معناه أنّ الإنجاز لم يتمّ بعد. أما جهاز إنذار معتقل تازممارت فكانت الكلمة العجيبة «كيكليكيس»، والتي كان السجناء يستعملونها للدلالة على خطر قادم، ولتنبيه بعضهم البعض إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر، وللتحذير من احتمال إجراء الحراس عمليات التفتيش، أو عند قدوم المدير أو أحد زبانيته.. وكلمة «كيكليكيس»، في أصلها، هي تحريف للسؤال عن الحال باللغة الفرنسية، حيث إن أصلها هو «?qu'est ce que c'est».. كان أحد العاملين الأميين في قاعدة أهرمومو يحاول تقليدَ الجنود في الحديث بالفرنسية، فيصيح متسائلا «كيكليكيس».. فصارت الكلمة مثار سخرية في البداية، قبل أن تتحول إلى «نذير» خطر بين جدران معتقل تازمامارت. وبعد فترة من الزّمن، استغنى السجناء عن كلمة «كيكليكيس» في التحذير، واستبدلوها بكلمة «شاباهي» للدلالة على المعنى نفسه.. و»شاباهي» هو اسم لفيلم هندي كان ذا شهرة واسعة في سبعينيات القرن الماضي، ويقول المرزوقي إنه تلقفها من زملائه دون أن يعرف الرّابط بين الفيلم والإنذار بالخطر.. كما كان الوصف الذي أطلقه المعتقلون على كل أمر مُشتبَه فيه، أو مثير للرّيبة، هو «الغندريجْ»، وضرَب المرزوقي مثلا على ذلك بأنْ يقوم أحدهم بإرسال رسالة إلى الآخر بواسطة حبل «محلي الصنع»، كان مستقبلها يُعْلمه بنجاح في التوصّل بها من عدمه بإطلاق عبارة «الغندريجْ سلوبا»، أي أنّ «الرسالة وصلت»، وأنه تمكن من تلقفها، أو «الغْندْريجْ ما يْسلوبي»، للدلالة على أنّ «الرسالة لم تصلْ»، وأنه لم يتمكن منها بعدُ.. أمّا الخطابات الدبلوماسية وغيرها فقد كان المعتقلون يسَمّونها «المسمنة»، فكان «مذيع الأخبار» في العنبر الأول، عبد الكريم الساعودي، يخبر زملاءه، مثلا، أن «باربرُو صِيفط مسمنة لوشنْ»، بمعنى أنّ «الحسن الثاني أرسل خطابا إلى هواري بومدين»، بينما كان التّلغرام القصير يسمى «طيرْ بقرْ».. مواقف حرجة.. يذكر المرزوقي بعض المواقف التي كانت فيها «لغة تازممارت» عاملا حاسما في إنقاذ السجناء من ورطات حقيقية، لاسيما عند الدخول المفاجئ للحراس وإجرائهم عمليات تفتيش الزنازن، بحثا عن «الممنوعات»، والتي لم تكن غيرَ بعض حبات الدواء أو أدوات حلاقة «محلية الصنع»، أو ممتلكات أخرى كان السجناء يعتبرونها «كنوزا» في جحيمهم ذاك. ويعود مُحدّثنا بالذاكرة إلى لحظات التفتيش الرّهيب الذي طال جميع زنازن المعتقلين سنة 1982، عند اكتشاف أحد الحراس وجود مجلة أدبية لدى السجناء، فقررت إدارة السجن أن «تمسح» كل مليمتر من الزنازن، بحثا عن أي شيء يمكن أن تقع عليه أيديها.. خلال عمليات التفتيش كان الحراس يمرّون من زنزانة إلى أخرى بالترتيب الترقيمي، فكان دور كل سجين ينتهي منه الحراس هو توجيه بقية السجناء لأخذ التدابير اللازمة لإخفاء «مقتنياتهم» بعيدا عن الأماكن التي يفتشها الحراس بدقة، وإرشادهم إلى أماكنَ أكثر أمنا. ولم يكن الحراس يفهمون شيئا مما يجري وظنوا، مرة أخرى، أنّ السجناء قد جنّ جُنونهم، وفقدوا عقولهم في غمرة البرد القارس الذي أتى على حياة ثمانية منهم خلال تلك السنة (1982) فكانوا يصرُخون فيهم مطالِبين إياهم بالتزام الصّمت، ومتهمين إياهم بالجنون.. لكنّ إصرار المعتقلين على إنقاذ بعض «الممتلكات» جعلهم يواصلون تحذير بعضهم البعض، وقد تمكنوا بفضل ذلك من الاحتفاظ بأشياء «ثمينة»، حيث كان من مرّوا من التفتيش يخبرون زملاءهم عن الأماكن التي لا يفتش فيها الحراس، أو ينبّهونهم إلى تلك الأماكن التي تخضع لتفتيش دقيق. الهم المضحك.. في الوقت الذي كان كل شيء يبعث لساكني الزنازن المظلمة على اليأس والقنوط، كانت روح النكتة لا تزال حاضرة بقوة، إذ وجد فيها التازممارتيون الفرصة لتزجية الوقت وبعث التفاؤل في نفوسهم في انتظار المجهول.. وجعلوها سلاحَهم لطرد وساوس التفكير في الانتحار!.. يسرُد المرزوقي «واقعة الصّراصير» وهو لا يتمالك نفسه من الضحك.. فقد حدث أن غزَت أسراب من هذه الحشرات المُقزّزة جدران الزّنازن، حتى صارت طبقات بعضها فوق بعض، ولم يعد بالإمكان رؤية الجدران تحتها.. فصارت تشكّل مصدرَ إزعاج كبير للحرّاس، أما السجناء فلم يعودوا يشعرون بوجودها، ودخلت في قوائم «وجبات» بعضهم من حيث لا يَدرُون، حينما كانت تسقط من السّقوف في آنية طعامهم.. وحينما ضاق الحرّاس ذرعا بالصّراصير قرروا القضاء عليها باستعمال مبيد بخاريّ قوي لإبادتها. ونترك المرزوقي يحكي الواقعة بتفاصيلها، السريالية على حد وصفه: «كان غزو الصّراصير أكبرَ من أن يصفه بشر.. حينما كان بعض الضّوء ينعكس على الجدار كنت تستطيع رؤية «أمواج» من هذه الحشرات السّوداء والبنية تتحرّك بعضها فوق بعض، ثم أتوا بالمبيد الحشري، ولم يستطع الحراس دخول الزنازن، كما أنهم لم يفكروا في إخراجنا منها قبل رشّ المبيد القوي».. ويتابع المرزوقي: «أخذوا يفتحون أبواب الزنازن بالشكل الذي يسمح لهم بإدخال خرطوم الرّش فقط، ثم يشرعون في بثّ السم القاتل، علينا وعلى الصّراصير على حد سواء، فسقطتُ مغشيا عليّ وسقطَتِ الصراصير كذلك، كان مَشهدا سُرياليا يبعث على الضّحك!».. أخرج الحراس بعد انتهائهم من عملية الرّش، «تلالا» من الصّراصير، كما يقول المرزوقي، حيث تطلّب حملها جولات متعدّدة، وكونت «جبلا» من «سْرّاق الزّيتْ» في ساحة السجن، قبل أن يتم إحراقها.. لكنها عادت للظهور في ما بعدُ، مما جعل الحراس يحضرون مبيد «D.T.T.» لكن السجناء حولوه إلى «دواء» فعّال للجروح، وبدل أن يرشوا به الصراصير رشّوا به قروحهم المتورّمة، تاركين «سْرّاق الزيت» يؤنس وحدتهم، فلا زيت في هذه الغرف المدلهمة ليسرقه.. بعد سنوات من الإقامة في «السّيلولاتْ» -المراحيض، انسدّت قنوات الصرف الصحي بشكل كامل، وأصبحت الزنازن «عائمة» في مياه «الواد الحار»، فأعطى الحراس للمساجين قنينات من مادة تستعمل في فتح القنوات، هي مزيج من «جافيل» وموادّ أخرى، أطلق عليها السجناء اسم «الزّرنيخْ».. لكنّ أحد الحراس تلقف هذه الكلمة دون أن يفهم معناها، ولدى قيامه بتوزيع الطعام على المساجين، كان يخاطب بعضهم قائلا: «هاكْ أوْلدي ها الزّرنيخ.. كولْ الزّرنيخ.. تزْرنْخ مْع راسْكْ»، وهو ما كان يطلق العنان لضحكات السجناء.. أما «بابا احمد»، أحد حراس المعتقل، فكانت له قصة أخرى مع المرزوقي، حينما اشتدّ العطش بمُحدّثِنا، ذات يوم، فطلب من الحارس بعض الماء، وكان هذا الشخص يُقْدم، أحيانا، على مساعدة السجناء، ولكنّ لسانه كان «مدمنا» على السّخط والتبرّم وإظهار الانزعاج من طلبات السجناء. ذهب «بابا احمد» لإحضار الماء للمرزوقي، ولكنْ في الوقت نفسه أطلق العنان لكلمات تشي بتبرّمه المعهود صائحا: «الما مْرّة اخرى، واشْ انت جْرانة (ضفدع)؟ ما كتشبعش مْن الما؟ واشْ أنا بُوحدي اللّي كاينْ؟ لا، سيدي، ما كايْن مَا، يكفي اللي خْديتيهْ».. واستمر على هذه الحال قبل أن يتراجع ويقدّم الماء للمرزوقي، فشكره الأخير قائلا: «لله دَرُّك يا بابا احمد»، لكنّ الحارس (الأمي) لم يكن ليفهم هذه العبارة، حيث فهم من كلمة «درّك» معنى الضّرر.. وهكذا أطلق العنان لصراخه الغاضب: «ضرّيتكْ؟.. أنا دابا ضْرّيتك؟ وهادي هي: ما تْدير خيرْ ما يْطرى باسْ».. فلم يتمالك السجناء أنفسهم من الضحك، فيما بابا احمد يُرغي ويزبد.. من بين المواقف الطريفة التي يتذكرها المرزوقي عن هذا الحارس، أيضا، أنه كان يصاحب حارسا آخر سمّاه السجناء «أحمد الهيشْ» نظرا إلى حجم «جثته» الكبير. ولأنه كان دائمَ التجشؤ أثناء سيره، بطريقة تثير اشمئزازَ الجميع، وكان الحارسان يتعاونان في توزيع الطعام على السجناء خلال أيام رمضان، حيث كان «بابا احمد» يحمل الآنية البلاستيكية، فيُفرغ فيها «أحمد الهيشْ» الحريرة، بواسطة الملعقة الكبيرة، وحينما وصل إلى إناء المرزوقي، حدث ما لم يتوقعه أحد، حيث قام «الهيشْ» بإفراغ الحريرة على رقبة «بابا احمد» بدلَ الإناء.. وكان مشهد الرجل وهو يقفز ويتألّم «نكتة» رمضانية دسِمة استمرّ السجناء في الضحك عليها حتى البكاء لأيام عديدة، خصوصا عندما عاد «بابا احمد» في اليوم الموالي وهو يضع ضمّادات على رقبته «المسلوقة».. السجان السجين.. بين سجّاني تازممارت كان هناك حارس قصير القامة، مفتول العضلات، يشبه في قِصَر قامته أحدَ الضباط السامين الذين يعرفهم بعض المعتقلين، وكان هذا الضابط السامي يسمى مولاي الطاهر، وفي أجواء السّخرية كان يُطلق عليه «مولاي الطّا»، بحذف الهاء والراء.. «مولاي الطاهر كاملة كثير على رجل في مثل طوله»، يقول المرزوقي ساخرا. وقد أخذ حارس تازممارت هذا الاسم عن الضابط السامي، كما أخذ في ما بعد لقب «سْرّ فرّ»، نظرا إلى السرعة التي يتحرّك بها بين الزنازن، وهو يقوم بتوزيع الطعام على السجناء. كان هذا الحارس حينما يقوم بتوزيع الطعام على السجناء يُطالبه الرّايْس بالزيادة قائلا باللغة الأمازيغية: «إميكْ سميك»، حتى صارت هذه الكلمة لقبا للرّايس بين السجناء وبعض الحرّاس. حينما غادر المعتقلون سجن تازممارت تمّ استثناء محمد الرايس وغني عاشور، اللذين نقلا إلى سجن القنيطرة، على أساس أنهما كانا محكومَين بالسجن المؤبد، وأنّ العفو الذي استفادا منه ليس شاملا، بل تم تحويل حكمهما إلى 30 سنة، وبالتالي عليهما قضاء 10 سنوات أخرى، بعد 20 سنة التي «سلخاها» من عمرهما في تازمامارت.. في سجن القنيطرة كان الرايس يُنقل، من حين إلى آخر، لتلقي العلاجات في مستشفى ابن سينا في الرباط، قبل أن يُعاد إلى زنزانته في السجن المركزي في القنيطرة. في إحدى هذه الزيارات حدث أنْ تأخّرَ الرايس في المستشفى، فقرّر حراسه إيداعه سجن الزاكي في سلا، لقضاء تلك الليلة. في الصباح خرج الرايس إلى ساحة السجن، ليفاجأ بصوت يناديه بلقبه في تازممارت: «إميكْ سميكْ»، وكم كانت مفاجأته كبيرة عندما رأى سجانه السابق «مولاي الطّا» مرتديا بذلة السجناء، بعدما حُكم عليه في قضية متعلقة بإصدار شيكات بدون رصيد.. المضحك أنّ «مولاي الطّا» خاطب الرايس قائلا: «حرام عليكم، رحلتم وتركتموني محروما من الأموال التي كنت أجنيها معكم، وها أنا ذا في السّجن كما ترى».. وقد كان يجني الأموال «الطائلة» من جراء أدائه بعض الخدمات لصالح بعض السجناء الميسورين، وبكى بكاء مُرّا حينما صدر الأمر بالإفراج عن المعتقلين، واستمرّ حتى آخر لحظة في مطالبتهم بإعطائه ما لديهم من أموال.. اللغة المنقذة من الجنون في تلك الظروف المأساوية التي قضى فيها نزلاء «قبر» تازممارت حوالي عقدين من الزّمن، كانت حاسّة البصر حاجة «ثانوية» بالنسبة إلى «كائنات» لا ترى غيرَ الظلام، بينما أصبح الاعتماد على اللغة والخيال في أوْجِه، وهو ما أنقذ كثيرا من السجناء من الجنون، الذي كان يفصلهم عنه خيط رفيع، بينما أدى الصّمت بآخرين إلى فقدانهم عقولَهم. ووصف المرزوقي «الصّوت والكلام» بأنه كان يمثل الحياة في المعتقل، ويقول في هذا الصّدد: «من خلال الصوت واللغة تمكّنا من الخروج من السجن والتجول في الأرجاء، بل والسفر عبر العالم إلى دول ومدن عالمية».. كانت حكايات السجناء حول حياتهم هي الطابع العامّ في السنوات الأولى للاعتقال، حيث أنصت الجميع إلى أدقّ التفاصيل التي يتذكرها كل منهم عن حياته، وحينما لم يعد هناك ما يُحكى، واستنفد كل واحد منهم رصيده من مخزون الذكريات كان اللجوء، مرة أخرى، إلى اللغة والخيال لفتح فصل جديد. وهكذا تحوّل كل من المرزوقي والرايس إلى «قناة فضائية» تسرد الحكايات والأفلام وتسهب في تفاصيلها، وتزيد من تشويقها حتى يستمتع بها السجناء إلى أقصى درجة ممكنة، وتحول الرجلان إلى ما يشبه المجلة المسموعة التي ينتظرها رفاقهما بفارغ الصبر. وأكد المرزوقي أنّ غياب هذا المُتنفَّس كان سيعني «الموتَ» حقيقة لا مجازا فقط، بدليلِ أنّ كل من أحجم عن الكلام من المعتقلين مات بسرعة كبيرة.. بينما استطاع ممارسو الكلام الصّمود لفترات أطول، وعلى رأسهم المعتقلون الذين غادروا السجن في النهاية، وفق شهادة المرزوقي. ويصور المرزوقي أكثر المَشاهد مرارة في حياة معتقلي تازممارت، وهي تلك اللحظات التي يَرحَل فيها أحدهم إلى دار البقاء، مخلفا الصّمت الرّهيب والحزن والكآبة الشّديدين، إلى درجة أنّ ألسنة رفاقه تلجم «دهرا»، ويُطلقون بعد ذلك العنان للقرآن والدعاء لفقيدِهم. وإضافة إلى قوة الإيمان، كانت قوة الخيال عاملا إضافيا ساعد المعتقلين على الصّمود، حيث كان استمرار أحدِهم في القدرة على الحديث وإبداع أسباب جديدة للكلام وممارسة التواصل مع غيره من السجناء، قوة دفْعٍ تبعث بصيصَ الأمل لديهم، مُعزّزة بالإيمان بأنّ الله لا يقبل أن ينجو الجلادون بفعلتهم دون أن تدونَ حكاية المعتقَل الرهيب، وتسجَّل في التاريخ الأسود للبشرية، حتى يقرأ عنها الناس.. وفي تلك اللحظات العصيبة، كانت الانهيارات العصبية بين السّجناء تتوالى، وينتج عنها جنون دائم أو مؤقت، يتحول معها المُعتقَل إلى آلة للكلام والصّراخ والنداء على الأمّ والزوجة والأبناء.. بشكل يقطع أكباد من ظلوا صامدِين ومتمسكين بما تبقّى من أعصابهم، رغم أنّ ما يدور حولهم يفوق الوصف، فبالأحرى التحمّل!.. السخرية المرة لعب المعتقل الساعودي دورا كبيرا في صناعة قاموس اللغة التازممارتية، فقد كان الرّجُل يمثل بالنسبة إلى زملائه مصدرَ الأخبار، «كان هو الإذاعة والتلفزة بالنسبة إلينا، وبصفة آلية كان يقترح المصطلحات الجديدة، فتعتمدها «دولة تازممارت» على الفور»، يقول المرزوقي. أطلق السّجناء على الملك الرّاحل الحسن الثاني، في البداية، لقب «السّمرقندي»، نسبة إلى أبي الليث السمرقندي، صاحب كتاب «بحر العلوم»، نظرا إلى تبحّره في المعارف والعلوم والفنون.. كان هذا الرابط الغريب بين العالم والملك، يضمن عدم قدرة حرّاس السجن على تفكيكه ومعرفة المقصود به، خصوصا أنّ أغلبهم كانوا أميّين وفي أحسن الأحوال من ذوي المستوى التعليمي البسيط.. لكنّ لقب «السمرقندي تغيّرَ في ما بعد، وبالضبط عندما أجرى الملك الراحل حوارا صحافيا مع صحافية أمريكية تدعى «باربرا»، وهو حوار خلّف صدًى كبيرا على المستويين الوطني والدولي، نظرا إلى أنه تطرَّقَ لعدة أمور تهمّ العلاقات الدولية وحقوقَ الإنسان، ومنذ ذلك الحين قام السجناء ب«تذكير» اسم الصحافية الأمريكية (تحويله إلى المذكر) ليُصبح اسم الحسن الثاني -بلغة تازمامارت- هو: «باربرُو».. أمّا الأمير مولاي عبد الله، شقيق الملك الحسن الثاني، فاختار له السّجناء من اللغة الإسبانية اسم «إيرْمانو» (hermano) وتعني «الأخ». واعتمادا على شكل وجه الرئيس الجزائري الأسبق، هواري بومدين، ونحول جسمه، وتربّصه المُستمرّ بالمغرب، «نحتَ» له التازممارتيون اسما مُقتبَسا من اللغة الأمازيغية هو «وْشّْنْ» التي تعني «الذئب»!.. وعلى ذكر هذا اللقب -الوصف الذي خصّ به التازممارتيون الرئيسَ الجزائري الراحل، ينسب إلى الزعيم الحركي المحجوبي أحرضان أنه قال في أحد تصريحاته المُرتجَلة: «إيلا كانْ بومدين ذيبْ، المغربي راهْ سْلوكَِي (كلب سلوقي)».. أما معمر القذافي، الزّعيم الليبي الراحل، فكان يُلقَّب بين السجناء في بداية فترة إيداعهم تازمامارت، ب»الوْلدْ»، لكنْ يبدو أن هذا الوصف التحقيري لم يكن كافيا لوصف زعيم كانت قراراته وسلوكياته شبيهة بالتي يؤتيها طفل أرعن وسيئ التربية، لذلك أصبح اسمه، مَزيدا ومُنقَّحاً، وباللغة الفرنسية: «l'enfant terrible»، أي «الولد الفظيع».. وسمّى التازممارتيون ملِكَ السعودية، فهداً بنَ عبد العزيز، «بُونيفْ»، مُستلهمين شكلَ أنفه الطويل المعقوف، بينما حدّدت «الشيفرة» العسكرية اسم الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بنعلي في «Bravo Alpha». وسُمّيت تونس -بالاعتماد على حرفها الأول في الترميز العسكري- «تانغو».. وكذلك كان الشأن بالنسبة إلى الجزائر، التي أصبح اسمها، اعتمادا على الشفيرة العسكرية: «ألْفَا». بينما اخترع المعتقلون لنيجيريا اسما قريبا منها هو «نيغْريطا» تصغير لنيغرا «Negra»، وتعني السّمراء أو السوداء باللغة الإسبانية، وأغلب الظنّ أنّ هذا الاسم، بمعناه التازمامارتي، كان مِن وضع «الأسبيران» محمد الرايس، الذي كان يطلق على ابنته إلهام، سمراء البشرة، اسم «نغريطا»، لتدليعها. وتعتبر إلهام الرايس -بالمناسبة- مِن أوائل مَن كشفوا وجودَ معتقل تازمامارت لدى الرأي العامّ، الفرنسي والبريطاني.. «فوكسطروط» كان الاسمَ الذي يقابل حرف «ف» في الترميز العسكريّ، وبه سُميت فرنسا، وسُميت مصر «إيكو». كما اختار التازممارتيون للسوق الأوربية المُشترَكة اسمَ «أولاد السّوقْ»، وأصبحت تدعى «عبد الواحد»، بعد تحولها إلى الاتحاد الأوربي.. أما ألمانيا فاكتسبت اسم قيصرها، لا عب كرة القدم الأشهر: «بيكنْباوْرْ».. وللحقل السياسي نصيب.. حظيّ عدد من جنرالات الجيش والشرطة بأوصاف وألقاب خاصة بهم، وسّمي الضباط السامون «الهْويشة»، وهو مصطلح نحته المعتقل عبد الكريم الساعودي، وتلقفه باقي السجناء دون مناقشة. فيما اشتُقّ الاسم التزمامارتي لوزير داخلية الحسن الثاني، من اسمه الأصلي، فأصبح البصري يسمى «البيصَارة».. وقع الأمر نفسُه مع المستشار الملكي احمد بنسودة، الذي أصبح راديو تازمامارت يطلق عليه «المْسُودي». وسَمّى سكان «دولة تازممارت» رجالَ الشّرطة «الحارْثياتْ»، نسبة إلى ضابط شرطة كان يعرفه أغلب المعتقلين اسمه «الحارثي».. بينما حصل رجال الدّرك على تسمية «فْضّولاتْ» نسبة إلى كولونيل الدرك الملكي الشهير، فضّول، الذي أشرف على معتقل تازمامارت من يوم أودع فيه المعتقلون على ذمّة محاولتي الانقلاب على الحسن الثاني، إلى جانب أشخاص آخرين، وإلى يوم إطلاق سراحهم يوم الاثنين، 16 شتنبر 1991.. واستعمل التزممارتيون مصطلح «الفْريخاتْ» للدلالة على الوزراء، تشبيها لهم بصغار الطيور، التي لا يُمْكنها أن تطير أو تأكل وتشربَ إلا إذا جاءها حاضنها بالطعام.. بينما اشتقّ اسم المؤسسة البرلمانية من «الشّيفرة» العسكرية، باعتماد الأحرف الثلاثة الأولى «PAR» لتصبح التسمية «Papa Alpha Romeo»، والكلمات الثلاث هي مقابلات الحروف الثلاثة في التّرميز العسكريّ. أمّا الأحزاب السياسية، والتي تترجم إلى الفرنسية «Partis Politiques»، فاختُصِرت إلى الحرفين الأولين من تسميتها: «P.P»، وعُرِّبت بهذا الشكل: «البّيبِّي».. «خيرَة بيجو».. واحدة من بين أغرب الكلمات التي استعملها التازممارتيون، ووُظفت للدلالة على الانقلابات العسكرية، التي كانت حينها شائعة في إفريقيا، والتي كانت تخلّف فوضى كبيرة، رغم النوايا والوعود التي كان الانقلابيون يُقدّمونها لشعوبهم. استعار المعتقلون المتحدّرون من مدينة مكناس كلمة «خيرة بيجو» من سيدة كانت تعيش في حي سيدي عمر الشعبي، اسمها «خيرَة».. لم تكن في كامل قواها العقلية، وقد اشتهرت بكثرة الحليّ والمُجوهرات التي تضعها على صدرها وأصابعها وساعديها وأذنها، بشكل فوضويّ باعث على السّخرية أكثرَ من الإعجاب، وعلى الفوضى أكثرَ من الجمال. وقد اقترن اسم السيدة «خيرَة» بالمجوهرات «bijoux»، فصارتْ معروفة في مكناس باسم «خيرة بيجو»، وأصبح لاسمها، بلغة المرزوقي ورفاقه، دلالة على الفوضى التي يُحْدثها الانقلاب: «خيرابيجو»..
«آذان» الحراس
يؤكد أحمد المرزوقي أنّ حراس السجن كانوا يمارسون التجسّس بشكل ممنهَج على المعتقلين، من خلال ما استقوه من تصريحات بعض من تعاطفوا معهم، لكن استعمالهم هذه اللغة الغريبة جعل الحراس يقتنعون بأنّ أغلب المعتقلين قد فقدوا عقولهم بالفعل، ونقلوا تقاريرهم بذلك إلى إدارة السجن، وأصبحوا يتعاملون مع السّجناء على هذا الأساس.. وانطلاقا من اعتقاد الحراس بفقدان السجناء عقولهم، «تراخت» قبضة الحراسة شيئا فشيئا، كما يؤكد محدثنا، وسهّل هذا الأمر من مهمة التواصل بين السجناء، لكنّ ذلك لم يمنعهم من مواصلة أخذ الحيطة والحذر، والاستمرار في استعمال «الكود». ولم يتمكن الحراس من فكّ شيفرة اللغة التازممارتية، كما لم يحققوا مع السجناء في الطريقة «المجنونة» التي يتكلمون بها، نظرا إلى اعتقادهم أنّ السجناء لا يعرفون أنهم مراقبون، ولم يريدوا أن يفتضح أمر مراقبتهم لهم، لذا استمر الطرفان في نكران معرفة كل منهم بما يفعله الآخر.. ويرجّح المرزوقي عدم معرفة إدارة السجن باستعمال السجناء تلك الطريقة الغريبة في التواصل، ويرجع ذلك إلى عدم استعمالهم لها في حضور السجانين إلا في بعض الحالات النادرة -التي سنعرض لها لاحقا- فضلا على أن الإدارة كانت قد أهملت أمر المعتقلين و«نسيتهم» بشكل شبه تام.
«العاوْدْ».. القتيل الذي «فجّر» قاعة محاكمة الصخيرات ضحكاً..
لم تخْلُ الأجواء المشحونة والمتوترة لواحدة من أشهر المحاكمات في تاريخ المغرب من لقطات طريفة، كسرت هدوء القاعة و«خشوعها»، وأخرجت القاضيَّ والمدعيَّ العام عن صرامتهما وتجهّمهما المألوفَين. يروي عبد الله عكاو، أحد المعتقلين المحكوم عليهم بالسجن في قضية انقلاب الطائرة لسنة 1972، بعضا من طرائف التحقيق الذي سبق المحاكمة العسكرية التي ترتّب عنها «دفنهم» في جحيم تازممارت لعقدَين من الزمن.. كان الكولونيل بنعيادة هو قاضي التحقيق في المحكمة العسكرية المكلف بالتحقيق مع الطيارين والسلاحيين الذين عبّؤوا الطائرات بالأسلحة والذخائر، وكان يناقش المتهمين في التفاصيل، ويسجل في المحاضر ما يقبله ويغير أو يضيف في ما لا يوافق هواه.. ويقول عكاو إنه كان مكلفا بمكتب الذخيرة في المطار، وهو عبارة عن مستودع لتقريب الأسلحة من المقاتلات، يقع بالقرب من مرآب الطائرات، وكان يُحصي الذخيرة التي تخرج من المستودع ويرفع تقارير عن ذلك. وحين سأله بنعيادة عن حجم الذخيرة التي سلمها للطائرات في ذلك اليوم، أجاب بأنها بلغت 7600 خرطوشة.. سأل المحقق عبد الله أعكاو بعدها عن المكان الذي ذهب إليه بعد انتهاء المهمّة، وعلمه أنّ الأمر يتعلق بانقلاب، فأجاب بأنه توجَّهَ إلى «الكافيتيريا»، حيث تناول وجبة العشاء، ثم توجه إلى غرفته واغتسل واستلقى على الفراش، قبل أن تصل القوات التي ألقت عليه القبض، رفقة زملائه. أمسك قاضي التحقيق بالورقة التي سجل فيها عكاو الذخيرة التي سلمها للطائرات، وعثر عليها في جيب سترته، ثم شرع ينظر إليها وهو يقول مستهزئا: «أعطيتَ 7600 خرطوشة للطائرات التي هاجمت الملك، ثم ذهبتَ وتعشيت واغتسلت واستلقيت في سريرك.. واشْ هاد الخرطوشْ شاريهومْ بّاكْ؟».. ومن بين المعتقلين الذين شهد عكاو التحقيق معهم أحد الجنود البسطاء، والذي كان سمينا وقصيرَ القامة، ووجهُه دائم التجهّم.. وقف أمام القاضي فسأله هذا الأخير عن المهمة التي كان يؤدّيها، وكان جوابه أنه يملأ خزانات السيارات بالوقود، فسأله القاضي عن أي سيارات يتحدث وهو يعمل في مطار عسكريّ.. ودار بينهما الحوار التالي: القاضي: عن أي سيارات تتحدث، قُلْ «الطيارات» الجندي: إيّيه نْعاماسّ، كنعمّر ليصانصْ للطّوموبيلاتْ.. القاضي: علاشْ كاينْ شي طوموبلات فالمطارْ الجندي: هادوك الطوموبيلات اللي كيطيرو، نْعاماسّ.. انفجر من كانوا في قاعة المحاكمة ضحكا، وعلى رأسهم القاضي، الذي انهمرت دموعه من شدّة الضحك، كما يحكي عبد الله عكاو.. واكتملت «الكوميديا» عندما عاد الجندي إلى مكان جلوسه، وخاطب زملاءه قائلا: «بْغاو يتفلاو عليّا.. أنا اللي غادي نتفلّى عليهم». ويحكي المعتقل السابق، الراحل محمد الرايس، جزءا من هذه المواقف الطريفة، في مذكراته التي تروي أحداث السجن الرّهيب، في الفصل المتعلق بمحاكمة المتهمين في محاولة الانقلاب. من ضمن هؤلاء كان هناك الضابط بندورو، القبطان السابق في الدرك الملكي، والذي قال أمام المحكمة إنه لم يكتشف حقيقة ما يجري إلا بعد وصوله إلى الرباط، وهنا بادره رئيس المحكمة، عبد النبي بوعشرين، عن أول رد فعل له بعد اكتشافه الخدعة التي نفذها امحمد اعبابو، فردّ بهدوء غريب: «مشيتْ لأول محل صادفته، وشربت كوكاكولا بارْدة».. فانفجرت القاعة كلها ضحكا.. ولأنّ رئيس المحكمة كان يُكرّر على المُستجوَبين الأسئلة نفسَها تقريبا، فإن سؤالا محددا حول ما إذا رأى التلاميذ -الضباط جثثا وقتلى داخل القصر الملكي في الصخيرات، استفز جوابه المتكرر رئيسَ المحكمة، حيث ظل التلاميذ -الظباط يجيبون بشكل متكرر أنهم رأوا «العاوْد» ممددا على العشب، فما كان منه إلا أن أرغى وأزبد، وصاح غاضبا من هذا الجواب المتكرر والمستفز من الطلبة قائلا: «باراكا ما تقولو العاوْد.. العاوْد، هل كان العاوْد هو الضحية الوحيدة؟ كتكلمو على الحيوان وتنساو بنادمْ».. وهنا تدخل البعض وشرح لرئيس المحكمة وقضاتها أن «العاوْد» هو أحد التلاميذ -الضباط، وليس «الحصان» كما اعتقد القاضي، فانفجرت القاعة، مرّة أخرى، من الضحك، بسبب هذا «الفهم» المقلوب من طرف هيئة المحكمة. أما الضابط مريزق، الذي كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فقد صرّح للقاضي بأنه سمع الحوار الذي دار بين المارشال أمزيان والكولونيل اعبابو، عندما توقفت القافلة في طريقها إلى الصّخيرات، وهو الحوار الذي دار بالفرنسية، فلم يتمكن مْريزق من استيعابه.. وحين سأله القاضي إنْ كان لم يفهم أيَّ كلمة مما قيل، أجاب بتلقائية: «هناك كلمة واحدة بقيتْ عالقة في ذهني، وهي: «سَامَازيسْطِي».. وكان يقصد «Sa Majesté»، فعادت القاعة لتنفجر من الضّحك مجدّدا..
«مالك.. كنت فالمريخْ؟»..
بعد عقدين من الغياب القسري عن المجتمع، وجد العائدون من جحيم تازممارت «مغرباً آخر» في انتظارهم، مختلفا بثقافته وقيمه ولهجته ومعاملاته الاجتماعية والمالية وغيرها، كما يؤكد السجناء السابقون الذين التقيناهم. رغم أنّ سنوات طويلة مرّت على مغادرة المعتقلين «قبرهم» الرهيب، فإن اللغة التازممارتية بقيت حاضرة في نقاشات أصحابها عندما يجود الزّمن بلقاء يجمع بينهم في بعض المناسبات، ويشرعون في الحديث عن ذكريات السجن، أو سؤال بعضهم البعض عن جديد أحوالهم. يروي المرزوقي كيف أنّ المعتقلين كانوا يشرعون، بطريقة لا شعورية، في استعمال لغة تازممارت أثناء الحديث في ما بينهم، مما يثير انتباه المحيطين بهم، فيظنون أنّ رفاق السجن قد فقدوا عقولهم، وصاروا يهذون هذيانَ من أصابه مسّ، قبل أن يفطن بعضهم إلى ذلك وينبّهوا زملاءهم. تمضي لقاءات المعتقلين السابقين كلها في جو من المرح والضحك والفكاهة، كما يؤكد المرزوقي، ولا يعودون إلى ذكريات السجن الأليمة، بخلافِ ما يعتقد الناس، ويجدون بينهم تفاهما منقطع النظير، نظرا إلى أنّ كل واحد منهم يعرف محدثيه تمام المعرفة. «تراث» المعتقل خارج المعتقل، وجد المُفرَج عنهم الغائبون عن المجتمع نحو عشرين عاما، بيئة أخرى وثقافة غير التي تركوا الناس عليها، وبدأت تتناهى إلى أسماعهم كلماتٌ وعبارات لم يفهموا لها معنى، واضطروا بسبب ذلك إلى إعادة تشكيل «قواميسهم» لتتلاءم مع الوضع الجديد.. عن ذلك يحكي أحمد المرزوقي أنه جلس إلى جانب بعض الأشخاص بعد وقت قصير من خروجه إلى السجن، فقال أحدهم، في معرض حديثه: «فلان مات ليهْ الحُوتْ».. وهنا بدت علامات التعجب والاستفهام على محيّا العائد من تازممارت، ودارت في رأسه احتمالات حول معنى العبارة الجديدة، «ردّدت مع نفسي -يقول المرزوقي- هل يملك هذا الشخص حوضا لتربية الأسماك.. توفيت أسماكه لسبب ما».. ويضيف: «لكني تساءلتُ، ما دخل الأسماك في الموضوع الذي نتحدث عنه!؟ ثم لم أجد بدّا من السؤال حتى أفهم معنى العبارة».. يؤكد المرزوقي أنّ قاموسا طويلا من الكلمات الجديدة على المعتقَلين قد ظهرت إلى الوجود، فيما انقرضت التعابير التي كانوا يستعملونها في تازممّارت أو تكاد، ومن ضمن كلمات القاموس الجديد كلمة «الحْريكْ»، والتي لم يتمكن القادمون الجدد من ربطها تلقائيا بالهجرة السّرية، حتى عندما أخبِروا بمعناها، وتكيفوا مع استعمالها رويدا رويدا.. أطفال كبار.. كان على المعتقلين المذين أطلق سراحهم أن يتعلموا، من جديد، أصولَ الحساب والبيع والشراء في «المغرب الجديد»، الذي وجدوه في الخارج، مثل أطفال يخطون خطواتهم الأولى في العالم الفسيح، وهو ما وضعهم في مواقف محرجة ومضحكة في الوقت نفسه. ويروي المرزوقي كيف اضطر -ذات ليلة- إلى التوجه إلى أحد بائعي «الصّوصيص» لشراء خبز يحمله معه إلى البيت، بعد إغلاق جميع المخابز والدكاكين أبوابها، ووجد بالفعل خبزة وحيدة عند البائع، ولأنه لم يكن يعلم ثمنها فقد سأل البائع الذي نظر إليه شزرا، قبل أن يقول: «خُذها بالثمن الذي يشتريها به الناس»، لكنّ مشكلة المرزوقي كانت أنه لم يكن يعرف «الثمن الذي يشتريها به الناس»!.. فسأل البائع مرة أخرى، وأخبره أنه لا يعرف، فردّ عليه الأخير باستفهام استنكاريّ: «علاشْ مالك كنت في المْرّيخْ؟».. ولم يجد المرزوقي جوابا سوى أن يقول: «كنتُ، فعلا، في مكان شبيه به».. انصرف المرزوقي بالخبزة بعد نقاش طويل، لم يقتنع معه البائع بأنّ صاحبنا لم يكن يعرف ثمنها الحقيقيّ. هناك واقعة أخرى أغربُ من هذه المثيرة للضحك، جرت مع المرزوقي نفسِه، عندما كان جالسا ذات مساء في إحدى المقاهي، وجاءه متسول يطلب صدقة، فما كان من المرزوقي إلا أن مدّ يدَه نحو جيبه، بكل تلقائية، وأخذ قطعة نقدية من فئة 10 سنتيمات و«نفح» بها الرجل (وهو لا يزال يظنّ أنها تحتفظ بقيمتها التي تركها عليها قبل 20 عاما).. فما كان من المتسول إلا أنْ نظر إليها ثم رماها على المرزوقي.. وهو يتفوه بعبارات سبابٍ غاضبة، ثم انصرف إلى حال سبيله.. أما أحد زملاء المرزوقي فقد «اخترع» أسلوبا للتعرّف على أثمان السلع والخدمات بعد خروجه من المعتقل.. وكان مضطرا إلى حمل مذكرة وقلم معه في كل تحركاته، كما أصبح يعود إلى البيت كل مساء محملا بالقطع النقدية، لسبب طريف.. كان هذا المعتقل السابق يضرب ثمن لكل سلعة، الذي كان يعرفه قبل دخوله تازممارت، في 10 أضعاف، ويُسلّم المبلغ للبائع، ثم ينتظر رده، ويسجل الثمن الجديد في المذكرة التي كان يحملها في جيبه.. وهكذا يفعل عند ركوب الحافلة، وفي كل المعاملات الأخرى، وفي المساء يعود إلى البيت وقد امتلأ جيبه عن آخره بالدّراهم، فيما امتلأت سطور مذكرته بلائحة الأسعار الجديدة، ويشرع في حفظها.. ويحكي عبد الله عكاو، نزيل الزنزانة رقم 5، التي كانت مقابلة لزنزانة المرزوقي، أيامه الأولى بعد معانقته الحرية، حيث كان الزوار يتوافدون صباح مساء على منزل أسرته في منطقة سيدي بطاش قرب تمارة، ليشاهدوا هذا «الشبَح» العائد من المجهول، ويتأكدوا من الروايات التي كانت تقول إنه سيخرج دون يد، أو دون عينين، أو مجنونا أو غير ذلك.. وكان من بين الذين دأبوا على الحضور دركيان كلفا بمهمة رفع التقارير حول تصريحات عكاو للحاضرين، وهو الذي تلقى تعليمات بعدم الحديث عن تازممارت.. ولكنه ضرب بهذه التعليمات عرض الحائط، وهو ما كان يُزعج القائد، الذي استدعاه أكثر من مرة ليحذره من الاستمرار في الحديث عن تازممارت. ويقول عكاو إنه واجه القائد في إحدى المرات قائلا: «أنت تريدني أن أكذب على الناس الذين انتظروا عودتي سنوات طويلة من السجن، وأقول لهم إنني كنت مُعزَّزا -مُكرَّما في ثكنة أو فندق.. لن أنتهيَّ كذابا في عيون من انتظروا عودتي!».. الغريب أنّ أحد الدركيَّين التقى عكاو في وقت لاحق وأخبره أنه كان شغوفا بسماع حكاياته.. وأنه لولا مهمته الرّسمية لطرح بنفسه أسئلة كثيرة على المعتقل السابق، ثم خاطبه قائلا: «أنا بغيتكْ تخرجْ غيرْ فهاداك «فضولْ!».. غير عطيهْ، فلا أحدَ في الدرك يُطيقه».. وكان عكاو قد كتب بعض المقالات في إحدى الجرائد تحدّث فيها عن الجنرال فضول، قائد الدرك الذي ساهم في محنتهم المرّيرة. وكان عكاو، مثل كثير من المعتقلين الناجين من تازممارت، مضطرا إلى تعلم «المشي» مجددا، بعدما فقدَ داخل زنزانته الضيقة المظلمة كلَّ القدرات التي تعلّمها وهو طفل، وكان يصطحب ابنة أخته الصغيرة ليتمشى في أطراف الغابة القريبة، فتسير أمامه وهو يتبعها بخطواته «الطفولية».. ولا يزال عكاو يمازح ابنة أخته، التي صارت أما، فيقول لها حين يلتقيها: «هل تعلمين أنك أنتِ من علمتني المشي؟».. العائد الثريّ دون علمه.. يذكر عبد الله عكاو أول جولة يقوم به في البلدة بعد خروجه من المعتقل، وكان يرتدي بذلة أنيقة -مُنِحت له بعد مغادرته- ورافق والدته إلى سوق الخميس الأسبوعي، لكنه لم يكن يحمل معه أيّ نقود، ولم يكن فوق ذلك يعرف حتى أسعارَ البضائع والسّلع.. وكان عدد من معارف الرجل يلتقونه ويسلمون عليه ويباركون له عودته.. وفجأة، قصدته إحدى المتسولات وطلبت منه «صدقة في سبيل الله»، فرد عليها قائلا: «الله يْسهّل»، وحين سمعت المتسولة الجواب، شرعت في تفحص عكاو من أخمص قدميه إلى أعلى شعر رأسه، ولسان حالها يقول: «الكُومْبلي واللهْ يْسهّل!».. قبل أن تبادرها أم عبد الله بالقول: «راهْ واخّا الكُومبلي راهْ ما عْندو فلوسْ».. ومن القصص الطريفة التي عاشها عكاو خلال هذه الفترة، تسرُّب إشاعات عن أنه يتلقى أموالا طائلة، وأنه ثري للغاية، وزاد من تأكيد هذه «القصص» مظهرُ البذلة الأنيقة التي كان يرتديها عند خروجه، وبعض المساعدات المالية التي كان يتلقاها من بعض المنظمات الحقوقية الدولية.. وكانت العيون تترصّد الرّجلَ «الثري»، البالغ من العمر 45 سنة، والأعزب إلى حدود ذلك اليوم، وهو ما حرّك «أطماع» صويحبات والدته، في تزويج بعض بناتهنّ من الرجل الذي صارَ حديثَ العامّ والخاص في «سيدي بطاش».. ذات يوم، عادت أمه إلى البيت وهي تكاد تنفجر من شدّة الضحك، ثم بادرته بالحديث قائلة: «هل تدري ماذا قالت جارتنا فلانة؟.. لقد اقترحتْ علي أن تتزوج من حفيدتها الصغيرة، وحين أخبرتها أنها لا تزال صبية لا يتجاوز عمرها 12 سنة، قالت لي إنها غادي تْصدْقْ لُو.. ورغم أنها صغيرة، فإنّ عندها الفُورْمة، وتزيد واحد العامْ تولي مْرا».. الانتخابات «المسروقة».. من بين أطرف الحكايات التي عاشها المعتقلون، بعد سنوات قليلة من خروجهم من المعتقل، حكاية الانتخابات الجماعية التي خاضها عبد الله عكاو في قريته سيدي بطاش، ضمن منظمة العمل الديمقراطي، حيث رُفضت أوراق ترشّحه في البداية، قبل القبول بها، بعد ضغوط.. وكان عكاو مدعوما بكل أفراد القرية، الذين ساندوه وطالبوه بالترشّح منذ البداية. وفي يوم الاقتراع، نزل الناس زرافات إلى الصندوق، وكان واضحا أن عكاو قد حصل على المقعد، حيث نال نحو 370 صوتا، في مقابل نحو 70 صوتا لمنافسه الاستقلالي، فما كان من «القايْد» إلا أنْ أحضر فرقة من القوات المساعدة، وقام ب«اختطاف» صندوق الانتخاب، وفرّ به إلى منطقة غابوية.. وبعد أيام من الشدّ والجذب، وتدخُّلِ القوى الأمنية بالغازات المُسيلة للدموع ضد السكان المتضامنين مع عكاو، واستعمال هؤلاء للحجارة، في عمليات كرّ وفرّ، أجبر «القايْد» مرشحَ حزب الاستقلال على قبول «فوزه»، بعدما كان قد رفض في البداية، وخاطبه قائلا «نْتا لْبوكْ اللي ناجحْ»، يقول عكاو.