«النور في قلبي، لكن كلما حاولت إبرازه للفهم خبا السراج وانطفأ» هذه السفينة أصبحت ثملة بأمواج البحر تحمل بعض السياسيين والخطباء المجانين بالسلطة والثروة ومرضى الزهري والمنحرفين والأرواح الخبيثة إلى أرض لم تطأها الأقدام، وسيكون قدرهم التيه والضياع ليختبروا قوة الألم وشراسة التراجيدية والاحتفال الجنائزي بالقهر الشكسبيري. هكذا سيرتاح الأبرياء من هؤلاء، وسيتم تطهير مدننا من القديسين والرهبان من أجل أن نتمتع بعالم جديد، فما هو يا ترى هذا العالم الجديد الذي ننتظره؟، بل ما هو لون الحقيقة الذي سيصاحب شروق نور شمس رائع وجديد؟، هل يتعلق الأمر بثورة ثقافية على هذه الآراء والمعتقدات القديمة التي تسيج العقل بالأوهام والآفاق الضيقة؟. والحال أن بزوغ النهار يعني عالم جديد، لا يمكن أن يختلف عن ليبرالية عصر التنوير الذي تمت محاصرته بالمعتقدات السلطوية التي تخترق الوجدان بعذاب القبر، وتهدم إرادة القوة بالشقاء الاجتماعي، وتنشر الرعب المدني ولا يمكن غزو هذه البنية الوضعية إلا بطلوع شمس الحقيقة، واكتشاف قارة جديدة يحكمها روح العصر، بعد التأهيل المهني والتربوي للوعي بالذات من أجل أن يمزق ثياب الوعي الشقي، ولن يكون ذلك سوى بواسطة الفكر، وذلك أن الإنسان المعاصر يوجد أمام اختيار واحد إما الكوجيطو أنا أفكر، إذا أنا موجود، وإما أن يرافق هؤلاء المجانين على ظهر سفينة الحمقى، التي أبدعتها الإرادة الطيبة للفلاسفة، من أجل هدم أوهام العقل واعتقال السلطة الكنائسية بواسطة السلطة التنويرية، لكن هل هناك من أمل في شعب لم يعد يحلم بالأمل؟، وبعبارة أخرى، هل بإمكاننا أن نعيد الحياة إلى أمة تعيش على هوامش المقابر؟، هل نستطيع أن نشيد هذا الوعي المنهار الذي تتحكم فيه الأرواح الميتة، أو بالأحرى القيام بهدمها لتترك المجال أمام الأجيال الجديدة لتعيش في عالم جديد؟. ليس من الصعب أن نحلم بعصر مبتهج، وبطريقة حديثة للتفكير، وسياسة مدنية تؤمن بالإنسان في هذا العالم، وليس في عالم آخر، ذلك أن السياسة الفاضلة هي الخير حين يفيض على الشعب، لأن الفضيلة هي الغريزة الأساسية في الطبيعة البشرية، وبمجرد ما تموت هذه الغريزة يتحول الإنسان إلى وحش مفترس لجنسهن باعتبارها أساس الأخلاق والفكر، والإبداع، إنها ما يجعل الإنسان يدرك أن لديه حسا فائقا على الطبيعة، فينتقل من اللذات الشريرة للمحسوس إلى اللذات الخيرة للروح المجردة. لذلك لابد من حرمان الأشرار من ممارسة السلطة والقضاء وإلا سنسقط في هوية الفراغ التي هي أشبه بالليل الذي تكون فيه كل الأبقار سوداء بلغة ظاهريات الروح لهيجل، الذي يرى أن: «الروح تشكل نفسها ببطء وهدوء لتتخذ شكلها الجديد، وتفتت بنية عالمها القديم قطعة قطعة، غير أن هذا التفتيت التدريجي الذي ظل زمنا دون أن يغير صورة الكل، لم يلبث أن قطعه، فجأة بزوغ النهار الذي أضاء بومضة واحدة ملامح عالم جديد». فما أروع هذا العالم الجديد، الذي سيكون فارغا من سياسة الفقهاء، والأعيان، والأشرار، حيث ستنتشر السعادة، ويعم الخير، بمجرد ما يصبح شعاره الحرية والكرامة والفكر للجميع، حين نتجاوز مرحلة «الروح القدس» الذي ليس فيه سؤال ولا شك، ولا نقد، بل مجرد إيمان مباشر وضعي بالمرشد، أما حين تنزع الروح عن نفسها هذه القشور الفارغة، فإنها ستسترجع تلك الوحدة الجوهرية المفقودة، ذلك هو الوجود الصلب الذي لا شرخ فيه. ها هنا يمكن الإنسان عندنا أن يصرخ آه اليابسة، إنها قارة الكوجيطو أنا أفكر، لأن العالم العربي من المحيط إلى الخليج، لا زال لم يفكر بعد، فهو محروم من هذه الأنا أفكر، ولذلك فنحن في حاجة إلى قطيعة معرفية مع هذا العالم من أجل أن نشيد جسر جديد، يؤدي إلى الفكر، ونتخلص من أوهام العقل وثقافة الاستهلاك التي هي إفقار الروح، ودفعها إلى الفراغ الأثيري الذي يشعل نار الوجدان ويطفئ النور الفطري للعقل. مما يجعل الإنسان يقتل الإنسان بنزعته الحيوانية، مادام أنه قد خسر نزعته الإنسانية عندما تم تخديره من الصيادين لنفوس البشر. إنه لا إحساس بالرعب في عالم قديم يتجه نحو الزوال.