«الحرية لا يمكن أن تعطى على جُرْعات، فالمرء إما أن يكون حرا، أو لا يكون حرا» ماديبا فقد العالم رجلا لا كالرجال، بطلا لا كالأبطال، زعيما لا كالزعماء، ورئيس دولة لا كالرؤساء. هو جماع كل هذا وغيره. لنقل إن «ماديبا» معلم بكل ما في الكلمة من معنى، وأسطورة بكل ما تحمل الكلمة من دلالات وإشعاع، وَبُعْدٌ رمزي تعجيزي يَنِد عن الوصف، إذْ قَلَّ من ارتفع إلى مستواه، وترقى سلم العظمة، وجاز جغرافية بلاده المحدودة، جنوب افريقيا، لينتشر في الدنيا، في جهاتها الأربع، مُغْدِقًا عليها حكمة نورانية، وإلهاما فوق - آدمي، حقيقا بالاستثنائيين في تاريخ البشرية، ومسير الإنسانية عبر الأحقاب والمدد الزمانية، والقرون والعقود. بَرَاهُ السجن الطويل الذي تخطى ربع قرن، وَخَبَرَتْهُ الرطوبة والعزلة، والإقصاء، والمكوث وراء صرير االأبواب الحديدية الضخمة، وصدأ القضبان الفولاذية المخيفة، فإذا الرجل يُسَامِتُ أعلى ما في الإنسان.. يصل أسمى مستوى، ويعانق في العزم البشري، والإصرار الأسطوري، تلك الجذوة المشتعلة، وذلك الجوهر القصي الذي لا يبلغه إلا القلائل، الأفذاذ من الناس الذين أوتوا القدرة على شق الشر بسحر الكلمة، وقوة الإشارة، وَتَمْزِيع سُتُرِ الظلام، وتهديم عالي الأسوار التي تحجب الآخرين، وتمنع الشمس من الانسراب، والوصول إلى شرفة الحياة. وليس سهلا، بتاتا، أن يتماهى رجل مع وطن مجروح ومضطهد ومقصي، وممرغ في وحل المهانة والإذلال، والعنصرية وبشاعة الفصل بين البيض والملونين والسود، ما لم يُؤْتَ «الكاريزما» والتحدي، وروح المقاومة، والصبر «الأيوبي»، والسمو فوق أشيائه الحميمة، ورغباته الشخصية الدفينة والمعلنة. وقد كان لسجن «روبن» في جزيرة جميلة لكن باكية، الفضلُ، -هل للسجن فضل؟- كله في اكتسا الجبروت والقوة والبناء العقدي النفسي والروحي من أجل بلاد ووطن يعرف نذالة «الأبارتيد»، والفصل العرقي، والاستغلال المادي والمعنوي لأغلبية الأفارقة الجنوبيين السود. تصدى مانديلا لهذه الممارسات اللاإنسانية التي يرفضها الحس والعقل، ويمجها الضمير الحي اليقظ، باللّين من دون تنازل أو مهادنة، وبالنضال السلمي الذي لم يستثن العنف عند منطلق الصراع الوجودي ردا على المهانة والتحقير والتبخيس، والحط من الكرامة الإنسانية. وفي هذا ما يُذَكِّرُ ب: حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي كان وراء إطلاق النضال ضد العنصرية «البِرْيُتورية» البيضاء المقيتة، يستوي في ذلك النضال التنظيمي التأطيري، والنضال الميداني، فالنضال الفكري والسياسي، وهو ما تألق فيه نفر من المثقفين، ورجال قانون، ونساء حقوقيات، برز من بينهم ماديبا «نلسون مانديلا». كان السجن -وَهْوَ وَبَالٌ بما لا يقاس- على أصحاب الرأي الحر، والفكر المستنير، والوطنية المشرقة المتوثبة، مكانا أزهر فيه فكر «مانديلا»، إذ تمترس الجسد وراء إرادة قوية، وخلف نظر ثاقب، وخطط محكمة، وتدبير استراتيجي، ما أتاح لرجل القرن، الصمود الذي يتجاوز الصمود، ويقصر عن وصفه الوصف. في البرد والعزلة، ورهان الحاكم العنصري على تفتيت قواه، والنيل من صلابته وعزيمته، لدفعه إلى الاستسلام، والاعتراف بالوضع المفروض، الوضع الأَبَارْ تايدي القائم، نما وتعملق الإصرار، وانشحذ الوجدان، وصفت الروح، وعلت بالحكمة، والفكر، والأدب، والشعر المستمد من كتاب، وشعراء، ومفكرين وسياسيين بصموا تاريخ الإنسانية. أدفأته أفكار ونُتَفٌ لامعة لشكسبير التي قامت بدور الدافع والنبراس وظلت تتردد في ظلمة ووحشة الوحدة: «الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة» » Cowards die many times before their death «، وهو مقطع ورد في مسرحية «يُولْيُوسْ قيصر». كذلك صاحبه وآنسه الروائي الأمريكي : شْتَايْنبك» من خلال روايته الذائعة: «عنا قيد الغضب» ، والروائي العظيم : ليونْ تُولْسْتُويْ : من خلال روايته الشهيرة: «حَرْبٌ وسِلْمٌ» فضلا عن مذكرات «تشرشل»، وبيوغرافيات «كينيدي» وآخرين. لم تَنقْدِحْ شرارة فكره، وسطوعه الوطني، ومضاء نضاليته، وفرادة شخصيته إبان السجن الطويل، بل انقدحت هذه المكونات البانية قبل ذلك عبر قيادته، إلى جانب زملائه، لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، حيث كان «كارل ماركس» والفكر الاشتراكي على العموم، مرجعا وغذاء باعترافه هو. وما مرافعته التاريخية قبل رميه في السجن، العام 1961 أمام قضاة أعداء، ونظام استئصالي واضطهادي للسود والملونين، إلا دليل وآية بينة على انخراطه المبدئي والنهائي في معمعان النضال، من أجل شعب، شعبه الذي يُمْتَهَنُ كل يوم، وتداس كرامته وإنسانيته على مرأى الجميع، على مرأى الدول والمجتمعات، والأمم المتحدة. ففي هذه المحاكمة - وأمام ذهول محاميه- غاص عميقا في إفريقيته، وتجوهر بعيدا في إنسانيته، وارتفع سامقا فوق أشباح الخوف والرعب، وَمُدَى الموت، ومقْصلة الإعدام، فهو القائل: «سيروا قُدُمًا، وَلْنُوَاصِلْ مهمة التحرر العظيمة..»، وهو الذي صَدَعَ بالقول : «لماذا أنا مستعد للموت؟» ثم فصل الإجابة عن السؤال تفصيلا، ما قاده إلى السجن، توخيا للعزل والإبعاد، والموت البطيء، أو انتظارا لهزيمته، وإقراره بخطئه. حَوَّلَ «ماديبا»، النضال إلى عقيدة وديانة، وهو ما أفضى إلى الانغراس أكثر في الحياة، ودعم روح المقاومة والاستمرارية فيه. وما أفضى - تاليا- إلى هزم الجلاد. هَزْمُ الجَلاَّد «أوديسا» تُحْسَبُ لمانديلا ورفاق مانديلا، هم من كتبها بْكَتْم الأنين، والسمو فوق الجراح، والعناد القُطْربي من أجل الحياة، حيث حياتهم هم، جزء من حياة شعبهم، وحياة جنوب افريقيا، وانتصارهم، ما هو - في آخر المطاف - سوى انتصار الإفريقي صاحب الدار والقرار على العبودية والاستغلال والاسترقاق. يقول الضحية للجلاد لن أجلدك إذْ جلدتني، ولن أسحبك من الحياة، وما به كنت وحكمت، وتهت، وفصلت بين الأجناس والأعراق. وتقول - ببلاغة اليومي، وبدرس البسطاء الشرفاء، إن السجون توصل إلى طريقين يؤديان - بالحتم- إلى هدفين وغايتين : المقصلة أو الحرية. وحتى وإن تكن المقصلة من نصيب المناضلين، فإن الحرية تزهر في ركابها، وتينع في دمها، وتخضر في شجرتها، وتغرد على أفنانها. وهذا ما يؤكده مانديلا بطريقته الرائعة، وبتعبيره السامي والنبيل: (لقد وضعنا هذا الاحتمال. وإذا كان يجب أن نموت، فالأفضل أن نقوم بذلك في أجواء من المجد. وقد طاب لنا أن نعرف أن إعدامنا لا يمثل آخر قربان نقدمه لشعبنا، ولتنظيمنا). إنهم الاستثنائيون من يستطيع قول هذا، أولئك الذين ارتفعوا على شرط وجودهم الفاني، وانصهروا في الوجود المتعدد، الوجود الممتد من خلال مواطنيهم وشعبهم. أولئك الذين ينامون جنب نُعوشِهمْ طيلة عقود وحقب، فيستطيبون مرأى النعوش المرئية أو الشبحية لأنها تلقنهم درسا في مآلهم غدا.. في عيشهم بعد لحظة، أو بعد يوم أو بعد سنوات وأعوام، وتتحول أنتروبولوجيًا وميثولوجيًا إلى عروش، يتسنمها وطن لمع في الدم، وانْكَتَبَ في المحن والجراح. يعم الظلام، وتحدق الكارثة، وينفذ البرد إلى العظام، غير أن الفكرة تتلألأ.. ضوءا ودفئا وزيتا، وَتَنْجَدِلُ زَوْرقًا من البُرْدي، تجوز بهم الضفاف، ونهر النسيان، متوجهة نحو شطآن الأمل.. شطأن الشموس السوداء والبيضاء المتعانقة. هذه الشموس هي ما أضفى على ماديبا: مانديلا، أسطوريةَ، وزعامة خارقة، لعله أن يكون - كما ورد على ألسنة زعماء وفنانين كثار- آخر الزعماء، وآخر الأبطال القوميين، وآخر أساطير القرن العشرين. عَنَيْتُ بالشموس، تحقيق الوئام العجيب بين الضحية والجلاد، فإذا لا جلاد ولا ضحية، الإنسان فقط في عطائه وبهائه وسماحته وغفرانه وصَفْحه، ونسيانه، وتخطيه للوحل، والفجاجة، والنذالة والسفالة، وتمزيق النسيج الاجتماعي. في أثناء توليه رئاسة بلاده في التسعينات من القرن العشرين، التي تركها بعد إنهاء ولايته، من دون تردد أو أسف، أو ضغط، بل عن طواعية ، وبمحض اختيار حُرٌّ منه، حفاظا على استثنائيته وعظمته، تماما كالشاعر الكبير السينغالي «سيدارسِنْغُور»، والمثقف الرائع التشيكي «وَفاَ تْسَلاَفْ هَافَلْ»، نجح «ماديبا» في تجنيب بلاده حرباً أهلية لا تبقي ولا تدر، نجح بحكمته الكبيرة، وعقله الراجح في إبعادها عن كارثة حرب حقيقية، وحمام دم شاخب، حيث التوتر في أقصاه، ومنجلُ الانتقام مُشْرَعا على الحش والحصاد، وناقوس الحقد وارد كل حين، يَرِنُّ خافتا وقويا في آن. فتحقيق هذا المبتغى السياسي الملفع بالحكمة وبعد النظر، وإنجاز هذه الخطوة التاريخية الرائدة وغير المسبوقة، يعتبر ،بالمنطق الحقوقي الإنصافي والإنساني، درسا ما بعده درس، للعالم، للحكومات والأنظمة التي تقمع شعوبها، وتضطهد الأقليات، وتمارس الخَرَسَ والاجتثاث، وتصادر الحريات، حرية التعبير، والتفكير، والاختلاف العقائدي، درسًا يُخْتَزَلُ في العدل، والتسامح، والمصالحة والديمقراطية، وفي كيفية الترفع عن الدنايا، واستزراع المحبة والسلام في أنحاء الوطن، وقبل ذلك في أنحاء الإنسان. مفعما بالتفاؤل، وعامرا بالشمس، بل مُعَمما بها، أدرك «ماديبا» أن الطريق طويل إلى الحرية التامة، وأن إقامة الفردوس على الأرض، مطلب ومسعى، واجتهاد، إذا لم نصل إليه، فعلى الأقل نقود الخطى نحوه، ففي ذلك مدعاة لاستنفار المواهب، والطاقات، والقدرات، ومبعث على الاتحاد والتضامن بين أبناء الوطن الواحد. صحيح أن ما قَضَّ مضجعه، وغَيَّبَ النوم عن عينيه، رؤية أبناء جلدته أو بعضهم، يعيشون في درك البؤس والعَوَزِ والحرمان، فيما البعض الآخر، يَرْفُلُ في أثواب العز، وبحبوحة الرفاه، وهي المعادلة اللاعادلة القاصمة التي يشكو منها العالم، لا جنوب افريقيا وحدها. لنستمع إليه يقول : «ليس هناك من شيء يخيفني أكثر من الاستيقاظ في الصباح دون برنامج يساعد على جلب السعادة لهؤلاء الذين بلا موارد، هؤلاء الذين يعانون من الفقر، والجهل والمرض. إذا كان هناك شيء يمكن أن يقتلني يوما ما، فهو عدم القدرة على مساعدة هؤلاء، إذا استطعت تقديم ولو جزء بسيط من حياتي لجعلهم سعداء، سأكون سعيدا». نعم، بهذه الروح الأميرة ..الروح المعذبة ، وهذا الهم المؤرق الذي سكنه طوال عمره المديد، علا «ماديبا» علوا حتى قَصُرَ المستبدون، وضعاف النفوس، والمخادعون، عن اللحاق به. ومن ثَمَّ تَأْسَطَرَ، وَتَماهى بالفذاذة، والاستثنائية والواحدية. وكيف لا؟ وهو من رفع السياسة، وَخَضَّبَها بالنبل والخُلُقِ القويم، والسلوك العالي، علما بأن السياسة اقترنت-، كممارسة وسلوك وإجراء عملي، وتصريف يومي وميداني- بالصفاقة، والتحلل من الفضائل والأخلاق، ونكث الوعود والعهود. من هنا، عظمة الرجل الذي تزيا سياسيا بالأخلاق، وحَلَّى الأخلاق بنبل السياسة متى ما انبثقت من الوجدان، وانْبَجَسَتْ من الضمير الحي الوقاد. وداعا سيد القرن والتاريخ، وداعا روح افريقيا السمحة الهادئة... مانديلا .. تَوَسَّدْ سحابةَ المجد مُرَّ إلى ملكوتِ الشمس حيث الأطفال والعناصر تغوص في رغوة الأمس وأبنوس النضال، ينشدون، والتراب يجثو، وجنبات الكون تردد النداء أصداء أجراس وأشجار تنشر الغبطة والظلال : -يحيا ماديبا -ماديبا لم يمت ! تَوَسَّدْ سحابة المجد دَعْها تُمْطِرْ زَخّاتِ سلام أَيُّها الينبوع، رذاذَ محبة .. نسائمَ عدل وأصوات حرية مانديلا .. تَنَصَّتْ، وأنت مرفوعَ على أذْرُع الهتافات الهتون محمولٌ على زنود الدموع والرقص المجنون، إلى لسان يَرِنُّ دافقا بالصوت والصمت الجليل والحكمة البيضاء أيها البُنِي الثمين البُني العذب، لسانٍ يَهِلُّ ، يَصِلُّ يصهل صهيلا، قادمًا - يتواثب- من روح التواريخ انحناءة وتبجيلا.. طَامْ طَامْ الحكمة في ليل الجنوب ليل الجراح والندوب دَكَّ الحقد الشاحب الأصفر رَمَى كمثل الخدروف سوادا شَكَّلَ الفَرْقَ وأعلى حَدَأَةَ العنصرية... مانديلا الحي .. المسطور في كتاب الكون أمس وغدا واليوم في بؤبؤ أطفال افريقيا ومعذبي الأرض مانديلا المخلوط بذرات ما يجيء وما فات، ارفع صوتك كما عاهدناك في وجه الظلم اُمْحُ ندبة البؤس والأوحال يا سيدي رُشَّ النفوس اليابسة بماء الصفح والغفران عَلِّمْ «الأفعى» أن لا تَعْقِدَ حِلْفًا مع الشيطان .. وَامْسَحْ بزيت الصبر النادر رأس الجناة والعصاة أيها المسيح الجديد !. جزيرة روبن تَمَرْجَنَتْ وتزينت بأجمل النبات والطيور وهي تودعك، يا مكسر الأغلال، وزارع الريح في الأقدام.