دائماً، كان يدهشني ذلك الطير الضئيل، ذو المنقار الحاد، والعيون النافذة : نَقّار الخشب› . يَنْقر بحمية وتصميم جذوع الأشجار الصلدة التي تقاوم الفؤوس. ينقرها بهَوَس وإصرار وكأنه يعانى من ‹حُمّى نَقْرٍ› ساحرة، إلى أن اكتشفتُ، مذهولاً : نَقّار الصحون› العربيّ . وهذا ‹ الكائن المريب› يمثِّل، اليوم، ظاهرة خطيرة، تتفشى في بُنية الحياة العربية، بمستوياتها المختلفة : الفكرية، والثقافية، والسياسية، وحتى الثورية منها. ‹ نَقّار الصحون› كائن ضَحْل، متمركز حول نفسه. يرى العالَم بعَيْن منفعته الخاصة، فقط. يفتقر إلى التماسك نظرياً وعملياً. علاقاته واسعة، ووَعْيه ضيّق. ليس عنده اعتداد بالذات. وهو بلا منظور إنسانيّ واعِد. لا يتَميَّز إلا بالتسلّق والإدّعاء. ولا همّ له إلا ‹ نَقْر› الصحون الملأى بالنقود، أو الدعوات، أو الوساطات، أو المزايا، ظاهرة كانت أم مستترة، وإنْ حاول أن يوهمنا بغير ذلك. لا يثير اهتمامه إلاّ ‹ الصحون› الواقعية، أو المحتملة، لا فرق. لا يهتم بماهية ما تحويه، ولا بأسباب بَذْلها، وإنما بما يجنيه منها. إنه آنيّ المنفعة والرؤية والانجذاب. لا بُعْد تاريخي لما يقوله، أو يكتبه، أو يعيشه، وإنْ كان يمكن له أن يثير زوابع شكلية وعابرة في نشاطاته ‹المدفوعة الأجر› ، عاجلاً، أو آجلاً. تحسّه، دائماً، شَرِهاً، وعلى أهبة التزَلُّف، والخضوع لمن يملك مقوّمات إطعامه، أو دعوته، أو التَكَرُّم عليه بما يرضي جشعه المادي، أو الجنسي، أو الرغْبَويّ. أثره التشهيريّ، حتى لو كان منذوراً للنسيان، ليس قليلاً. لماذا؟ لأن نقّار الصحون العربي يتربّع غالباً على مركز ذي نفوذ، إعلاميّاً، أو اجتماعيّاً. أو يهيمن على وسيلة عامة، أو خاصة، أو يشارك فيها، تسمح له بالتدخل في شؤؤن الآخرين مَدْحاً، أو قدْحاً، أو ما شابه. وهو متهيّء، دوماً، للمبادرة السخية، والتبجيل، إذا كان صحن المعنيّ غنيّ المحتوى، أو بالتقتير والتَرْذيل إذا كان فارغاً، ولا يُرْجى من صاحبه خير. إنه شخص المقايضة غير البريء بامتياز. لا يهمه مصير العالم الذي ينتمي إليه، ولا مشاعر مَنْ يعايَشَهم، حتى ولو كانوا أصدقاء له. صديقه الوحيد مَنْ ينتفع منه. ومعيار وفائه مستمَدّ، فقط، من حَشْو بطنه، أو ملء جيبه، أو تَدْليله، أو تَبْليل أصْغَرَيْه. مع أنه، أبداً، يزعم العكس. و› العكس ليس دائماً هو الصحيح ‹ . إنه الابتذال وقد تجسَّدَ في كائن. وهو ليس وحيداَ. ‹ نَقّارو الصُحون› عديدون، ومتكاتفون. مجالاتهم متباينة. لكن أخلاقهم، وطرق عملهم، وأساليبهم متماثلة. تقودهم خبرة الحياة اللئيمة. تحركهم الأنانية والمحسوبية. وتُوَجِّه أقوالهم وأفعالهم النظرة السطحية للأمور، والرغبة في كَسْب أكبر قدْر ممكن من ‹ الأرباح› ، أوالمزايا، في أقصر وقت. وأيّ واحد منهم يمكن أن يكون أي أحد منا، بغض النظر عن وضعه الإجتماعي، أو الأكاديمي، أو الوظيفي، أو المعرفي. يمكن أن يكون تقدمياً، أو يدعيها، ويمكن أن يكون كلاسيكياً، أو ثورياً، أو ليبرالياً، أو أي أحد آخر. ‹ استراتيجية النَقْر› عابرة للعقائد، والمراتب، والأوضاع. وشراهتها أقوى من المذاهب النظرية، والإدعاءات. هم زمرة واحدة، ولو اختلفوا. مشاربهم وأهواؤهم لا تفَرِّق بينهم، إلا بقدْر ماتفرِّقهم المصالح والاستئثارات. لا مستقبل لهم خارج النشاط النقريّ الفاجع. يألفون بعضهم ببداهة آسرة. لا يَتناطحون، وإنما يَتمادَحون. وكما يدلّ الحيوان الظاميء رفيقه إلى الماء، يدلّون بعضهم على مرابع الصحون. كَثْرتهم، حماية لهم. لأن نَقّاراً واحداً، لا يشكل ظاهرة يعتدُّ بها، ولايستطيع أن يفرض اسلوب حياته، أو منطق رؤيته للأمور، على الآخرين. وهو لا يستدعي، أو لا قد لا يستحق، ملء صحن لينقر منه. إنه بحاجة إلى ‹شبكة النَقّارين›، كلها، لفرض إرادتهم الخائبة على مَنْ هم أكثر خيبة منهم. ‹ المواجهة، أو الاختلاف، أو المجادلة، هي التي تشحذ الوعي، وتجعله نافذاً وقوياً ‹ ، كما قال أحد الفلاسفة. و› النقّارون› لا يفعلون، قولاً أو سلوكاً، إلاّ عكس ذلك. هم يهادنون ويمالئون. لا مصلحة لهم لا بالنقد الواعي، ولا بالتصدي، ولا بالرفض. وبتأثيرهم السيء، هذا، يساهمون في تردّي الأوضاع الثقاقية والاجتماعية. لأن غياب النقد الفَعّال، المنزّه عن المصلحة الشخصية، والقائم على القناعة الأخلاقية، يؤدي إلى تفريغ النشاط الفكري من جوهره، ويساهِم في تَدْجين العقل، ويُمَهِّد الطريق نحو استيعاب الفرد، ولَجْم تمرده. موقفهم المنافق، والمُداهِن، للقوى والجماعات والأفراد الذين يتمتعون بالمال أو الجاه أو السلطة، وتنازلاتهم العميقة لأهل الجوائز والمهرجانات، و... يشكل سدّاً منيعاً أمام الفكر الحر، والوعي المستنير. ويُعَدّ عائقاً ثقافياً، ومُثبِّطاً سياسياً، وعقبة أمام التطور والحرية والإبداع. ولسنا نمنحهم، هكذا، دوراً أكبر من دورهم الحقيقي. إنهم، في الواقع، طغاة الفكر والثقافة. وانحيازهم الحاسم لهؤلاء وأولئك، أو لِمَنْ هم في وضعهم، إنما هو انحياز صارخ وقاس ضد الحياة، على أيّ شكل أخذناه. وفي النهاية، ‹ نَقْر الصحون› موهبة. لكنها موهبة مبتذلة وخدّاعة. وخدعتها ليست لَهَب قشّ، سرعان ما ينطفيء، وإنما هي مراوِغة وملعونة. تُسَمِّم الوقائع. وتتدخل في اعتباراتنا، حتى لتكاد توهمنا بحقيقة ماتقول. وأحياناً، لا نكتشف، فَداحتها إلاّ بعد إلحاق الأذى، فكرياً، وأخلاقياً، لا بعناصر الوجود، فحسب، وإنما بالتاريخ، أيضاً. وهو ما يستدعي منا، منذ الآن، الإنتباه الأقصى لتجنُّب تضليلاتها الناعِمة، ولكن المدمِّرة، أحياناً. فلقد أدّى التأثير الكاسح ل›نقّاري الصحون›، أدّى إلى ابتذال الثقافة العربية، إنْ لمْ نقُلْ موتها. وإلى تهميش السياسة. وجمود الأخلاق. وتضاؤل الفنون. حتى صار الفرد في العالم العربي، لا يبدع، أو يكاد (إلا في مجال نقر الصحون). ويكتفي، غالباً، بإعادة إنتاج ما أُنتِج من قبل، محلياً، أو عالمياً. وتلك هي الكارثة.