أنتم تُعارضون التاريخ، وهم يعارضون السلطة. لا تأبهوا بمحترفي المؤتمرات، ولا بمفكري السياسة الباردة، ولا بمنظري الحركات اللاثورية. فالثورة ليست بحاجة إلى مَنْ يُنَظِّر لها. إنها تمشي على قدميها منذ أن تبدأ بالحدوث. وجوهرها أنتم. نحن، كلنا، صدى لأقدامكم التي تهزُّ أركان العالم العربي القديم، أو الذي أضحى، بين ثورة وأخرى، كذلك. وفي هذه الحال الجريئة التي تتحملون، وحدكم، مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية، لا أهمية لمن يتكلم جاثماً، وإنما لمن يتقدّم بإصرار وشجاعة نحو النقطة المضيئة: نقطة الحرية التي بدأت تلوح في الأفق العربي، أخيراً. «أقدامكم الواعية» أقوى من أقلام المنظرين، ومن أقوالهم. أقوى من أفكارهم وأطروحاتهم، أياً كان الدافع لها، ومهما كانت غايتها نبيلة. احذروا خديعة الكلمات. لا تدعوهم يحوِّلون القطيعة مع الوضع القديم، قطيعتكم الثورية، إلى مجرد إصلاحات بائسة مهما كان حجم تنازلات السلطة كبيراً. فليس أسوأ من أبواق النظام، إلاّ أبواق المعارضة. وأسوأ منهما، معاً، أبواق الثورة المزعومون. أنتم لا تجهلون، ولا بد، أن الثورات الإنسانية العظمى، وعلى رأسها الثورة الفرنسية، لم تصنعها أقلام المفكرين، وإنما أقدام المستائين. أقدام الحشود البشرية التي دمرت «الباستيل»، كما ستدمرون أنتم، ذات يوم، بُؤر النظام، ومراكز قمعه. ومن الحماقة، وسوء النية، القول : إن مفكري عصر الأنوار صنعوا الثورة، وتنبَّؤوا بها. فالثورة فعل، وليست نبوءة. ولا يَتنبَّأ بها إلاّ مَنْ يحقِّقها. عرفتم طريق الثورة، وسلكتموها. لا تضيِّعوها، بعد الآن. لا تتركوا أقدامكم تضلّ عن الطريق. لا تتبعوا الأقوال التي لا تتناسب وحركة أقدامكم. أقدامكم لا تخطيء. هي التي ستقودكم إلى الحرية. لا الخُطب، ولا الكلمات المفَكَّر بها جيداً، ولا التحليلات «الموضوعية» المزَيّفة، تجدي نفعاً في هذا الخضمّ الجحيمي الثائر الذي تتحمّلون قسوته ورعبه. كونوا على مستوى آلامكم. ولا تُرْخِصوا أحلامكم. لا تتنازلوا لهم عن شيء مهما بدا بسيطاً. لأنه سيكون الرَسَن الذي سيجرّونكم منه حتى الحظيرة. وعندها، لا شيء ينفع، بما في ذلك الثورة من جديد. الفكر الذي لا يمشي كسيح. ومشاعركم حية لأنها تسيرمعكم، وبكم تحيا. ولقد حدَّدتم المصير منذ الخطوة الأولى: مصيركم ومصيرنا. كل شيء مرتبط بحركتكم. ولكل واحد منا المصير التي يستحقه، وله الدور الذي يرتأيه. المتعة الثورية التي ذقتموها عَبْر حركيَّتكم الكاسحة، رغم خطورتها، هي التي ستدفع بكم إلى الأمام، وتمنعكم عن النكوص: «متعة الفعل الثوري» التي لا يعرفها إلا مَنْ جرَّبها. دوسوا عليه. دوسوا على الشكل القديم للحياة العربية الخانعة. ستنبع من تحت «أقدامكم الواعية» حياتكم الجديدة المبنية على الحرية والكرامة. لا تدعوا أهل الأقلام، ولا ذوي الكلام، أو محترفي المؤتمرات، يسرقون ثورتكم. لا تغُرَّنكم الإجتماعات المهيبة، ولا الملاسنات الإعلامية، ولا النشاطات اللفظية، أو «الفكرية» الأُخرى، فهي، كلها، صدى لأقدامكم. أقدامكم العارية التي لم تعد ترضى بالسكون، هي التي ستوصلكم إلى فضاء الحرية المنشود. الثورة أمر، والمعارضة خَمْر. للثورة شأن، وللأحزاب شأن آخر. الثورة واحدة، أما المعارضة فعديدة ومتنوعة. إنها معارضات. والمعارضات لا تثور، ولا الأحزاب. مَنْ يثور هو الكائن: الكائن الذي وَعَى طاقة استيائه، وقوّته. ولقد بلغ استياؤكم من «هذا الوضع» حدَّه الأقصى. فلا تهْدروا هذه الطاقة «بالحَرْتَقات». رأيناهم كثيراً وسمعناهم. المعارضون النبلاء متهيِّئون، دائماً، ليشرحوا ما ليس بحاجة إلى شرح. وليحَلِّلوا ما لم يعد بحاجة إلى تحليل. فيملأ السأم من البلاغة والإنشاء نفوسنا. ومن الأقوال الفارغة أُتْخِمْنا. لاشيء يشبه ما تفعلونه على الأرض، لا أقوالهم ولا مشاعرنا. لا شيء يشبه الثورة. ولا شيء يحل محلها. هي أنتم. وأنتم، أفراد الثورة، لا مثيل لكم. مقولات الواقعية والموضوعية، ومزاعم التحوّل التدريجيّ الخبيثة للوصول إلى «بَرّ أمان السلطة»، لا يغيِّر في الوضع شيئاً، طالما أنكم لا تريدون الوصول إلى هذه النقطة البغيضة. لا يحق لأحد أن يَتَسَلَّط على ثورتكم. وليس للثورة أكثر من منطق ومن مسار. هي ليست حَمّالَة أَوْجُه، وإنما هي قطيعة. قطيعة تحدث مرة واحدة في التاريخ: تاريخ الكائن الذي أدرك أن دوره الوجوديّ هو التمرُّد لا الخضوع. ليَحْمِ الشعب ثورته. أما المعارَضات، والأحزاب، فلها مَنْ يحميها.