موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العَربيةُ بين المُقدِّسين و المُتَربِّصين!!
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 12 - 12 - 2013


6
الدارجة والسوقية: أمَّةُ العَرَنْسُوقْ
لا أسيئ الظن بأحد، ولكني مضطر للربط بين بعض الوقائع التي لن يفلتها المؤرخ مستقبلا، إذ لا بد أن يقول: إن الدعوة إلى اعتماد الدارجة في التدريس قد سبقتها ممارسةٌ تشويهيةٌ تبدو موجهة ضد الفصحى، فأي الواقعتين وَجَّهتِ الأخرى أو قادتْ إليها؟ وسنكتفي بواقعتين، أو نموذجين.
6 1 مع انفتاحِ مَجالِ الإذاعات الخاصة ظهرتْ مجموعةٌ من التشوهات اللغوية، بل ظهرتْ بُقَعٌ عريضةٌ من التلوث. تمتد من خَلْطِ الدارجة المغربية بالفرنسية إلى استثقال أي تدخل بالعربية الفصحى والسخرية منه.
ستقاطعني وتقول: «»زَدْتْ فِيهْ»! من سيسخر من الفصحى في المغرب؟!»
ولذلك سأذكر لك واقعة محددة يمكن التأكد من صحتها. في إحدى هذه الإذاعات كانت إحداهن تحاورُ الممثل عبد الرحيم المنياري المعروف بدور الشرير في ملف مداولة. اتصل مُستمعٌ من منطقة الريف (الحسيمة أو الناضور) كان يتكلم عربية مبسطة نقية من الألفاظ الفرنسية، قريبة من مراعاة الإعراب. ثارت ثائرة المذيعة فطلبتْ منه أن يتحدث بلغة يفهمها المستمعون ولا دون ما يتحدث به تبسيط وألحت عليه، وكادت تقطع المكالمة، فاعتذر إليها بأنه قضى أكثرَ من خمسَ عشرةَ سنة في سوريا، فتركتْه يُكملُ على مَضَضٍ، وعندما انتهى تنفسَتِ الصُّعداء، وقالت بسخرية وَقِحَة للمُمثِّل الذي كان يَنِدُّ عنه ما يدل على الحرج: «فْهَمْتْ شي حاجَة؟!!» كان الممثل، لاشك، محرجا من سلوكها، ظهر ذلك في تفاعل إيجابيا وبلباقة زائدة مع المتصل مضمدا جراحه، اسألوا عبد الرحيم. قُلتُ للجالس بجانبي بحَنَق: «تيقولوا فالاقا ما مزيانه!!»
وفي هذه الإذاعات سمعتُ مجموعةً من أشباه الممثلين/المخرجين والملحنين/المغنين يتهكمون من «السيارة» و»المستشفى» و»الدراجة»و «الثلاجة». قال أحد هذه «الميخيات» التي تعيشُ من اجترار العاهات اللغوية والنطقية أقصد صاحب البوشكليط أو البوكشليط: لا يُمكنُ أن يكونَ المستشفى في عمل فني، الذي يعرفه المغاربة هو السبيطار، وقال آخر وهو يضحكُ: تّخَيَّلوا فلانا يغني بَدَلَ: «يا الغادي فالطموبيل..»، «يا الغادي فالسيارة!!»، سيكون أُضحوكةً في نظره. الطوموبيل أفصحُ وأخفُّ نطقا من السيارة في ذوق هذا الميخي!
من حق هؤلاء «الميديوكرات» (حسب اللهجة التي يفهمونها) أن يستعملوا المستوى اللغوي الذي يناسبُ مواهبَهم الفقيرة، وثقافتهم الضَّحْلة، فهم لا يستطيعون أن ينتجوا فنا رفيعا يُعلي ذوقَ الجمهور كالذي أنتجَه الفنانون: الطيب الصديقي، والمرحوم الطيب العلج، وشفيق السحيمي، ومن استفاد من الاحتكاك بهم، مثل ناس الغيوان وجيلالة والمشاهب...الخ. فمادتهم الوحيدة، كما يرى المشاهدون في رمضان، هي عرضُ العاهات اللغوية والتشوهات الخَلقية والخُلقية. هؤلاء تلاميذ المعلم زيطة صانع العاهات في زقاق المدق، رائعة نجيب محفوظ. فن العاهات، ودراما العاهات، موجودان على هوامش الثقافات والحضارات، موجودان في الزوايا المظلمة الرطبة، مثلها مثل العاهات الاجتماعية التي يشمئز منها الذوق السليم (مثل اللواط والسحاق وزنى المحارم، والاعتداء على الأصول، وكل الموبقات...الخ)، ولكن المشكل في المغرب هو أن هذه العاهات تزحف نحو المركز، وتقدم حتى على مائدة الإفطار في الشهر الأبرك، وفي القنوات التي يُنفق عليها المواطنون كما ينفقون على الضوء والماء. مع الماء والكهرباء ننفق على هذه القاذورات، شرف الله قدركم! فَلِمصْلحة من يعملُ صُناع العاهات في الإعلام المغربي؟
أجدُ نفسي أحيانا، وأنا استمعُ قهرا إلى هذه الإذاعات والقنوات، كمن يسبح في بركة من الأوساخ اللغوية والفكرية والاعتقادية و»العلمية». في هذه الإذاعات حيثُ لا تُرَكَّبُ جملةٌ عربيةٌ دون إقحام ألفاظ ومركبات فرنسية ناقصة تسمعُ عن «الرُّقْياتِ الشرعية» والتداوي بالأعشاب حتى تَظنَّ أنكَ انتقلتَ إلى القرن السادس عشر حيثُ لا أطباء ولا صيدليات، ثم تسمع عن أخبار الدجال الأعور، وما وقع في القبر ويوم الحشر، حتى تظن أنك اجتزت الصراط المستقيم وأنت واقف على أبواب جهنم تستعجل الدخول فرارا من هذه الأوساخ... [العرنسية + البؤس الفكري والدجل العقدي]. لستُ أدري هل يوجد في جهة من العالم إعلام مُخرِّب مثل هذا الإعلام.
الواقع المغربي (والعربي الإسلامي عامة) يحطم إحدى الأفكار الأساسية في منطق التطور البشري، وهي القائلة بأن تغير الأدوات يؤدي إلى تغيير الأنساق الفكرية: نحن نعرف كيف نستعمل الأدوات الحضارية الجديدة في خدمة خرافيتنا الجينية.
لا «معذرةَ» لغبي عندي على اللغة التي استعملتُها في هذه الفقرة، سحقا للأغبياء فهم لا يفهمون غيرَها. سحقا للأغبياء، على فرض حسن النية، أما إذا كانت الخُطة هي تفليسُ المَصنع، أو المعمل، من أجلِ التخلص منه، أو بيعه في المزاد العلني بثمن بخس فسنكون نحن الأغبياء إن مرت العملية على ما يراد لها.
هناك من اقترنتْ عنده الدارجةُ بالتشوهات: يرى أن عبارة: «إلى ديت السيارة خذني معاك»، حذلقة ثقافوية، أما لغة الشعب عنده فهي: «وَاتَّا ديني عْمَاكْ فالطنوبيل»، أو : «سي غا تدي ل?واتير عنداك، نو موبلي با».
وبصدد الجملة الأخيرة أسأل الديوك جميعا، وأسأل المصفقين لهذه «المغربية» الجديدة: هل هذه هي الدارجة التي تريدون تَكْتيبَها؟ من الأحسن، في هذه الحالة، أن نكتبها بأبجديتين؛ واحدة مُشَرِّقة وأخرى مُغَرِّبة، هكذا:
«Si غَا تَدِّي la voiture عَنْداكْ، Ne m?oublie pas».
وبهذا سنضمن ألاَّ يفهمنا لا الشرق ولا الغرب، ونرتاحُ من حساسية التشريق والغريب، ومن حساسية الماضي والمستقبل: اليس الشرق والماضي هو ما يرعبُ الديوك، والغربُ والمستقبلُ ما يُرعب التيوس؟ ألمْ يقل مغنيتنا: «مغربية ياناسي، عنايتي فَ لْباسي»!! (وكان عليها أن تُضيف تنبيها للغافلين: «ماشي فْ عقلي ماشي فْ راسي»!!). لا بأس أحياناً من فتح الجرح، فهناك من لا يحسُّ ولا يتحرك حتى «تَتُصَلْ فيه لّْعظم».
من الأكيد أن الدوارج المغربية مستويات، فدارجة المتعلمين والمثقفين أقربُ إلى الفصحى، ما لم تُعَرْنَسْ. المعرنسون هم «التونيا» والسرطان الذي سيفترس الدارجة المغربية إن لم يحاصر بالاستهجان. والكلامُ في هذا الموضوع طويل عريض، فبتظافر «العَرنسية» و»السوقية» سندخل في عزلة عن المجالين العربي والفرانكوفوني، وعن باقي الحضارات، وسيربح العالم جنساً بشريا بدائيا: العَرَنْسُوقِيونَ: العربُ الفرنسيونَ السوقيونَ، أي أمَّةُ العَنْسُوقْ.
هل تعلمون لماذا يتلعثم المغاربة والجزائريون والتوانسة حين يجدون أنفسهم وجها لوجه مع الميكروفون، (خاصة في الفضائيات العابرة للحدود، ويظلون يستندون إلى هذا العكاز أو ذاك، من قبيل: يعني، يعني، يعني، فهمتني، فهمتني، فهمتني؟ بَغي نقول...الخ، أو يهربون إلى لهجة شرقية، مصرية أو شامية أو خليجية أكثرَ طلاقة، كما تفعل المغنيات والمغنين...؟
هل تعرفون لماذا؟
السبب في ذلك هو وعيُهم بأن لغة العَرَنسوقْ مُنحطة وعيب، وأن الفرنسية ليست موضةً وعلامة تجارية رابحة في كل البلاد العربية التي يريدون مخاطبتها عبر تلك القناة الإعلامية.
7
شرود:الفصحى والفصاحة، اللغة واللغة
هذه النقطةُ مجردُ حاشية، الغرضُ منها تسجيلُ نقطة نظام. فق وقع بعض المتدخلين في خلطين: الخلط الأول بين الفصاحة والفصحى، والثاني بين اللغة بمعنى اللسان، واللغة بمعنى الكلام الخاص.
7 1 حين نقول «الفصحى» فنحن نقصد «اللغةَ العربية» التي «وضعها» أبو عمرو بن العلاء، كا سبق، وأكملَ سيبويه خطاطتَها من خلال نظرية العامل، وقد تحدثنا عن عملية استخلاصِها من الدوارج العربية، أو من كلام العرب ولغاتهم.
أما الفصاحةُ فهي صفةٌ، أو مزية، يتفاوت فيها الكلامُ المنضبطُ لقواعد النحو، أي الكلامُ المنتمي للفصحى نفسُه: بعضه أفصح من بعص صوتيا وتركيبيا وأداءً. ولذلك فالفصاحةُ تُقايض أحيانا بالبيان وبالبلاغة أحيانا أخرى، وتوصف بالجودة والرداءة، وليس بالخطأ والصواب كما هو حال النحو. إذن الانضباط للنحو يُنتج الفصحى، أما الفصاحة فتنظر في مستويات الجودة في التعبير. ومن أشهر الكتب التي بحثت في شروط الفصاحة كتاب سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي، وهو تطوير لمقدمة البيان والتبيين للجاحظ، وينافسُ كتاب أسرار البلاغة للجرجاني الذي توجه لتفاوت الدلالة على المعاني.
وعليه فالقرآن ينتمي إلى الفصحى، لأنه وُحِّد وضُبطَ في مسارها، وكان أحدَ أكبر مصادرها، وليس المصدر الوحيد. كما أن الدراسات التي دارت حوله في التنزيه والإعجاز تمثل رافدا واحدا من خمسة روافد ساهمت في بناء البلاغة العربية. أقول هذا لأن بعض المعلقين أفتى في الموضوع بدون معرفة. دخل الأدغالَ في حلكة الظلام يحمل شُمعة، فكلما اصطدم بجذع قال: «هذا ربي...»، أو قال: «الفيل ورقة ضخمة...»، لأنه ظل ممسكا بأذنه في الظلام.
والقرآن فصيحٌ حقيقةً لأسباب يطول شرحها، وأخرى لا يمكن الخوض فيها، حتى وإن تجرأ أبو العلاء المعري على الإمساك بطرف منها في عصر يبدو أكثر حرية من عصرنا. والخلافُ الوحيدُ في الموضوع ينحصر في القول بإعجازه للبشر أن يأتوا بمثله، أو في وجه الإعجاز، هل هو في بناء لغته، أم في «صرف» اللهِ الناسَ عن الإتيان بمثله، كما ذهب بعض المعتزلة، وليس كل المعتزلة. ولذلك لا معنى لإثارة هذا الموضوع أصلا. ومسألة الدخيل لا علاقة لها لا بموضوع الفصاحة ولا بالفُصحى، فما قيسَ على كلام العرب فهو من كلام العرب، كما قال ابن جني. واللغة العربية تتقوم بصرفها واشتقاقها ونحوها.
7 2 لم أفهم كيف أقحمَ بعض المتدخلين في النقاش حديثاً لغة الشعر: لغة أدونيس ولغة درويش والسياب والمعداوي وشعراء آخرين. وهذا خلط آخر بين الفصاحة والفصحى، بين النحو والبلاغة؟ فاللغة التي يتحدثُ عنها السيد عيوش ومن معه، ويرد عليه الأستاذ العروي ومن معه، ويُشغِّب عليهما السيد x ومن معه، هي من جنس اللغات الطبيعية: العربية، والفرنسية والروسية والصينية والإنجليزية...إلخ. وتقابلها لغاتٌ رمزية اصطناعية، وتنبثق منها عن طريق الانزياح لغة ثانوية فنية حسب تعبير لوتمان. لغةُ الشعر تنتمي إلى اللغة الثانوية الفنية الانزياحية. اسْتُعيرت كلمة لغة للدلالة عليها في سياق هيمنة اللسانيات ونظرية التواصل، باعتبار أن لها هي الأخرى نحوا على هامش نحو اللغة الطبيعية.
ونتيجةً لهذا الخلط تطرق البعضُ لغرابة لغة نصوص قديمة، وصعوبتها وبُعدها عن العربية الحديثة، ومنها نصوص قرآنية. وذكروا أنها تنتمي إلى لغة أخرى ليست هي اللغة العربية الحالية. من الأكيد أن القوالب والمعاجم تغيرت، ولكن ينبغي الاحتياط من إدخال الغموض والغرابة الوظيفيين الدالين في حيز الغموض والغرابة الناتجين عن تطور اللغة وتخليها عن بعض الألفاظ والتراكيب والاشتقاقات. فحين يتعلق الأمرُ بالغموض الدال تُصبح المسألة بيداغوجية، أي تقديمُ النصوص بالتدريج حسب المستويات، وهذا يصدق على القديم والحديث. وليس مُبررا للتخلي عن اللغة التي ظهرت فيها تلك التعابير المجازية.
هذا الكلام موجه لعامة القراء المتابعين حتى لا يتيهوا في الشعاب، وللمثقفين الذين يقعون في مثل هذا السهو، أما اللسانيون والسيميائيون فلهم جولات، بل تَطوُّس، في التفريق بين اللسان واللغة والكلام ...الخ، وليسوا في حاجة لهذا البيان. وإنما يُقَّدر الكلام هنا بقدر بعض متلقيه والحاجة إليه.
8
كَمْ عُمُر العربية في المغرب؟
كَمْ عُمْرُ العربية في المغرب؟ التيسُ سيقولُ لك: أربعةَ عشرَ قرناً، هي والإسلام كالشفة العليا والسفلى، والخروف سيقول لك: عمرها نصفُ قرن مشؤوم. ولذلك قال محمد بن عبد الله، ملك المغرب، قالباً الصفةَ: إنما أردتُ أن أضربَ هذا التيسَ الأسودَ بهذا الكبش الأبيض وأستريح. وضاربهما فوقع بينهما صريعا. الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما فهم؟
حين يتحدثُ بعضُ الإخوة من النشطاء الأمازيغيين عن الجريمة التي ارتكبتها الحركة الوطنية وهي تقاومُ ما سُمي ظهيرا بربريا، وتجعل التعريب في أولى مهماتها فهم يعرفون ما يقولون. فالبيئات اللغوية التي أدركناها قبلَ وصول المدرسة إلى المداشر والقرى (وكان أغلب المغاربة في الدواوير) كانت تتميز بالسكونية، بل بالتحجر، القبائل الأمازيغية مُعْصَوْصِبة حول أمازغيتها، والعربية حول عربيتها. وعند العرب كما عند الأمازيغ إمامٌ مَسجدٍ ومجموعةٌ من الطلبة، حفظة القرآن الذين يحملونه، ولا يفهمون منه شيئا.
ومع وصول المدارس تكسرت هذه الثنائية وهذا السكون، واجتمع أبناءُ العرب والأمازيغ في حجرة واحدة، ليسمعوا شيئا جديدا ذا قيمة: بَ بُ بِ، تَ تُ تِ، وشيئا آخر أجدَّ منه: a b c d. ويروا رموزا أخرى: 1+1=2، معقول، و 0+1 =1، يا للعجب! أين ذهب الصفر؟! وساروا في هذا الزخم: الاستقلال، العلم، الوطنية. وتأسست الجمعيات الوطنية لإنشاء المدارس العربية الأصيلة....الخ
هذه الموجة حدثٌ خطيرٌ في تاريخ المغرب، ولا يُحسُّ بما في المزود إلا من يعتقد أنه ضب به. غير أن هذا المد لم يلبث أن كُسِرت أمواجه عن قصد، ابتداء من 1963، ابتداء من تدخل المصريين، مع الأسف، في الحرب بين المغرب والجزائر. حيث طُرِدَ مئاتٌ، أو آلاف، من الأساتذة المصريين الذين جُلبوا للمساهمة في التدريس. واستدعي الفرنسيون من جديد فأرسلوا المجندين يتعلمون الحجامة في رؤوس اليتامى، الشيء الذي أثار حفيظة الحسن الثاني. وبشكل ترقيعي اُجتُلبَ المدرِّسون من العراق وفلسطين ورومانيا، وتسلل من بينهم آلافُ الأُميين والمرتزقة الذين لا يُحسنون أيَّ شيء.
وبدون تكوين أو انتقاء قُلبَ سافلُها على أعاليها، فانتُدبَ أشباه المتعلمين من الكتاتيب إلى التعليم الابتدائي (العُراف، وكنتُ سأكون منهم، بعد الشهادة الابتدائية، لولا العناية الإلهية). ورُفِّع المعلمون بدون تكوين إلى الإعدادي (المنتدبون)، وبتشغيب نقابي شاركنا فيه رُقُّوا إلى الثانوي ورُسِّموا فيه، فأفسدوه، وأُلحقَ جيلٌ منهم بالعالي فكفنوه في أتوابه، في الإلحاق وتكوين المكونين. هذه هي البضاعةُ الفاسدةُ التي نَعُدها الآن بالسنوات فنضع وزرها على ظهر اللغة العربية.
لقد أُجهضتُ اللحظة الأولى لانطلاق التعليم في المغرب، ثم وقع الإجهاز عليه، بعد ذلك، ابتداءً من 1969 بضرب الموقع الاعتباري والمادي الذي كان لرجل التعليم، ثم بضرب المنظمات النقابية والطلابية التي تتحمل جزءا من المسؤولية في التصعيد، وعدم قراءة الظرْف قراءة واقعية، ثم تدخلت الأُصولية للإجهاز على ما تبقى مستهدفة تخريب العقول، مقدمةً الاستقطابَ على العملِ الصالح، فملآت حقائبها بالكُسالى والغشاشين والفاشلين في جميع التخصصات. ونحن اليوم أمام مُفترق طرق خطير بين ديك يصيح بصوت فصيح، وتيس ينطح ويبلبل.
ومعَ هذا التاريخ الأسود المحبِط فقد أصبحتِ اللغةُ العربيةُ مرعبةً اليوم في المغرب، لسببين:
أولهما الانتشار الإعلامي للغة العربية منذ أواسط التسعينيات. فمهما كان موقفنا من مؤسسة الجزيرة الفضائية فقد كانت مُحركاً قويا للفضاء استقطب ملايين المشاهدين من جميع الفئات والطبقات. أصبحَ هناك جمهور واسع لمتابعة الأخبار والمناقشات بالعربية الفصحى. والأخطر من ذلك هو التنافس على هذا الجمهور الذي أدى إلى ظهور فضائيات كثيرة لا تقلُّ جاذبية عن الجزيرة، رهانها على العنصر البشري الكفء. حتى فرنسا اُضطرت لمخاطبة العرب بالعربية، فضلا عن روسيا وأمريكا والصين وإيران... العالم كُلُّه صار ينطقُ عربية.
أضفْ إلى ذلك آلافَ الكتب العربية القديمة والحديثة التي تَصبُّ في بحر الشبكة العنكبوتية من جميع أرجاء العالم... ويكفيك أن تكتب «تحميل كتاب كذا» لتحصل على الكتاب في دقائق، بدون مقابل. وقد كان الحصول على بعضها من المعجزات.. هناك الكتاب المقروء والكتاب المسموع...الخ. هذا مرعب لكل من يتمنى أن تنكمش العربية. انتشرت العربية في العقدين الأخيرين بنسبة تفوق انتشارها منذ أربعة عشر قرنا.
العنصر الثاني نعيشه ونلحظه منذ سنوات، ولكن بعض المعلقين على النيت عمقوا الإحساس بالخَوف منه حين شبهوه بالطاحونة. الطاحونة عندهم هي التمدين، فمن يدخل المدينة يتخلى عن لهجته المحلية ولكنته البدوية، وكما يُحسن هندامَه يُحسن منطقه. وعما قريب لن يبقى في البادية أكثرُ مما بين 5 و10 بالمائة، كما هو الحال في الدول المتقدمة، والعهدة على الناقل.
وقد حفزني هذا النقاش على تتبع تدخلات البرلمانيين المغاربة، فلاحظتُ أن المثقفين منهم يتفقون على التحدث باللغة الوسطى التي يتفق أكثر المتدخلين الواعين بالإشكال(غير العرنسيين والسوقيين وتيوس الرمال) على تنميتها، بل إن المرءَ ليستثقل الأجوبة المكتوبة بلغة فصحى متصلبة يفتعلها المتحدث أو يتهجى ما كتب له، ويستحلي الدارجة الخالية من الصنعة والدخيل الذي لا ضرورة له. وبالمناسبة فالبرلمان طاحونة لغوية حقيقية، كما هي التجمعات الجماهيرية، والملتقيات الثقافية، والمرافعات في المحاكم...الخ.
الذي نحتاجُ إليه ليس تدريج التعليم عشوائيا وإفقار اللغة العربية بحرمانها من تدريس العلوم إلى حدود الإجازة (مع اعتماد الهرم المقلوب في الجامعة)، بل هو تنمية هذه اللغة خارج التدريس أولاً، بوضع قواعدَ ومعاجمَ يَستأنسُ بها الكتاب والأدباء، ويستعملها العلماء في تقديم العلوم، وحين تنجح هذه العملية ستفرضُ نفسَها، وإذا فشلتْ ظلتْ عواقبها محدودةً. هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. أما قولكم/قولهم: اعطوا الدارجة فرصة، فإن لم تنجح يتم التراجع عنها، فهو مغالطةٌ، لن أقول لأصحابها جربوها في أولادكم الذين يدرسون في البعثات، لأني أكره الأذى لأي مواطن مغربي. أما ذلك المواطن الأجنبي الذي اقتسم فتوى العامية مع الأستاذ عبد الله الشكيري فما هي الضمانات التي تركها وراءهُ بعد أن غادر مطار محمد الخامس؟
انتهى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.