تقديم لا بد منه يعتبر محمد أديب السلاوي الأندلسي من بين أكثر الكتاب غزارة في التأليف والإنتاج الأدبي و السياسي، نقدا و إبداعا وتنظيرا، فهو ذو تجربة موسومة بالتعدد مما يجعلها موسوعية في عمقها الإشعاعي، و قد راكم تجربته منذ بدايات الستينيات إلى الآن بين التحرير الإعلامي والمقالة السياسية، و التحليل المسرحي والمقاربة التشكيلية والنقد الأدبي شعرا ونثرا، كل هذا ساعده لأن يكون رصيده من الكتب يتعدى الأربعين كتابا وما يزال في جعبته الكثير، وعلى الرغم من وضعه الصحي المتدهور، وظروفه الاجتماعية القاسية، يكتب أستاذنا محمد أديب السلاوي بعشق ويثبت حضوره الفعلي في المشهد الثقافي بإصرار وعزيمة لا مثيل لهما، انه رجل استثنائي في زمن استثنائي، يغالب فيه كبرياءه، و يستنهض شموخه دون ملل، فإليه يرجع الفضل للتعريف بمسرحنا وتشكيلنا المغربي في المشرق العربي، حيث دون و أرخ وحلل واظهر تجاربنا الثقافية خارج الوطن وأعطاها صورة مشرقة براقة، رسم بذلك خريطة الطريق للمبدعين المغاربة في شتى المجالات للمشاركة والحضور والتميز، كل هذا في غياب المؤسسة الرسمية للثقافة المغربية، لذا فكان من الطبيعي أن تنشر له وزارات الثقافة من بلدان عربية كالعراق وسوريا أعماله النقدية الفنية منذ السبعينيات من القرن الماضي نظرا لمكانته النقدية، وحضوره الفاعل، وكتاباته الوازنة. إن محمد أديب السلاوي مثقف شمولي، باحث ومحلل، ناقد ومنظر، كاتب ومبدع، وفوق كل هذا إنسان نبيل، عفيف وأبي، ما اجتمع فيه تفرق في غيره، وهذه سمة من سمات العظماء الذين يسجلون أسماءهم للتاريخ في صمت، لكن بمداد من فخر وبكل كرامة و اعتزاز. مدخل لقراءة الكتاب عن مطابع الرباط نت أصدر محمد أديب السلاوي كتابه الأخير « السياسة الثقافية في المغرب الراهن» من الحجم الصغير في 144 ص، حيث قسم الكاتب فهرس كتابه إلى عشرة محاور أساسية في شقين اثنين : الشق الأول و يتحدد من المحور الأول إلى المحور الخامس، خصصه للثقافة سواء كمفهوم أو كبعد استراتيجي أو كقطاع في ارتباطها بالدولة ومؤسساتها الرسمية.أما الشق الثاني الذي يضم هو الآخر خمسة محاور، فقد خصصه لمواضيع ترتبط بالثقافة عبر تجلياتها وروافدها كالكتاب وسؤال القراءة وسؤال الآثارالمسروقة ولغة الدستور المغربي والفرانكوفونية وأسئلة التربية التشكيلية، ليكون بذلك دقيقا في منهجيته، بارعا في طريقة تحليله الموسومة بالرصد والتحليل والاستقراء. ونظرا لضيق الوقت سأكتفي بتحليل ما ورد في الشق الأول من الكتاب حتى أعطي للمتتبعين فرصة المناقشة. في المحور الأول يتوقف الكاتب عند مصطلح الثقافة في بعدها الإنساني العام، وفي سياقها الشمولي، ليقطف مجموعة من التعاريف, سواء من بعض القواميس والمعاجم والموسوعات، أومن خلال رصد بعض المفاهيم لأعلام عربية وأجنبية، ليخلص إلى أن الثقافة تعتبر المقياس الحضاري الذي تقاس به عظمة الأمم والشعوب، وهي العامل الأساسي الذي يساهم في تطور المجتمعات و تحديثها. وهي تشمل العلم والمعرفة والتربية والآداب والفنون، إنها الوعاء الحضاري الذي يحفظ للأمة هويتها، ويضمن للمجتمع تماسكه، ويكسب للأفراد والجماعات سماتهم الفكرية المتميزة و الخاصة. داخل هذا السياق الشمولي للثقافة يتساءل الكاتب في المحور الثاني عن سؤال الثقافة في المغرب، فإلى أي حد يمكننا قياس هذه الثقافة على أجهزتنا الرسمية في بلادنا؟ ان الإجابة عن هذا السؤال يتطلب - من وجهة نظر الكاتب- استحضار الوضع الثقافي العام للمغرب خلال القرن الذي ودعناه. لقد عاش المغرب خلال القرن الماضي مخاضا سياسيا استعماريا، وغزوا ثقافيا عسكريا متعدد الأهداف و متنوع الصفات، أثر بشكل كبير في مسار تاريخه، ليجد نفسه في الألفية الثالثة محاطا بأنماط ثقافية مختلفة: عربية، فرنسية، أمازيغية، متداخلة و متناقضة و متعددة ومتصادمة ومتراكمة ومتشعبة في صراع سلبي مرير تسعى فيه كل ثقافة حماية نفسها و دحض و إلغاء الثقافة الأخرى. إن الثقافة في عالمنا اليوم لم تعد فضاء للابتكار والإبداع، ولكنها تحولت إلى وعي نقدي تستنده قيم الحرية والمساءلة في المجتمع السياسي والمجتمع المدني، ويرصد الكاتب المشهد الثقافي المغربي خلال الخمسة عقود المنصرمة, حيث كانت السياسة الرسمية المغربية محكومة بآلية الاعتماد على الغير، أي الاعتماد على الآخر، وهو إحساس بالدونية والنقص، مما ترتب عنه ميلاد مجتمع مستهلك للثقافة، لا يستطيع التعامل مع الواقع دون وساطة أوإسقاط، والنتيجة هي جعل المثقف المغربي مرغما في محطات عديدة من هذا التاريخ على الابتعاد عن الفاعلية، ففي عمق هذه الوضعية تسود الفرقة، و يتكرس الانفصال، ويحتمي العديد من الفاعلين الثقافيين بالعزلة القصوى مثلما يحتد منطق الإقصاء. غير انه على الرغم من كل ذلك فقد ظهرت في الساحة الثقافية المغربية اتجاهات الحداثة في جنسنا الأدبي شعرا ونثرا وفي الأنواع الإبداعية كالمسرح والتشكيل والموسيقى، لكنها ظلت تتبلور ببطء، وتوسل الاقتراب من العالم في نهضته الثقافية دون أن تتمكن من ربح الرهان، لكن على الرغم من ذلك فقد أحدثت تحولات عميقة في اهتمامات النخبة المثقفة بعيدا عن أي سياسة أو توجه أو إستراتيجية. في المحور الثالث» سؤال الثقافة إلى وزارة الثقافة» يرى الكاتب انه بقدر ما تشتمل عليه الثقافة من ألوان الكتابة و الإبداع شعرا ونثرا وموسيقى ورقصا وفنونا ومسرحا، فإنها تشمل أيضا التربية والعلوم الإنسانية والعلوم البحثة من اجل أن تصوغ المجتمع برمته وفق المبادئ التربوية والأخلاقية والتطور العلمي والتقني في بيئة واعية متطورة تقوم على التوازن بين العلم والتربية، بين المعرفة والحس الجمالي والسلوك الاجتماعي، وبما أن المثقف هو الصانع الوحيد لكل ما سبق ذكره، فانه يحظى باهتمام بالغ في المجتمعات المتقدمة والحكومات، لأنه هو صانع للتنمية والمدون للأمجاد، والحافظ للأمة هويتها، والضامن لتماسكها، من هنا عملت الدول المتقدمة إلى أن تكون وزاراتها الثقافية عنوانا للدفاع عن مقومات البلاد، والموقع الريادي للحفاظ على الهوية، حيث أن لها مسؤوليات كبيرة و حساسيات بالغة في النظم السياسية، أما في المغرب فوزارة الثقافة خصوصا في العقود الأربعة الماضية قد اتسمت بالفراغ والهشاشة والفساد والافتقار إلى رؤية أو إستراتيجية واضحة في المجال الثقافي، والنتيجة هي طبع المشهد الثقافي بسلوكات التحقير والتهميش والزبونية والإقصاء والمحسوبية، فالمثقف المغربي في ظل هذا الواقع الهش أصبح يعيش وضعا مترديا ومزريا : بدون راتب، بدون تغطية صحية، بدون دعم بدون تقاعد، وهذا ما دفع بالعديد من الأسماء البارزة و الوازنة من المفكرين و المثقفين و الإعلاميين و الكتاب و الفنانين في مختلف التخصصات الثقافية إلى الهجرة دون رجعة من اجل البحث عن ضفة أخرى و هوية جديدة، تضمن لهم الوجود في حياة آمنة و عيش كريم، وهذا ما أدى إلى خسارة وطنية فادحة لا تقدر قيمتها بثمن. إن محمد أديب السلاوي قد وضع أصبعه على مصدر الجرح ومنبع الداء، ليخلص إلى أن الألفية الثالثة في المغرب ما تزال وزارة الثقافة فيها تراوح نفسها و مكانها دون أي تغير، وأن مقعدها ما زال شاغرا حتى إشعار آخر، يحتاج إلى إرادة سياسية قوية المعالم، واضحة الإستراتيجية، سليمة التوجه، لها مشروع نافذ يلعب دوره الحضاري و الإشعاعي للرفع من مستوى التطلعات و الرهانات المطروحة للثقافة و المثقفين. في المحور الرابع يعالج الكاتب إشكالية الثقافة من خلالنا نحن، من خلال رغبتنا في بناء إستراتيجية لها تكون قادرة على خلق توازنات، فالمغرب يعاني من تخلف، ومن حالة استنفار قصوى، حادة ومزمنة، لذلك فالإستراتيجية المحتملة تقتضي مراعاة المساحة الواسعة التي تحتلها العالمة في ارتباطها بالبعد الانتروبولوجي الوثيق بالتراث و المرتبط بالبحث العلمي و الدراسات الأكاديمية المختلفة، وكل هذا أيضا يحتاج إلى إرادة سياسية تضمن الحقوق والتعددية الثقافية، لا من اجل ضمان تمثيلية فولكلورية لثقافتنا المحلية الاثنية عبر الفضاء المحلي ولكن بمقاربة نقدية لكل أشكال الاختلاف و التلاقح والتقاطع، فالسياسة الثقافية مشروطة بأن تلائم المجتمع، وتضع لها مبادئ و قيم ، وان تكون ترجمة فعلية لفلسفة تحيط معرفيا بالمجتمع، وتستخلص مبادئ هويته وتمنحه الخصوصية المرتبطة به، هذا بالإضافة إلى المحافظة عليه و حمايته و تحصينه للاقتناع و الدفاع عنها. من هنا تصبح السياسة الثقافية سياسة مسبوقة بتحليل الواقع العام و هذا ما لم يحصل عندنا في المغرب ، مما جعل الجسد الثقافي المغربي يعاني بحسرة و الم في ظرفنا الراهن من عدة تشوهات واختلالات وثقوب وإحباطات بسبب ابتعاده عن البرمجة و التخطيط وسوء التدبير الإداري، مما أدى/ يؤدي إلى شلل في الوظيفة و افتقار في الممانعة، فيفسح المجال للعولمة للاختراق و فرض السيطرة والهيمنة الثقافية للدول المتقدمة مع فرض إيقاعها بوعي خارجي و هوية حضارية غربية على حساب خصوصيتنا ووحدتنا. إن انجاز أية إستراتيجية ثقافية في المغرب تطلب و بالضرورة استحضار الفاعلين الثقافيين المغاربة لخلق إجماع وطني فكري وثقافي مستقل، يحدد الأهداف، ويسطر البرامج، ويرسم معالم المشروع بشكل مثين وبناء، ويرتبط بتنمية ثقافية شاملة، و المشروع لا يمكن النظر إليه بمعزل عن المسألة الثقافية، ويتطلب حضوره بأجندة الاستثمارات الاقتصادية. في المحور الخامس و الأخير من الشق الأول من الكتاب يتوقف محمد أديب السلاوي عند القطاع الثقافي في السياسات الحكومية باعتبارها قضية و ليست مشكلة، ليقرر بالقول أن موضوع الثقافة في المغرب ظل غائبا عن كل تفكير وعن السياسات الحكومية منذ حصول المغرب على الاستقلال، و هي حقيقة مؤلمة و صادمة، فحتى الانجازات الثقافية التي تم تحقيقها على أرض الواقع بقيت متواضعة وهشة و بمجهود أشخاص و بعض الجمعيات من المجتمع المدني، فما يثبت هذا الوضع المتأزم للثقافة في المغرب نجده في احصائيات اليونسكو وإحصائيات المنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم ايسيسكو و التي ترى أن معدل القراءة في المغرب في الألفية الثالثة لا يتجاوز ست دقائق في السنة للفرد الواحد، وان نشر الكتاب لا يصل إلى كتاب واحد لكل ربع مليون مواطن، وهذا رقم مخيف و مهول ومحبط إذا ما قرناه بنسبة القراءة و النشر في دول مجاورة، يشير الكاتب أيضا إلى أن ما يعاب على وزارة الثقافة من أسماء في العقود الخمس الأخيرة كان أغلبها لا علاقة له بتدبير شؤونها و هو ماراكم الكثير من المشاكل و ترك ثقوبا وفجوات في المشهد الثقافي المغربي، و يخلص سيدي محمد أديب السلاوي في الأخير إلى أن المغرب في اشد الحاجة إلى عقول متنورة، و إلى حشد كل الإرادات والهمم لإخراج المغرب الثقافي من النفق المظلم ومن مشهد الجمود والتراجع والتفكير مليا للانتقال إلى مشهد النهضة المشروطة بتحقيق انجازات لا بد منها كل هذا يتطلب الإسراع بالخطوات التالية : - تأسيس مجلس أعلى للثقافة - فتح مكتبات واسعة للقراءة - فتح قاعات للعروض الفنية - تأسيس دور للنشر للكبار و للصغار - وضع سياسة واضحة لدعم الصناعة الثقافية - دعم الإنتاج الثقافي بتغطية حصة هامة من تكلفته - اقتناء حصة هامة منه لصالح المكتبات الوطنية ومكتبات المجالس البلدية والقروية و المدارس والمؤسسات التعليمية والمعاهد والجامعات. - دعم الانتاج الفني على اختلاف مشاربه- المسرح التشكيل السينما.... خلاصة واستنتاجات 1- ما من شك أن هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب النقدية التي تحلل و ترصد المسألة الثقافية في المغرب بكثير من الدقة والموضوعية، و ما من شك ان هذا الكتاب على صغر حجمه يعتبر كبيرا في طروحاته لأنه بقدر ما يرصد الوضع الثقافي المغربي خلال الخمسة عقود الماضية بقدر ما يعطي حلولا و بدائل و مقترحات عملية و لأني بصاحبه يفتح ورشة لتقويم و تقييم المسألة الثقافية في المغرب . 2- اعتمد الكاتب في تحليله للقضايا على الجرأة في تناول القضايا الثقافية الحساسة و هي تنم عن فضح الواقع الثقافي و تظهر سياساته الفاشلة التي تفتقر إلى خطط إستراتيجية للشأن الثقافي المغربي في أبعاده وتصوراته. 3- إن الحديث عن السياسة الثقافية في المغرب الراهن ما هي إلا كنتيجة حتمية لمسار تاريخ المغرب السياسي في علاقاته المتوترة مع واقع الثقافة وواقع المثقفين. 4- إن صدور الكتاب في الظرف الراهن تزامن مع دعوة الكثير من المغرضين ممن ينادون بتقليص دور اللغة العربية من برامجنا التعليمية و اعتبار الدارجة الملاذ المنقذ من أزمة التعليم في المغرب و هي دعوة تمس بكرامة الثقافة و المثقفين في محاولات متكررة دون رد فعل رسمي من الأجهزة الثقافية والجمعيات المختصة بالمجال. في الختم لا بد لي وأن اشكر سيدي محمد أديب السلاوي على هذا المجهود الجبار الذي قام به، و الذي سيكون بلا شك مفتاحا لأية مقاربة تحليلية لواقعنا الثقافي، والذي سيشهد له التاريخ بهذا الانجاز الذي ربما كلفه الكثير من الجهد و الوقت للانجاز و التأمل و الرصد و التحليل، و أشكركم جميعا على الانتباه و السلام عليكم. * مداخلة الكاتب في احتفالية مسرح محمد الخامس بكتاب « السياسة الثقافية في المغرب الراهن» للكاتب محمد أديب السلاوي.