شكلت التوصيات التي أصدرها المشاركون في ندوة علمية بكلية الآداب بفاس، مؤخرا، حول «المكون العبري في الثقافة الأندلسية»، فرصة لإثارة الإنتباه من موقع معرفي أكاديمي رصين، إلى أهمية الإنتباه للمكون العبري ثقافيا ولغويا في المغرب. وهو المكون الذي لا مجال للشك في اعتباره واحدا من روافد الثقافة المغربية، الذي لم يأت الدستور المغربي الجديد لفاتح يوليوز 2011، إلا لينصف واقعا متحققا منذ أكثر من ألفي سنة. واقع التأثير والتأثر، مغربيا، بين اللسان العربي والأمازيغي واليهودي والحساني، مما أغنى الإنسية المغربية ومنحها تمايزا (وليس تميزا)، ضمن منظومة كل الفضاء العربي والإسلامي والإفريقي والمتوسطي. ولعل من الأمور التي لا ينتبه إليها كثيرا، في رؤيتنا لواقع الإنسية المغربية (التي من أمتع ما كتب عنها، ما أصدره العلامة المغربي عبد الله كنون الطنجي من كتاب شيق أسماه «النبوغ المغربي»)، أنه قد صنعها قدر جغرافي للمجموعة البشرية التي إسمها «المغاربة»، وهبهم أن يكونوا إلى الأبد في نقطة تقاطع عالمية تعبر منها كل ثقافات العالم. إن مضيق جبل طارق، حاسم هنا، والتموقع بين قارتين وحضارتين أكثر من حاسم، ونمونا كمغاربة على ضفاف الماء، على امتداد يفوق 3500 كلمترا، قد جعلنا دوما في تماس مع الآخر، بالتعدد المشكل طبيعيا لهذا الآخر. وكانت نتيجته التاريخية، أن رؤيتنا لذاتنا وللآخر، فيها الكثير من التنسيب في الرؤية للعلائق، ومن العقلانية والإنفتاح. وضمن هذا الأفق يمكن الرؤية لتعددنا اللغوي وتعددنا الثقافي، عنوانا عن غنى حضاري. الغنى الذي يتبدى من خلال البناء واللباس والمطبخ والغناء والرقص والفلاحة والتجارة وشكل ممارسة الحياة عموما فوق الأرض. والمكون العبري بهذا المعنى، عنصر غنى إضافي، ضمن منظومة متكاملة للإنسية المغربية، لا تناقض فيه مع باقي الروافد، بل إنه قد ظل محكوما بمنطق التكامل والإغناء. إن تأمل توصيات ذلك الملتقى العلمي، في نقطها الثلاث، يجعلنا نستشعر مدى القلق المحيط علميا بتراجع الإهتمام بهذا المكون مغربيا، على المستوى الأكاديمي. ولعل أسباب القلق، آتية من التخوف من سيادة منطق «سياسوي» آني، غير مستوعب لمعنى التفريط العلمي والأكاديمي في هذا المكون العبري، من منطلق فقط دغدغة حساب سياسي غير واع بالعمق الحضاري للمغاربة. من هنا إصرار تلك التوصيات في نقطتها الثانية بالحرف على أنه: «ينبه المشاركون إلى قيام مفارقة غريبة على المستوى الأكاديمي منذ عشر سنوات، بعد اعتماد الإصلاح الجديد لبرامج مناهج التكوين الجامعي, وتتمثل هذه المفارقة في انه في الوقت الذي أقر فيه دستور المملكة «الرافد العبري»، بشريا وثقافة وتاريخا وتراثا ماديا وغير مادي، كرافد من روافد الهوية الوطنية الغنية والموحدة، ينذر النظام الجديد لإعادة صياغة المناهج والبرامج في الجامعة المغربية بخلخلة وضعية اللغة العبرانية في نظام التكوين في تلك الجامعة بشكل يهدد حظوظ الاستمرارية والتراكم المعرفي في الأبواب التي تعتبر فيها تلك اللغة الأداة الرئيسية أو الأداة الوحيدة للمعرفة بكثير من أوجه تاريخ المغرب وتراثه وثقافته الحية إلى اليوم». لقد قيض لي أن أكون واحدا من طلبة الجامعة المغربية (كلية الآداب عين الشق بالدارالبيضاء، ثم كلية الآداب بالرباط)، الذين درسوا اللغة العبرية كمادة تكميلية، اختياريا، بفضل الأثر الذي رسخته في ذاكرتي والدتي منذ طفولتي البكر، حول العلاقة مع اللغة العبرية، التي كانت تردد بعض تعابيرها دوما، من موقع التعايش الذي كان متحققا بين المغاربة المسلمين والمغاربة اليهود الأمازيغ بأعالي الأطلس الكبير. فكان ذلك التعلم الأولي للحروف العبرية واللغة العبرية، فرصة لاكتشاف معنى من معاني التعايش المغربي حضاريا. وأن يتطور ذلك الشغف معرفيا (خاصة من خلال تتبع كتابات باحثين مغاربة مرموقين من طينة حاييم الزعفراني وأحمد شحلان ومحمد المدلاوي)، لفهم بعض من عناوين الإنسية المغربية كما تراكمت عبر التاريخ. لم تخطئ تلك التوصيات إطلاقا، حين طالبت بإحداث «معهد للغات الشرقية والإفريقية» يصالح الجامعة المغربية مع عدد من الروافد اللغوية ذات الصلة بنا ثقافيا، مثل العبرية والفارسية والتركية والسواحلية. فهذا مشروع حضاري مستعجل أن تنهض به مؤسسة معرفية أكاديمية من مستوى الجامعة المغربية، يترجم انخراطها في معنى تنزيل روح الدستور المغربي الجديد، ويصالحها، أيضا، مع ذاكرة المغاربة التي بنيت صلبة من احتكاك الإنسان هنا بالآخر بفضل ما وهبه له موقع بلاده الجغرافي كنقطة تلاقي وتفاعل مع العالم.