إصابة 11 شخصا جراء غارات إسرائيلية عنيفة على جنوب لبنان    ادحلي تستقبل الوزير المستشار بالسفارة الصينية لبحث سبل تعزيز التعاون البرلماني بين المغرب والصين    المغرب يستعد لإطلاق رحلات جوية مباشرة بين الدار البيضاء وسانت بطرسبورغ    بني كرفط.. الدرك الملكي يحجز طناً و400 كيلوغرام من "الكيف" الخام بإقليم العرائش    الهجرة.. السلطات تُبعد جميع المشتبه فيهم من محيط سبتة المحتلة    الصحف الشيلية تحتفي بإنجاز المغرب    نادي نهضة بركان يحط الرحال بالقاهرة    بيع أكثر من مليون تذكرة لكأس العالم    بورصة البيضاء ترتفع بنسبة 1,31 بالمائة    السعدي يحفّز الحوار الاجتماعي القطاعي    مونديال الشيلي لأقل من 20 سنة.. "الأشبال" يدخلون التاريخ كأول منتخب عربي يتأهل إلى النهائي منذ 44 سنة    أمن طنجة يوقف مبحوثًا عنه في حالة تلبس بسرقة دراجة نارية باستعمال العنف والسلاح الأبيض    الدريوش تعطي انطلاقة أشغال الورشة الدولية حول: "الأسماك السطحية الصغيرة في ظل الإكراهات المناخية والصيد المفرط.."    مربّو الدجاج بالمغرب يتهمون لوبيات القطاع بالاحتكار ويحمّلون الحكومة مسؤولية فشل الإصلاح    "هيومن رايتس ووتش" تطالب السلطات بالاستجابة لمطالب شباب "جيل زد" والتحقيق في الوفيات والانتهاكات    المندوبية السامية للتخطيط: تحسن سنوي في ثقة الأسر المغربية    جيل 2022 فتح الباب .. جيل 2025 يعبر بثقة من مونديال قطر إلى كأس العالم U20... المغرب يصنع مدرسة جديدة للأمل    محمد وهبي: سنواجه الأرجنتين بنفس الحماس لانتزاع كأس العالم    جيل زد في المغرب: بين الكرامة وخطر الهجرة    المؤتمر الاستثنائي الاتحادي العام 1975 مؤتمر متوهج عبر امتداد الزمن    في صلب النقاش المفتوح بخصوص الورقة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. شعار المؤتمر …. الاختيار الموفق    قطاع التعليم بين حركية الإصلاحات وثبات الأزمة    مرصد التربية الدامجة ينتقد "مغالطات وتناقضات" وزير التعليم حول تمدرس الأطفال في وضعية إعاقة    تهم اقليم الحسيمة ومناطق اخرى .. نشرة انذارية تحذر من امطار رعدية قوية    محمد سلطانة يتألق في إخراج مسرحية والو دي رخاوي    عاصمة البوغاز على موعد مع الدورة أل 25 من المهرجان الوطني للفيلم    أبناء الرماد    لوكورنو ينجو من تصويت بحجب الثقة    قطاع غزة يتسلم جثامين من إسرائيل    "جنان الجامع" يحترق في تارودانت    توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة    توقعات بإنتاج 310 آلاف طن من التفاح بجهة درعة-تافيلالت خلال 2025    "الزمن المنفلت: محاولة القبض على الجمال في عالم متحوّل"    مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    دراسة: مواقع التواصل الاجتماعي تفسد أدمغة الأطفال وتضر بشكل خاص بذاكرتهم ومفرداتهم اللغوية    مجموعة "سافران" الفرنسية تثمن بيئة الاستثمار في المغرب وتوسع أنشطتها بالنواصر    رفع التصنيف السيادي للمغرب محطة مفصلية للاقتصاد الوطني    نتانياهو: "المعركة لم تنته" في غزة والمنطقة    إجراءات ‬جديدة ‬لتسهيل ‬دخول ‬المغاربة ‬إلى ‬مصر ‬دون ‬تأشيرة    الرباط تحتفي بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وتجدد المطالب بإسقاط التطبيع    المغرب يصطدم بالأرجنتين في نهائي كأس العالم لأقل من 20 سنة    الأمم المتحدة.. المغرب يجدد تأكيد دعمه "الثابت والدائم" لسيادة الإمارات العربية المتحدة على جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى    فرحة عارمة بمدن المملكة بعد تأهل المنتخب الوطني لنهائي مونديال الشيلي    "إيزي جيت" تراهن على المغرب بإفتتاح أول قاعدة لها في إفريقيا بمطار مراكش عام 2026    هلال: الصحراء المغربية قطب للتنمية .. وركيزة للأمن والاستقرار في إفريقيا    كنز منسي للأدب المغربي.. المريني تكشف ديوانا مجهولا للمؤرخ الناصري    ريتشارد ديوك بوكان.. رجل ترامب في الرباط بين مكافأة الولاء وتحديات الدبلوماسية    قصص عالمية في مهرجان الدوحة    الدين بين دوغمائية الأولين وتحريفات التابعين ..    هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان ؟    414 مليار درهم قيمة 250 مشروعا صادقت عليها اللجنة الوطنية للاستثمار    ممارسة التمارين الرياضية الخفيفة بشكل يومي مفيدة لصحة القلب (دراسة)    "الصحة العالمية": الاضطرابات العصبية تتسبب في 11 مليون وفاة سنويا حول العالم    العِبرة من مِحن خير أمة..    حفظ الله غزة وأهلها    الأوقاف تعلن موضوع خطبة الجمعة    رواد مسجد أنس ابن مالك يستقبلون الامام الجديد، غير متناسين الامام السابق عبد الله المجريسي    الجالية المسلمة بمليلية تكرم الإمام عبد السلام أردوم تقديرا لمسيرته الدعوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد القادر الفاسي: أتمنى أن تتجاوز الدولة السياسة المنقوصة التي أضرت باللغة العربية
نشر في التجديد يوم 28 - 03 - 2013

افتتحت صبيحة الثلاثاء 26 مارس 2013 بالرباط، ندوة علمية دولية تكريما للعلامة عبد القادر الفاسي الفهري، بمشاركة أزيد من 70 أستاذا جامعيا ومهتما ومتخصصا في موضوع اللغة العربية وعلاقتها بالمعرّف والسيمياء والتخطيط والتربية، من المغرب ومصر والأردن وتونس وسلطنة عمان واليمن والسعودية والعراق والجزائر وفرنسا..
وخلال اليوم الأول من الندوة الدولية، ناقش عدد من المتدخلين السياسة اللغوية بالمغرب، وسبل حمايتها وتنميتها، واعتبر العلامة عبد القادر الفاسي الفهري، الخبير الدولي في اللسانيات، والأستاذ الباحث في اللسانيات العربية المقارنة، ورئيس جمعية اللسانيات بالمغرب، أن المغرب لم يعرف تاريخا لغويا قسريا، تدخلت فيه الدولة بالقهر والإرهاب لفرض لغة معينة على المواطنين، وقال في كلمة له خلال الجلسة الافتتاحية للندوة الدولية، «إن المغاربة تبنوا تلقائيا هوية ثلاثية التركيب، تجلت مرتكزاتها الأساسية الثلاث في الإسلام والعروبة والمزوغة.. ولحسن حظ المغاربة أنهم لم يسلكوا منذ البدء غير طريق الاختيار، ولم يوظفوا القسر أو القهر في سياستهم اللغوية، فظلوا بذلك متعددين وموحدين ومتماسكين في نفس الوقت»، وتمنى الفاسي الفهري أن «تتجاوز الدولة السياسة المنقوصة التي أضرت باللغة العربية بالمغرب»، يضيف المتحدث، «حين حرمتها من مؤسستها العتيدة التي حرر قانونها في لجنة التربية والتكوين منذ ماي 1999، وغيب تفعيله إلى اليوم». من جهة أخرى، اعتبر محمد الأمين الصبيحي، وزير الثقافة، أن هناك حاجة إلى «إمعان النظر في حال المشهد اللغوي بالمغرب»، ويرى الصبيحي أن المشهد اللغوي بالمغرب، «يتسم بتعددية لغوية وظيفية تعبر عن واقع تاريخي متجذر ببلادنا، أفرز مجتمعا مركبا وثقافة مغربية تتشكل من أصول وروافد مختلفة تكونت وانصهرت عبر التاريخ»، واستعرض وزير الثقافة مرتكزات الهوية المغربية التي نص عليها الدستور، وقال أن المشهد اللغوي الوطني «يدفع إلى التأمل العميق أمام الارتباك الهائل في استعمال اللغات، بما في ذلك من نتائج سلبية على مستوى الإدراك والفهم والتواصل والتنمية الحضارية للمغرب ككل»، وشدد الصبيحي أنه «أصبح من الضروري تبني سياسة لغوية جديدة، من خلال حصر مكوناتها وضمان وسائل تنفيذها والإجراءات المصاحبة لها».
عبد القادر الفاسي: أتمنى أن تتجاوز الدولة السياسة المنقوصة التي أضرت باللغة العربية
بدأ الفكر اللغوي البشري منذ عهود غابرة، وقد تميز العالم الهندي-الباكستاني بانيني منذ القرن الخامس قبل الميلاد، بإنتاج نحو ضخم ومتطور للغة السنسكريتية. وابتدع أفلاطون النظرة الطبيعانية للغة، ونظَّر أرسطو للبلاغة والشعرية، وطور «تاراكس» فن النحو في الإسكندرية. وبرز عند العرب الخليل بن أحمد الفراهيدي في القرن الثامن الميلادي، برؤيته الحسابية للمعجم العربي، والدائرية الهندسية للعروض وبحوره، وتميز سيبويه بكتابه الجامع والمرجعي في التقعيد النحوي الصوري للغة العربية، ثم الزجاجي بعلله، والفارابي وإخوان الصفا وابن جني والجرجاني في تمثلهم لعلاقة الفكر باللغة، أو أصل اللغة. وفي نفس الفترة أو بعدها، برز في الغرب الإسلامي علماء مغاربة وأندلسيون، برؤاهم الظاهرية أو المجتمعية أو الفكرية لأصل اللغة أو للنحو والمعاجم، أو تاريخ اللغة العربية، أمثال ابن مضاء وابن حزم وابن رشد وأبي علي القالي وابن خلدون.
وقد مثل بروز علوم اللسانيات في العصور الحديثة ثورة معرفية حقيقية حولت اللسانيات إلى علوم عابرة لكل التخصصات والمعارف، من الرياضيات والمعلوميات والذكاء الاصطناعي والبيولوجيا والعُصابيات، إلى البيئة والمجتمع والتواصل وعلم النفس والعلوم المعرفية والتاريخ والفلسفة والاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والتعليم. وتعد المجلات المتخصصة المحكمة في فروع اللسانيات اليوم (المكتوبة بالإنجليزية) بالمئات.
العلاقة بين السياسة واللغة والدولة
لقد تقوت العلاقة بين السياسة واللغة والدولة، حين أصبحت الأمم والأوطان تتشكل عبر اللغة، كما حدث في القومية الألمانية أو الإيطالية أو الإسبانية أو الفرنسية. وقِدْمًا ربط ابن حزم الأندلسي بين قوة اللغة وقوة الدولة حين قال «إنما يفيد لغة الأمة وعلومَها وأخبارَها قوةُ دولتها ونشاطُ أهلها، وإن اللغة يسقط أكثرها بسقوط أهلها ودخول غيرهم عليهم». وأكد فون هومبولت أن «اللغة هي النَفَس الروحي للأمة». وذهب ليوطي إلى أن اللغة إنما هي لهجة لها جيش وبحرية، ولا نقاش في أن الدولة طرف أساس في صُنْع القرار اللغوي. وقد حصل أن تدخلت الدولة بالقهر والإرهاب لفرض لغة معينة على المواطنين، كما فعلت الدولة القشتالية في إسبانيا، أو فعل القديس كريكوارو لفرض لهجة الأويل في فرنسا بعيد الثورة الفرنسية، على حساب الأوكسيتان أو اللهجات الأخرى التي لم تكن أقل انتشارا. ولم يعرف المغرب تاريخا لغويا قسريا مثل هذا، ولم يتم انتشار العربية في المغرب عبر قانون ليوطي أو روبسبيير القهري، بل إن المغاربة تبنوا تلقائيا هوية ثلاثية التركيب، تجلت متبلاتها الأساسية الثلاثة في الإسلام والعروبة والمزوغة، وغلب التمازج فيها طبقا لما أصبح يعرف بقانون لابونس (أو قانون «من الحب ما قتل»)، بمعنى أن دينامية اللغات المتساكنة في بيئة أليفة تتغلب فيها اللغة الأقوى، بل تبتلع اللغات الأضعف، حتى وإن تعرب من المغاربة من تعرب، وتمزغ منهم من تمزغ، وظلت المزوغة حيوية، بإرادة متكلميها. ولحسن حظ المغاربة أنهم لم يسلكوا منذ البدء غير طريق الاختيار، ولم يوظفوا القسر أو القهر في سياستهم اللغوية. فظلوا بذلك متعددين ومُوَحَّدين-متماسكين في نفس الوقت. واليوم نعيش فترة تراض وتعاقد جديدة ومغايرة، لوعينا أولا بفوائد التعدد المغني، لغويا وثقافيا وبيئيا، ولكون التنافس المشروع لم يعد بين ألسن الهوية الوطنية وحسب، بل عاد محتدا في المجرة اللغوية الكونية وفي النظام اللغوي العالمي، مما يضطر الدولة إلى التدخل لحماية لغاتها عبر القوانين والمؤسسات والتشريعات، كما تفعل كبرى وصغرى الدول، ولكون لغات حضارات كبرى مثل الألمانية والفرنسية والعربية أصبحت تفقد وظائفها التواصلية والعلمية والثقافية تدريجيا، لفائدة عولمة لغوية متوحشة، مما أصبح يهدد نموها وبقاءها.
العلاقة بين اللغة والثقافة والاقتصاد
توطدت اليوم العلاقة بين اللغة والاقتصاد، لأن اللغة أداة إنتاج وتبادل، وتنمية وصناعة، وهي عملة ورأسمال ورصيد، وقد أصبح التقييم الاقتصادي ضروريا لكل سياسة لغوية. فالحكومة الكندية قَيَّمَتْ مؤخرا سياسة نظامها اللغوي الترابي الثنائي للخدمات ب2.4 مليار دولار. وكلفة الترجمة في الاتحاد الأوروبي، بناء على اختيار التعدد اللغوي الرسمي، فاقت 40 % من ميزانية إدارة الاتحاد. وتُشَبَّهُ اللغة بالعُمْلة أو النقد في سيولتها، فكلما استعملت اللغة ارتفعت فوائدها وفوائد متكلميها، وضعفت كلفتها. ففوائد انتشار الإنجليزية لصالح الانجلوفونيين تقدر بملايير الدولارات. ولك أن تتخيل الفرق بين أرباح الروائي الذي يكتب رواية ناجحة بالإنجليزية، فيتحول إلى مثير بمجرد الانتهاء منها، وبين الروائي الذي يكتب بلهجة فاس أو مراكش، كم سيكون دخله من هذا.
واللغة، طبعا، ثقافة، لا لأن الهوية لغة، أو «أنا لغتي»، كما قال المرحوم درويش، أو لأن الثقافة خصوصية إثنية، بل لأن الثقافة أساسا سيمياء، في المأكل والمشرب والرقص والموسيقى، سواء كانت محيلة أو جهوية أو كونية، ولأن المعتقدات والسلوكات والقيم والمعارف ثقافية أيضا، ولأن هناك تفاعل ثقافات ومعارف وتداخلها عبر اللغات. فإن تاريخ البشرية، بالفعل، ليس تاريخ نشاط اقتصادي-اجتماعي وحسب، بل هو نشاط سيميائي كذلك. ولأن اللغة سيادة وكرامة واختلاف، من جهة، وهي تواصل مع الآخر عبر ثقافته ولغته، ولكن أيضا عبر لغة مشتركة، أو محررة من الهويات الضيقة. واللغة تربية وتنشئة وتنمية لقدرات المتعلم التي تبدأ باللغة، وعدم إتقان اللغة الأولى (أو لغة المنشأ) يؤدي إلى اضطرابات في التعلمات الموالية، اللغوية منها وغير اللغوية، وإلى اختلالات في التربية والتعليم.
وقد درجت الحضارات على تشجيع البحث العلمي في اللغة، وعملت الدول على دعم علماء اللغة بالمعنى الواسع. وقد لعبت الجمعيات العالمة دورا رائدا في نشر المعرفة اللسانية ذات الجودة. ومن أشهر الجمعيات اللسانية في العالم، أنشئت في فرنسا la Société de linguistique de Paris سنة 1864، وقد انتسب إليها أشهر اللغويين أمثال دي سوسير، أحد رواد العلم اللساني الحديث، وبريال ورينان ومييليت وبينفينيست وآخرون.. وكانت تَعْقد ندواتها وجلساتها وتنشر نشراتها ومؤلفاتها بدعم من الدولة الفرنسية، ومن أعضائها المتميزين. وأسست أكبر جمعية لسانية عالمية في أمريكا سنة 1924، ولها ما يزيد على 4000 عضو، وتنشر أشهر مجلة في اللسانيات، وتنظم أشهر المعاهد اللسانية الدولية الصيفية.
التشكل الفعلي للعلم اللساني الحديث في المغرب
وليس من الصدف أن يبرز التشكل الفعلي للعلم اللساني الحديث في المغرب (في آخر السبعينات) عبر أعضاء منتمين لما أصبح يعرف بجمعية اللسانيات بالمغرب. وقد عقد أول لقاء لساني-سيميائي وطني بالمغرب سنة 1976 بكلية الآداب بالرباط، ودشن هذا اللقاء انطلاق عدة ندوات فكرية وعلمية بهذه الكلية. وفي سنة 1981، نظمت ندوة دولية كبرى خصصت للبحث اللساني والسيميائي بنفس الكلية. وتم تنظيم معاهد لسانية دولية صيفية في كلية علوم التربية ابتداء من سنة 1982، وإلى حدود 1990. وأحدث تخصص اللسانيات في الدراسات العليا ابتداء من سنة 1975، وفي الإجازة بالكلية ابتداء من سنة 1980، وسلك تكوين المكونين سنة 1982، الخ. ونوقشت رسائل كثيرة في اللسانيات ابتداء من هذا التاريخ، وفي إطار وحدات البحث والتكوين فيما بعد. وقد وافقت الجامعة سنة 1980 على طلب إحداث شعبة خاصة باللسانيات، إلا أنها عدلت عن تفعيل هذا المشروع فيما بعد، وضيع المغرب، في هذا التردد، فرصة أن يكون البلد العربي الوحيد الذي يقيم شعبة أو مركزا خاصا بالدراسات والتطبيقات اللسانية العامة والمقارنة، على غرار ما يوجد في الجامعات المتقدمة في الغرب والشرق الأقصى. ومما يذكر في هذا الباب أن شعبة اللغة العربية بالكلية كانت سباقة إلى نشر ثقافة لسانية حديثة بمرجعيات متعددة، عربية، وفرنكفونية، وأنجلوفونية، وجرمانوفونية. وما فتئت جمعية اللسانيات بالمغرب تعمل في مستويات متعددة على نشر ثقافة لسانية واعية، وعلى تكوين الطلبة في المعاهد الصيفية، وتأطير الباحثين المتمكنين والشباب في ندوات وطنية ودولية وحلقات نقاشية طلائعية. وقد نظمت عدة ندوات دولية منها ندوة «تقدم اللسانيات في الأقطار العربية»سنة 1987، وندوة اللسانيات الإفريقية سنة 1988، وندوة اللسانيات التوليدية الدولية سنة 1997، وندوات وطنية محورية ابتداء من سنة 1996،ومعاهد لسانية، ابتداء من 1988، وعملت على نشر مجموعة من هذه الأعمال والوقائع رغم الإمكانات المادية المحدودة، لكونها غير ربحية ومستقلة الرأي، وغير مدعومة من الدولة إلى الآن. ونتمنى أن تعيد الحكومة النظر، في إطار الدستور الجديد، في تقييم الدور المتميز الذي تقوم به الجمعيات العالمة، في مجال الفكر والنظر والتطبيق والتجربة، وألا ينحصر دعمها في المؤسسات التقليدية.
للغة العربية مكانة خاصة في قلوب المغاربة علاوة على مكانة اللسان الأمازيغي
ويمثل المغرب اليوم قلعة قوية في المنطقة العربية، بخبرته الواسعة في اللسانيات وبمؤسساته اللغوية، بما فيها أكاديمية محمد السادس للغة العربية، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والمجلس الوطني للغات والثقافات. إلا أن هذه المؤسسات تحتاج إلى التفعيل الأمثل، من أجل خدمة الأبحاث والتوجهات اللغوية السديدة، التي تروم الجودة والنجاعة والديمقراطية والعدالة. وسيتميز المغرب، إن شاء الله، بالعدالة اللغوية الكافية، التي تنصف المواطن المغربي في لغاته وحقوقه اللغوية، وفي هويته التي ارتضاها ويرتضيها لنفسه، والتي تخدم طموحات هويته الجماعية التي يقرر في شأنها هو، لا فئة تذكي العداء والنزاع خدمة لمصالحها وتستأثر بالرأي، دون مراعاة تعددية المغرب وتنوعاته. ومازال اللسانيون المغاربة متطلعين إلى قيام شُعب للسانيات بالجامعة المغربية، مختصة في مختلف ضروب المعرفة اللسانية، التي تتوالد كل يوم، وتشعباتها وتطبيقاتها.
وللغة العربية مكانة خاصة في قلوب المغاربة، علاوة على مكانة اللسان الأمازيغي، وإننا نتمنى أن تتجاوز الدولة السياسة المنقوصة التي أضرت باللغة العربية في المغرب، حين حرمتها من مؤسستها العتيدة التي حرر قانونها في لجنة التربية والتكوين منذ ماي 1999، وغيب تفعيله إلى اليوم لأسباب لا يعلمها إلا الله.
وفقنا الله وإياكم لما فيه خير هذه الأمة ورقيها، وما يرفع كرامتها وشأنها، بما في ذلك كرامتها اللغوية، فلا خير فيمن تخلى عن كرامته من أجل الخبز والمال فقط، ولا خير فيمن تخلى عن وطنه الثقافي المحلي وبيئته الأولى، أو عَقَّ ذاكرته وشيوخه، حتى وإن كان مواطنا كونيا أو مجددا.
***
محمد الأمين الصبيحي: هناك ارتباك هائل في استعمال اللغات..
إن الموضوع الذي اختير لهذه الندوة العلمية هو اختيار موفق، يحثنا على إمعان النظر في حال المشهد اللغوي بالمغرب، فهو مشهد يتسم بالتعددية اللغوية والوظيفية تعبر عن واقع تاريخي متجذر ببلادنا، أفرز مجتمعا مركبا وثقافة مغربية تتشكل عن أصول وروافد مختلفة، تكونت وانصهرت عبر التاريخ، لتشكل فسيفساء ثقافية بالغة الغنى من الأعراق واللغات وأنماط التفكير والعيش والسلوك، والتي تميز «الشخصية المغربية» في النهاية، وتجعلها منفتحة على كل أشكال التعبيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي ما فتئت تغتنى وتتطور باستمرار.
وفي هذا السياق أكد الدستور في تصديره على الهوية المركبة للمغرب قائلا أن «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية».
إن التعددية الثقافية واللغوية التي تأتي من هذا الاعتراف بالتنوع الثقافي، هي جزء من النهج الديمقراطي الذي يسعى المغرب إلى بنائه، والذي يعكس مظاهر التعدد السياسي والثقافي الذي تبناها الدستور المغربي، بقوله أن «المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة».
في هذا الصدد، يمكن القول أن المغرب عرف عددا من اللغات واللهجات التي استعملها سكانه المغاربة منذ القديم، وشكلت أدوات لتصوراتهم وممارساتهم وأحلامهم وطبعت ولاتزال تاريخهم الثقافي الطويل. هذا المشهد اللغوي الوطني، الغني والمتعدد، بقدر ما يبعث على التفاؤل بمستقبل واعد بالآمال والتطلعات إلى بناء مجتمع معرفي وثقافي متسامح ومنفتح؛ يدفع إلى التأمل العميق أمام الارتباك الهائل في استعمال هذه اللغات بما في ذلك من نتائج سلبية على مستوى الإدراك والفهم والتواصل والتنمية الحضارية للمغرب ككل. لذا أصبح من الضروري تبني سياسة لغوية جديدة، من خلال حصر مكوناتها وضمان وسائل تنفيذها والإجراءات المصاحبة لها.
المكونات اللغوية
تعتبر العربية تبعا للدستور، لغة رسمية للدولة وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها وتنمية استعمالها، وتعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء. كما تلتزم الدولة بالمحافظة على التعبير الحساني باعتباره أحد المكونات اللغوية والثقافية الحاملة للهوية الوطنية، وتسهر الدولة كذلك على «إنسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا، باعتبارها وسائل للتواصل والانخراط في مجتمع المعرفة والانفتاح على مختلف الثقافات.
وسائل التنفيذ
يتطلب تنفيذ هذه التوجيهات سن سياسة لغوية عمومية متوافق بشأنها، تتم برمجتها وتنفيذها تدريجيا لاسيما بالنسبة للغة الأمازيغية التي ينص الدستور على أن قانونا تنظيميا سيصدر لتحديد مراحل إدماجها في مجالات التعليم والإعلام والإدارة والحياة العامة ذات الأولوية، كما سيتم إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية، مهمته على وجه الخصوص، حماية وتنمية اللغتين العربية والأمازيغية ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية، باعتبارها تراثا أصيلا وإبداعا معاصرا، ويضم كل المؤسسات المعنية بهذه المجالات، وهكذا ستعمل الدولة على معالجة إشكالية اللغة كمنظومة ترتبط فيها هذه اللغة بالتعليم والاقتصاد والإعلام والثقافة والمجتمع.. في تصور متكامل يعمل على تطوير استعمال اللغتين الرسميتين واللغات الأجنبية إلى جانب اللهجات المغربية، وهو ما يتطلب تشجيع البحث اللغوي أو اللسانيات وخلق وسائل ملائمة للتنفيذ والتتبع والتقييم.
الإجراءات المصاحبة
وحتى يتم تنفيذ السياسة اللغوية المقررة دستوريا، علينا تسريع إرساء تنفيذ الخطة الوطنية لمحو الأمية، ودعم إنشاء نظام فعال للترجمة وتوظيف وسائل الإعلام، وتكنولوجيات المعلومات، وهذا من شأنه أن يقوم بتحسين قدرات المواطنين على التواصل عبر تمكينهم من الحق في اللغة. والأمل أخيرا في إرساء نظام لغوي متكامل وعقلاني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.