عندما نرفع الشأن التعليمي الى مقام الأولوية الوطنية الثانية بعد الوحدة الترابية ، فالأمر لا يتعلق إطلاقا باستعارة بلاغية تتوخى الاستهلاك الاعلامي أو التعبئة المجتمعية من أجل النهوض بالمدرسة المغربية، ذلك أن الأولويات الاستراتيجية ضمن السياسات العمومية لأي دولة غالبا ما تندرج ضمن رهانات مصيرية حاسمة بين بقاء الدولة أو زوالها ، بين ارتقائها أو اندحارها. وليست الوحدة الترابية لبلادنا أولوية وطنية إلا لأننا في حالة حرب فاصلة مع خصومنا، وهي حرب يبدو أنها طويلة الأمد، ولا يمنع فيها نفاذ قرار وقف إطلاق النار من اعتماد اليقظة التامة، ومواصلة التعبئة الوطنية الشاملة والمستدامة. كذلك الشأن بالنسبة للأولوية الوطنية الثانية، حيث نولي لقضية التربية والتكوين مكانة الأسبقية بعد الوحدة الترابية، لأننا فعلا في حالة حرب مفتوحة ضد الجهل والأمية وضد التخلف والظلامية. والسؤال الذي نطرحه اليوم على أنفسنا والذي يستفزنا في عقولنا ومشاعرنا هو هل نحن معبأون فعلا لخوض هذه المعركة المصيرية، أم أننا نخوض هذه المعركة بروح انهزامية مثل جيش يمضي الى حرب حقيقية بسيوف خشبية؟. هناك اليوم شعور عام بالعجز والإحباط ، والتقارير الدولية التي تصنفنا في مراتب مخجلة لا تبعث فينا إلا مزيدا من الخزي والعار. في هذا السياق وتحت ضغط الأزمة التعليمية يتضخم خطاب الاصلاح، فلا ندري هل فعلا لدينا استراتيجية حقيقية للإصلاح ومشكلتنا أننا نتعثر ونفشل في انجازها، أم أننا نشكو أصلا من خصاص مهول في الأفكار الاصلاحية ونعوضه بمتوالية لا نهائية من الإجراءات التقنية التي تحولت مع الوقت الى نوع من الإصلاحوية المزمنة، وأسطع مثال على ذلك أن مجرد اتخاذ اجراءات تدبيرية لتعميم التمدرس وتوسيع العرض التربوي، أصبح يندرج أحيانا تحت خانة الإصلاح، وضمن هذا الهوس الوطني تتحول المهام الوظيفية للسلطة التربوية الى مشاريع إصلاحية، مما يجعل الكل ينادي بالإصلاح والكل يفتي في الاصلاح والبعض يتطوع من أجل إصلاح الاصلاح. أعتقد أننا في مجال التربية والتكوين نتوفر على أفكار جيدة وفرضيات اشتغال متينة، لكنها في الغالب الأعم إما تتلاشى في مسارات التردد والارتجال أو تضيع في ترتيبات التوافق التي تعيق تحولها الى سياسة عمومية ناجعة، مما يجعل المنظومة التربوية الوطنية تتحول مع مرور الزمن الى آلة محكمة الاغلاق ، ثقيلة الكلفة، وعديمة الفعالية. وعندما نقر بوجود أفكار أولية، يمكن أن تشكل منطلقا لاستراتيجية الاصلاح التربوي في بلادنا، فإننا في الواقع نشير الى النواة الصلبة لوثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، التي شكلت في نهاية تسعينيات القرن الماضي أول مشروع توافقي إرادي وطموح لتجديد المنظومة التربوية الوطنية، حظي بدعم قوي من قبل أعلى سلطة في الدولة، وتم تكريسه في ميثاق وطني مرجعي وموجه للسياسة التعليمية بالمغرب. الجدير بالانتباه هو أن هذا الميثاق في مجمل توجهاته الاصلاحية تميز بنفس تقدمي حداثي واضح استمده من السياق السوسيوسياسي العام الذي مهد لتنصيب حكومة التناوب التوافقي برئاسة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، وهو نفس السياق الذي أتاح إنتاج عدد من التقارير والمواثيق الوطنية المؤسسة للعهد الجديد أذكر في مقدمتها: * الميثاق الوطني لإعداد التراب الوطني الذي صدر سنة 2001 إثر حوار وطني شامل بمشاركة المؤسسات العمومية والمنتخبة والأطر الجامعية وفعاليات المجتمع المدني. وقد شكل هذا الميثاق إطارا مرجعيا رفيعا لتدبير ترابي محكم وخلاق، يجمع بين مؤهلات المجالات المحلية، في غناها وتنوعها، وما يمليه واجب التضامن الوطني بين مختلف الفئات الاجتماعية والوحدات الترابية. * تقرير هيأة الإنصاف والمصالحة سنة 2005 بخصوص التحريات والتحقيقات الميدانية لكشف ماضي انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب من 1956 إلى 1999 ، ورد الاعتبار للضحايا وجبر الأضرار وصيانة الذاكرة الوطنية وتحقيق المصالحة المجتمعية الشاملة. * تقرير الخمسينية للتنمية البشرية في 2006 الذي يشخص العجز البنيوي المرتبط بالتنمية البشرية بالمغرب، ويقدم توصيات من شأنها أن تمكن المغرب من ربح رهانات التنمية في أفق 2025 * الميثاق الوطني للبيئة والتنمية المستدامة ستة 2010 والذي حدد التوجهات الكبرى للسياسات العمومية في مجال المحافظة على البيئة، وضمان تنمية مستدامة في نطاق مختلف الاستراتيجيات القطاعية وبرامج عمل الدولة، وفق نظام شامل للحكامة البيئية يرتكز على مبادئ التضامن والوقاية والاحتياط والمسؤولية. في هذا السياق الدينامي المتجدد إذن جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين كوثسقة مرجعية أساسية تشكل منعطفا نوعيا في مقاربة وظيفة المدرسة المغربية، وتتضمن هندسة أولية لنظام تعليمي يحاول أن يتلاءم مع تطورات محيطه الوطني والدولي.