ثمة أكثر من دافع يعيد الآن فكرة «الالتزام» لدى الكتاب المغاربة، كما وردت لدى جان بول سارتر، إلى الواجهة؛ أي تلك الفكرة التي كانت قد علقت بمزاج الحرب العالمية الثانية، وتحولت تدريجيا، بفعل إلحاح صاحب «الوجود والعدم»، إلى زيت لا مناص منه لتحريك ماكينة الروح المعنوية لمقاومة ميليشيا النازيين في فرنسا، خاصة أنها أكدت من حيث المبدأ أن «كل عمل يقترفه العدو أمر يعنينا جميعا»، وأن «اللامبالاة من طرف شخص واحد تفضي إلى موت الآخرين». فهل بإمكان الكتاب المغاربة استعادة هذه الروح التي ساهم سارتر في صنعها إلى جانب ألبير كامو؟ وجاهة هذا السؤال تأتي من جو الاختناق الذي أصبح يؤطر وجودنا الفكري والثقافي، حتى لنكاد نجتر الأسئلة نفسها التي صيغت من أجلنا قبل أكثر من عقدين، إذ تعاظم الشك في إمكان أن يغير الأدب الحياة. ذلك أن مفهوم الالتزام كان يتحدد من خلال أن يتحول الكاتب إلى «مواقف» أكثر منه إلى فلسفة ونظريات. وتبعا لذلك، هل يمكن أن نتحدث الآن عن الكاتب الموقف، وهل فعلا هناك مناخ ثقافي يقتضي إحداث ذلك الزلزال على مستوى تمثل الكاتب المغربي لأدواره، ومساهمته في مقاومة الدمار الشامل الذي يهدد وجوده، هنا والآن؟ نعم، ثمة متعة كبيرة في قراءة الكتب والروايات والنظريات الفلسفية، وفي الذهاب إلى المسرح أو السينما، لكن الكلمات التي نجدها في الكتب هي ألغام صغيرة موجهة لتفجر الوعي والذاكرة والتصرفات، وهذا ما آمن به سارتر الذي ميز، مع ذلك، بين الشعر والنثر. وهو تمييز يرى أن «الشعراء قوم، يترفعون باللغة على أن تكون نفعية. وحيث أن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها كأداة، فليس لنا إذن أن نتصور أن هدف الشعراء هو استطلاع الحقائق أو عرضها (...) فليس الشعراء بمتكلمين ولا بصامتين، بل لهم شأن آخر». إن الاختلاف بين الشعر والنثر ينهض على علاقة كل من الشاعر والناثر باللغة، فالشعراء يخدمون اللغة، بينما الناثرون يستخدمونها. وإذا كان الناثر مسؤولا عن مجتمعه، وعصره وعن الأحداث التى يعاصرها، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، وإذا كان مندرجاً فى العالم , فإننا- على حد قول سارتر» -لا نستطيع أن نأخذ على الشاعر أنه لم يشترك كشاعر فى معركة اجتماعية». ويرى سارتر أيضا أن الرسم والنحت والموسيقى لا يمكن أن تكون ملتزمة «أو بالأحرى لا تفرض على هذه الفنون أن تكون على قدم المساواة مع الأدب فى الالتزام». وبهذا المعنى، فإن الالتزام ينبغي أن ينكب على اختيار لغة المقاومة، وهي لغة الناثر التي لا تلتفت إلى ذاتها، ولا تجبر القارئ على الالتفات إليها باستمرار. كما أن الالتزام يقتضي، هنا والآن، تحديد العدو.. والانخراط الكلي والجامع والمشترك في مواجهته. فمن هو هذا العدو المفترض: هل هي الكولونيالية الجديدة؟ هل هي قوى التقليد والرجعية؟ هل هو الاستبداد السياسي والاقتصادي؟ هل هو التخلف والأمية والفقر؟ هل هو النهب والريع والفساد؟ ومن هم هؤلاء الكتاب المفترضون الذين سيلتحقون بالمقاومة؟ وهل هناك فعلا شعور بضرورة المواجهة؟ وهل هناك استعداد فعلي لأداء ثمن هذه المواجهة؟