ترى، ما الذي يدفعُ مفكراً من قيمة وعيار عبد الله العروي إلى ترجمة نص مسرحي لكاتب فرنسي شبه مغمور، تدورُ أحداثه سنة 1519 في مدينة «بلة» الواقعة في إقليم قشتالة الاسباني . سؤالٌ يجيبُ عنه صاحبُ «الايديلوجية العربية المعاصرة» في معرض تقديمه لمسرحية «شيخ الجماعة» لهنري دي مونترلان (المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، 2013)، مشيراً إلى كونه لم يُعره، غداة تماسه الأول مع هذا النص سنة 1966، كثيرَ اهتمام للأسلوب أو أدنى اعتبار للتقنية. يقول في هذا الصدد: «فالأسلوبُ كلاسيكي، تقليدي، خطابي، منمَّق، مضخّم حدّ التشدُّق. مليءٌ بالمفردات والتعابير المستوحاة من كتّاب القرن السابع عشر ذوي النزعة الدينية المتشدِّدة. أمّا التقنية فتقليدية هي الأخرى، بعيدةٌ كلّ البعد عن التجارب المعاصرة التي أتذوّقها.». أمّا السببُ الموضوعي الذي حدا به لنقل هذا العمل من الفرنسية إلى العربية، فهو مبطنٌ بالتأكيد شأن كل الكتابات الموازية لمشروعه المنصبّ على تفكيك فلسفة التاريخ؛ إذ يتفرع - حسب مظان المقدمة ، إلى شقَّين أساسيين: شقٌ سياسي، ينتمي إلى مرحلة تشكُّل الوعي، ولهُ ارتباطٌ بالسنوات التي تلت استقلال المغرب، لأنّ ما يورده بطل المسرحية « لفارو» عن انتشار مظاهر اللؤم والخسّة في إسبانيا بعد انتهاء «الحرب المقدسة»، كان يجد صدى «»مراوياً» في نفس عبد الله العروي وهو يشاهدُ ما يجري في «مغرب الستينيات الذي مرّ بسرعة من محنة الاستعمار إلى نشوة الاستقلال، ثم عاد إلى حياته العادية المليئة بالمساومات والتنازلات الدنيئة». وشقٌ عاطفي، نوستالجي - إذا صح التوصيف - يستبطنُ وعي المترجم تجاه الأندلس وتاريخها، بخاصة وأنّ هناك ارتباطاً وجدانياً مستمراً بين العربي وإسبانيا، يدفعُ دائماً إلى استظهار مكنونات نفسية إنسان تلك الأرض وسلوكاته، وإثر الدين والمجتمع والسياسة في واقعه المعيش. إذ توافقَ سقوط غرناطة مع اكتشاف أمريكا، تلك القارة التي اندلعت فيها حرب مقدسة جديدة. «الحرب المقدسة» هذه الفكرة التي حكمت تصوُّر الفرسان الاسبان في حروبهم ضد المسلمين، وغيرهم؛ لذلك كان الاسبان يذهبون إلى أمريكا ليتخلّصوا من الفقر والبطالة، وليواصلوا خدمة أهداف البابا والملك. هذه كانت عقدة «ألفارو» شيخ الجماعة رئيس ما تبقّى من فرسان القديس ياغو، والذي رفض الذهاب إلى أمريكا، لأنّه لا يعبدُ الله ولا المال، بل هو مؤمنٌ بقداسة الحرب، ولم يجد في الذهاب إلى أمريكا »قداسة». إنّ «ألفارو» هذا لا يمثّل المسيحي المتزّمت بقدر ما يكشفُ عن تأثُّر المسيحية في إسبانيا بالذات، بطول مساكنتها مع العقيدة الإسلامية، وأنّ نفسيته في العمق عربية إسلامية تحت غطاء مسيحي شفّاف. لعل السؤال العميق الذي يستخلص عند قراءة مسرحية «شيخ الجماعة»، هو الآتي: ما الذي فعله الاسبان المسيحيون ولم يفعله المسلمون في تعامل كل منهما مع فكرة »الحرب المقدسة«. وبلا ريب، هو السؤال عينه الذي تجيب عنه ترجمتان أخريان لهما الهاجس «التاريخاني» نفسه، عكف عبد الله العروي على إنجازهما مؤخراً لكل من كتاب »دين الفطرة» لجان جاك روسو، وكتاب «تأمُّلات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط» لمونتسكيو. وفي تقاطع بياضات هذه الترجمات مجتمعة، بما تنطوي عليه من لمحاتٍ فكرية خاطفة أشبه بالومضات ومن ظواهر قابلة للملاحظة، الكثيرُ من المغازي والعِبَر التي يمكن أن يلتقطها كل من يهتمّ بتصاريف التاريخ وتدابير السياسة وإشكاليات المسألة الدينية، ويُعنى بتصحيح ما قد يشوب هذه المجالات من مغالطات وانزلاقات وتوظيفات مغرضة. مسرحية »شيخ الجماعة» لهنري دي مونترلان درسٌ آخر من «ديوان السياسة»، يقدِّمهُ عبد الله العروي لكل المشتغلين في الشأن العام، علّهم يخرجون من الجبّة الضيقة لمجالاتهم، ويتعلَّمون فضيلة التأويل انطلاقاً من نصوص أخرى ذات طبيعة مجازية وأدبية خالصة، فيحفرون وينقِّبون خلف مضامينها الكامنة، ويعيدون صياغة وقائعها وفقاً لمعادلها في الواقع كما لو أنهم يتبعون مقولة نيتشه الخالدة: «لا وجودَ لحقائق، بل لتأويلاتٍ فقط».