يوم 30 أكتوبر الماضي، وزع في المكتبات والأكشاك الفرنسية كتاب جديد لا يخلو موضوعه ومضامينه من إثارة وأهمية على أكثر من صعيد. المؤلف يحمل عنوان «من الجهاد إلى صناديق الاقتراع: المسار المتميز لعبد الحكيم بلحاج» ?دار النشر ستوك?، وهو من توقيع الصحفية الفرنسية إيزابيل موندو، مراسلة «لوموند» في المغرب العربي والمتخصصة في شؤون المنطقة. الليبي عبد الحكيم بلحاج كان رفيق درب زعيم القاعدة أسامة بن لادن في نهاية تسعينيات القرن الماضي، والمسؤول الأول عن «الجبهة الإسلامية الليبية المقاتلة». اعتقلته المخابرات الأمريكية في ماليزيا سنة 2004 وسلمته لسلطات القذافي بمعية زوجته الحامل المغربية فاطمة بوشار، وقد أصدرت ليبيا حكما بالإعدام في حقه. في عام 2011، سيعود الجهادي إلى واجهة الأحداث في بلده، مشاركا في الثورة التي ستمنحه قيادة لجنة طرابلس العسكرية بعد تحرير العاصمة. لكنه سينزع البذلة العسكرية ويستقيل من هذه المهمة للانخراط في العمل السياسي تحت يافطة حزب «الوطن» الذي سيؤسسه في مواجهة «إخوانه اللدودين» المنتمين للفرع الليبي لحركة الإخوان المسلمين. وإذا كانت رياح رغبة الناخبين قد هبت في الاتجاه المعاكس لبلحاج، فإن المؤلف يرصد مساره وتحوله، ومنه اقتطفنا فقرات بعينها لتقديمها مترجمة للقارئ. في ضيافة بن لادن بقندهار كان عبد الحكيم بلحاج موجودا لا يزال بإسطنبول، سنة 1998، حين وصلته رسالة أسامة بن لادن. وفي الحقبة نفسها، خلال شهر مارس، كانت ليبيا أول دولة تصدر أمر دوليا باعتقال أسامة بن لادن، وذلك قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها، علما أن العديد من أجهزة الاستخبارات لم تكن حينها قد فطنت إلى حجم التهديد الشمولي الذي يمثله. ولم يحدث هذا، بدون شك، بمحض الصدفة. أكد أمير «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» توصله بالإرسالية، لكنه لن يسرع في الاستجابة للدعوة. ذلك أن الليبيين اعتبروا، منذ البدء، أن المشروع (الجهاد الشامل) «غير متطابق» مع أهدافهم. وهو ما سيؤدي لاحقا، وبسرعة، إلى القطيعة بين الداعين إلى الجهاد الشامل ومعتنقي الجهاد الوطني. وستحصل المواجهة بين الطرفين سنتين بعدها، في مطلع عام 2000، داخل بيت بن لادن بقندهار، المدينة الكبيرة الواقعة في جنوبأفغانستان. ستدوم المواجهة ستا وسبعين ساعة دون انقطاع، باستثناء سويعات قليلة للنوم أو لتناول بعض الوجبات المتواضعة. أجل، وهو في السودان، كان بن لادن قد فرض على أتباعه نمط حياة متقشف تحظر، في إطاره، الثلاجات والمكيفات الهوائية. «كان الأمر جليا حتى من خلال نوع لباسه»، يحكي عبد الحكيم بلحاج. أما مقر قيادة زعيم القاعدة، فكان عبارة عن قرية تضم بيوتا أفغانية صغيرة مبنية بالطين المجفف وملتصقة ببعضها البعض، مقر كان يقطنه بمعية قيادة المنظمة. وهناك، كان يستقبل الضيوف في غرفتين مؤثثين فقط بأفرشة موضوعة على الأرض مباشرة وواقعتين جنب مسجد متواضع. حين وصول عبد الحكيم بلحاج، ومعه خالد الشريف، الرجل الثاني في «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة»، تم استقباله بفتور من طرف مضيفه الذي عاتبه على التأخر في الحضور. وضمت الجلسة أيضا كلا من المصري أيمن الظواهري، الرجل الثاني لاحقا في التنظيم الجهادي، وأبو خباب المصري (واسمه الحقيقي مدحت مرسي السيد عمر)، وهو مصري أيضا كان مسؤولا عن برنامج تجريبي للأسلحة الكيماوية في معسكر درونتا وقتل سنة 2008 في هجوم صاروخي أمريكي، وأبو ياسر المصري (أحمد رفاعي طه)، القائد العسكري للجماعة الإسلامية المصرية ومهندس مجزرة الأقصر سنة 1997 بشراكة مع الظواهري الذي كان الليبيان قد التقياه في طهران سابقا، بالإضافة إلى أبو حفص الموريتاني (محفوظ ولد وليد)، منظر التنظيم الديني الذي سيعود إلى بلده (موريتانيا) في أبريل 2010 بعد قضاء عشر سنوات من الإقامة الجبرية في إيران. وإذا كان كل هؤلاء أعضاء في مجلس شورى القاعدة، فإن النقاش خلال اللقاء كان حادا رغم نبرة المجاملة التي طغت عليه. لقد كان كل طرف يجهد نفسه قصد إقناع الطرف الثاني. حث أسامة بن لادن عبد الحكيم بلحاج ومحاربيه على الالتحاق به. ورغم أن أمير «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» كان يجهل ما يفكر فيه زعيم القاعدة، فإنه أصر على وضع مسافة بينه وبين «الجبهة» التي أعلن محاوره عن نيته في تأسيسها. سأله: «لماذا تريد شن الحرب على اليهود والنصارى؟ تريد تصفيتهم جميعا من على وجه البسيطة؟ حين أسس النبي المدينة، فعل ذلك بمعية يهود ومسيحيين. وحين تعرض أنصاره إلى التعذيب في مكة، أرسلهم إلى ملك الحبشة المسيحي...». «أنت تسجل أشرطة فيديو تدعو ضمنها المسلمين إلى الهجرة (مغادرة البلدان الكافرة للالتحاق ببلدان إسلامية)، أضاف الليبي، لكن ما المآل الذي تخصصه لكل أولئك الذين تركوا كل شيء، باعوا كل شيء للذهاب إلى تلك البلدان؟ مشروعنا نحن هو التخلص من الطغاة مثل القذافي.» (...) رد أسامة بن لادن باحتقار: «أنتم تتوجهون لذيل الثعبان بدل التوجه إلى ضرب رأسه. القذافي، مبارك... كل هذه الأنظمة مجرد كراكيز يساندهم الغربيون وحلفاؤهم...» وواصل بن لادن قائلا وهو ينظر إلى الظواهري: «أنظر. لقد خسر المعركة ضد مبارك والتحق بنا الآن. أنت أيضا ستلتحق بنا حين ستجد نفسك في عنق الزجاجة». واصل زعيم القاعدة بعدها حديثه مسهبا في الكلام حول الإسلام و»الحملات الصليبية». ولم تصدر عنه، طوال حديثة، أدنى علامة غضب، وهذه ميزة كانت تضفي عليه مزيدا من الكاريزمية من زاوية نظر محاوريه. (...) رفض عبد الحكيم بلحاج الانصياع خلف مقولات بن لادن، فأجابه: «هدفك ليس هدفا دينيا. إذا صرحت: «أنا ضد اليهود لأنهم يقتلون الفلسطينيين وضد الولاياتالمتحدة لأنها تساند الدولة العبرية»، فهذا خطاب سياسي يحظى بالتجانس. أما حين تؤسس جبهتك باسم الإسلام، فهذا خطأ. إن الأمرين مختلفان جدا، علما أنه لا يحق اللجوء إلى شعارات دينية لإدارة حرب سياسية». أمام تعنت أسامة بن لادن، وبسبب نضوب براهينه، سيلجأ زعيم «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» إلى إثارة ما اعتبره عائقا، ذلك أنه لاحظ عدم حضور أي أفغاني في الاجتماع، شارحا أن مخططا من هذا القبيل سيضعهم في ورطة بينما بلادهم تعاني من حرب أهلية. «ستجلب المشاكل للذين يستضيفونك، وتجرهم إلى حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. لقد عقدت بيعة مع الملا عمر الذي طلب منك عدم الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام، وها أنت على وشك القيام بما هو أسوأ عن طريق الاستعداد للإعلان عن الحرب! ما الذي تريد فعله بهذا البلد؟» طوال اللقاء، لم ينبس أيمن الظواهري ببنت شفة، لكن حفص الموريتاني سيتخلص من تحفظه ويأخذ الكلمة للتصريح بموافقته على هذه الملاحظة الأخيرة: «لم يطلب منا هذا فحسب، بل أخبرنا به كتابة...» ولاحقا، سيعلن الموريتاني عن عدم اتفاقه المطلق مع مشروع 11 شتنبر 2001. مرت الساعات دون أن يتوصل الحاضرون إلى اتفاق. أنصار بن لادن كانوا متفقين معه، لكن الليبيين الثلاثة سيغادرون دون أن يتغير موقفهم قيد أنملة. لقد تم الحفاظ على علاقات ودية بين الطرفين رغم القطيعة بين مواقفهما، بين موقف المجاهدين الليبيين المدافعين عن جهاد وطني محدود زمنيا وجغرافيا، وبين بن لادن الداعي إلى الجهاد الشامل ضد الأنظمة المرتدة و»الكفار». يقول عبد الحكيم بلحاج في هذا السياق: «رغم خلافه معنا، كان بن لادن يسعى إلى عدم فقداننا». ?إذا كانت هذه المقابلة هي الأخيرة مع بن لادن، فإن بلحاج، المطارد حينها مثله مثل جميع الجهاديين المستقرين في المناطق القبلية بباكستان، سيعتقل سنة 2004 في ماليزيا رفقة زوجته من طرف وكالة الاستخبارات الأمريكية ويسلم للقذافي. وعقب الحكم عليه بالإعدام وتعرضه للتعذيب، سيطلق سراحه في 2010. سنة بعدها، سيلتحق بالثورة ليلعب في رحمها دورا بارزا جعله يصبح قائد المجلس العسكري في طرابلس إبان تحرير العاصمة في غشت 2011.? الاجتماع مع السناتور جون ماكين ?خلال ربيع 2011? سيستقبل بلحاج شخصيا الأمريكي جون ماكين في مكتبه المجاور لفندق راديسون بلو، المكتب السابق لسيف الإسلام القذافي الذي اتخذه مقرا له. لقد حل السيناتور الجمهوري ممثل ولاية أريزونا في البلد للاطلاع مباشرة على الأوضاع في ليبيا عقب تحرير طرابلس، وهو من طلب مقابلة قائد مجلس العاصمة العسكري. كان اللقاء بين الرجلين وديا إلى حد ما، لكن المسؤول العسكري سيتخلص من لباقته عقب الإنصات لمحاوره، قائلا: «- لقد تعرضت إلى ظلم كبير من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية.» «- إنني متأسف بالنسبة لك، وأقدم اعتذاري لزوجتك»، أجاب جون ماكين. سيطلب بلحاج من المترجم تكرير هذه العبارة مرتين ليتأكد بأنه سمع جيدا مضمونها: فعلا، الأمريكي قدم اعتذارا لزوجته، أما فيما يخصه، فهو «متأسف» فقط. ?...? الحملة الانتخابية في طرابلس ?مع دنو موعد أول انتخابات منظمة بعد سقوط نظام القذافي، سيقرر عبد الحكيم بلحاج التخلي عن مسؤولية قيادة اللجنة العسكرية لطرابلس وتخصيص كل وقته للظفر بزعامة حزب «الوطن» الذي أنشأه.? في هذا السياق المتوتر، كانت ليبيا تتقدم بخطى جد متواضعة. لقد تم الإعلان عن تنظيم أول انتخابات حرة منذ 42 سنة، وذلك خلال شهر يونيو. وبالنسبة لعبد الحكيم بلحاج، الذي يبتغي لعب دور في بلده المحرر من أغلال الديكتاتورية، فإن المرحلة العسكرية تشرف على الانتهاء. «يجب على الثوار الاندماج في المؤسسات، وأنا منخرط في هذا المجهود»، يصرح بلحاج دفاعا عن موقفه. في مارس، أعلن الإخوان المسلمون، المتحالفون مع تنظيمات إسلامية أخرى، عن تأسيس «حزب العدالة والبناء»، «حزب وطني مدني ذو مرجعية إسلامية» وفق ما حرص على توضيحه الناطق الرسمي باسم الجماعة الأمين بلحاج، المدرس السابق الذي كان قد سعى للوساطة خلال مفاوضات الحساسة ?حول تدبير الصراع? بين المجلس الوطني الانتقالي لطرابلس وعبد الحكيم الذي يحمل نفس اسمه العائلي. شجعت نجاحات زملائهم في تونس ومصر إخوان ليبيا المسلمين، فأصبحوا يؤمنون إيمان العجائز في حظوظهم بالظفر انتخابيا، علما أن حركتهم ترتكز على المفهوم الذي سبق الاتفاق حوله قبل شهور خلال اجتماع إسطنبول الذي جمع العديد من مكونات الحركة الإسلامية العالمية، وكما كان منتظرا، فقدماء الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة ليس مرحبا بهم في الحركة. مستسلما للأمر الواقع هذا، سيدخل عبد الحكيم بلحاج غمار المنافسة الانتخابية متأخرا، ويقدم استقالته من قيادة اللجنة العسكرية لطرابلس في ماي. معوضا بذلته العسكرية بالزي الغربي، سيقود الحملة على رأس حزبه، «حزب الوطن»، الذي تحيل تسميته مباشرة على اجتماع إسطنبول. ?...? «الانخراط في العمل السياسي ليس منافيا للشريعة، يؤكد عبد الحكيم بلحاج، رغم عدم اتفاق البعض مع هذا الطرح. إننا ننخرط من أجل بناء الدولة». هكذا إذن، ف»الوطن»، وفق ما يعتقده الجهادي السابق، ليس حزبا دينيا: «نقارب الإسلام كمكون أساسي لهوية البلاد. الإسلام نظام للحكامة يضمن حقوق الإنسان ويحترم الديانات الأخرى والجيران وأمن الناس والاستقرار. إنه لا يتلخص في بضع عقوبات أو جزاءات موجودة أصلا في القانون المدني»، يضيف. ومن أجل تدعيم تصريحاته، سيقدم بلحاج امرأة غير محجبة ضمن لائحته ببنغازي: «كثيرون يزعمون أن المرأة لا تتوفر على حقوق في الإسلام رغم أنه انتشر في حقبة كانت البنات تتعرضن فيها للوأد. لقد أعاد الإسلام للمرأة كرامتها. أم سلمة، زوجة الرسول وأمنا جميعا، كانت تضطلع بدور سياسي لديه وكان لها رأي صائب. لما ذهب النبي قصد أداء العمرة، وعقب صلح الحديبية القاضي بأداء المسلمين في السنة القادمة لمناسك العمرة، لم يوافقه أصحابه الأمر، فاستشار أم سلمة التي قالت له: «يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك»، وهو ما فعله.» ?...? لم تستغرق الحملة الانتخابية طويلا. أما بالنسبة لحزب «الوطن»، فإنها كانت مرتجلة: بضعة تجمعات هنا وهناك، بضعة ملصقات، تنظيم مبهم وفريق عمل غير متجانس... وخلالها، عجز الجهادي السابق والقائد العسكري للثورة عن استكمال تحوله إلى رجل سياسة. فرغم اتفاق إسطنبول القاضي بتكتل الإسلاميين في إطار هيئة سياسية وحيدة، فإن عبد الحكيم بلحاج وجد نفسه معزولا ضمن حزبه بمعية بعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين غير المتحمسين، بينما تشتت رفاق سلاحه السابقين في «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة». يوم 7 يوليوز، أدلى الليبيون بأصواتهم بكثافة ?...? لانتخاب 200 عضو في المجلس الوطني المكلف بصياغة دستور البلاد الجديد. وقد فاز في هذه الانتخابات الليبراليون، إذ تقدم محمود جبريل، زعيم «تحالف القوى الوطنية الليبية» التي تضم حوالي ستين هيئة، بشكل كبير على الإخوان المسلمين. ورغم أن جبريل يرفض أن ينعت بالعلماني، فإن هذا التصويت اعتبر الأول من نوعه الذي يضع حدا لوصول الإسلاميين إلى الحكم في بلدان «الربيع العربي». أما عبد الحكيم بلحاج، فإنه لم ينل أصوات الناخبين، وأكثر من ذلك، فقد تقدم عليه انتخابيا عضو في جماعة الإخوان المسلمين...