كيف يمكن أن نقرأ التصريحات الجزائرية، بعد سحب المغرب لسفيره في الجزائر، تلك التصريحات التي كادت أن تظهر «موقفا إيجابيا» والحرص على بقاء الديبلوماسية الجزائرية في بلادنا؟ في الواقع تبدو المواقف الغريبة لدى الأشقاء الجزائريين كما لو أن بلاد بوتفليقة لم تكن تريد أن يرد المغرب دفاعا عن نفسه. أو كما لو أن السفير الذي سحبناه كان في .. البيرو! الفهم الصحيح، يبدو لي هو أن الجزائر تقول لنا إن القضية وما فيها قضية داخلية، وأن المغرب قد اعتاد على التصرفات الجزائرية العدوانية، واعتاد أن يتفهمها عندما تكون برهانات داخلية. لنقرأ الأمور، بالفعل، من زاوية الشأن الداخلي؟ متى يمكن لدولة جارة أن تسيء إلى جارتها، وفي هذه الحالة، لماذا الآن تريد الجزائر من المغرب أن يكون متنفسها ؟ لا يمكن أن يكون الجواب إلا لأن هناك، بالفعل، وضعا متوترا وجد حاد، يصعب معه معالجة الأمور الذاتية بدون تلهية الرأي العام بقضية المغرب. وعندما تلجأ دولة جارة إلى مثل هذا العدوان، فإن الدليل قائم على أن الحد الذي وصلت إليه التوترات الداخلية بلغ درجة يمكن أن تنفجر. أولا، هناك رئيس مريض للغاية مازال هو صمام الأمان الوحيد الموجود في البلاد، وتقبل به كل الأطراف في الصراع، وهو يجر إلى جانب جسده المعتل شقيقه سعيد، الذي يسعى إلى أن يكون في كوكبة صانعي القرار. ولا يمكن أن يتقبل جزء من البنية العسكرية والسياسية، وكذا البنية الريعية أن يكون سعيد هو بديل شقيقه. وقد علمنا تاريخ الصراعات السياسية أنها غالبا ما تحل بالسلاح والتصفيات الجسدية في الجزائر المستقلة. ثانيا، هناك شخصية مركزية، كان صانع الملوك في الجزائر محمد لامين مدين المعروف باسم توفيق، والذي ظل على رأس مديرية الاستخبارات والأمن (ديريس الشهيرة) منذ 1990. و هو معروف بمتابعته لدراسته في الكاجي بي أيام الاتحاد السوفياتي. وتاريخه كله هو إدارة التصفيات السياسية للمعارضين. وقد راكم العديد من المهام لعل أساسها رئيس المخابرات العسكرية . توفيق، الظل الكبير في الجيش، هو أيضا، جنرال كوردارمي، له نفوذ كبير في الجيش. وقد تم مؤخرا تقليم أظافره، بحيث تم نزع ثلاث مديريات كبرى من اختصاصه، وتم إلحاقها بالقيادة العامة، ولعل أهمها مديرية الاستخبارات .. التساؤل الذي يطرحه هذا الوضع، أي رد فعل سيقوم به توفيق مدين؟ وفي انتظار ذلك، تبقى الورقة المغربية، كأي ورقة خارجية مفيدة في الجمع بين الفرقاء وإيجاد مشترك سياسي موحد بينهم في هذه الظروف التي تنبيء بليل عاصف. والمس بإحدى الشخصيات العسكرية يسرع، ولا شك، بالمواجهة داخل البلاد. فهل تريد أن تتفادى المحتوم عن طريق التعبئة ضد المغرب؟ لا شك في ذلك، لكن المغرب واجه الأمر بما يجب، ولا يمكن أن يستمر في لعب دور كيس الملاكمة. ولا بد أن الصراع في الجزائر، كما يتضح ذلك، يعود لأسباب سياسية أو تضارب المشاريع السياسية والإيدولوجية. فالجزائر منذ خرجت من ليل الحرب الأهلية، لم تنخرط في أي مشروع سياسي طويل النفس من أجل الانتقال، ومن أجل التدرج الديموقراطي. والنموذج الذي قدمته، بالرغم من الثروات الهائلة التي تملكها، لن يصمد طويلا. وعندما سيتدحرج النموذج الاقتصادي إلى الأسفل لابد أن يجر في طريقه النموذج السياسي والعسكري. إذن؟ إذن القضية التي من أجلها يتصارعون هي ريع النفط. والذي يملك السلطة هو الذي يملك سلطة الريع وتوزيع الدخل النفطي والغازي على كل الجسم السلطوي. والرئيس بوتفليقة، وباعتباره القائد العام للجيش، والمنتخب منذ 1999 ، ظل يضمن التوزيع العادل للريع بين الفرقاء، حسب ما أسر به مسؤول مغربي رفيع المستوي لكاتب هذه السطور. وإعلانه الترشح هو فسحة سياسية وزمنية من أجل إيجاد الشخصية التي يمكن أن تلعب الدور مكانه، أي توزيع الريع والحفاظ على أمر الواقع بدون تغيير أو دخول في أجندة سياسية ذات نفس إصلاحي. السيناريو الذي كانت تسوقه أمريكا، وربما أنقرة، هو نوع من التعايش بين الجيش وشخصية أصولية مقبولة، على طريقة مصر قبل السيسي وتونس قبل استقالة القائد الأعلى للجيش ومهندس خروج بنعلي. هذا السيناريو أصبح غير وارد الآن، وسيظل بوتفليقة رجل التوازن بين كل الفرقاء. ولهذا يبدو أنه يلعب الورقة المغربية، من خلال خطابه في أبوجا، ومن خلال تحركات عدائية أخرى. وربما هذا هو الثمن المطلوب منه اليوم لكي يظل في دور القاسم المشترك بين المتصارعين. فالجيش أيضا آلة حرب ديبلوماسية ...لا يتحرك الرئيس بدونها. يبقى مغزى الموقف الجزائري الذي يتأسف باستغراب لرد الفعل المغربي: إنهم يقولون لنا، أنتم تعرفون إنها حرب داخلية لماذا انزعجتم عندما «مرمدناكم »!!! وعلاش راكم مقلقين الخاوا!