فوق مكتب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة منذ شهر ، ملف يضع البلاد كلها في قاعة انتظار ويجللها بحاالة ترقب . الملف يتعلق بالتعديلات الدستورية التي صاغتها لجنة شكلها الرئيس بتاريخ 8 أبريل الماضي .. والانتظار ، يرتبط بنقطة إنطلاق الانتخابات الرئاسية . والترقب سؤاله العريض الذي يعم قاعة الانتظار و...يشكل ابرز أسرار هذا الملف . : هل ستفتح التعديلات الطريق لولاية رئاسية رابعة لعبد العزيز بوتفليقة ؟؟ تاريخ الجزائر خلال الخمسة عقود الماضية أرتبط اساسا بدساتيرها . لكل دستور أزمته واسباب نزوله ومسطرة إقراره ومبررات العمليات الجراحية التي أجريت عليه ليولد اللاحق من السابق . والدستور المرتقب لن يحيد عن القاعدة ، قاعدة أن السلطة في الجزائر ، وهي ليست سوى المؤسسة العسكرية ، تعالج أزمات هذا البلد المغاربي بجرعات دستورية تعيد من خلالها إعطاء نفس لتحكمها في المشهد السياسي والمفاصل الاقتصادية . الدستور المرتقب يتزامن مع أكثر من ذكرى وحالة رئاسية : الذكرى الاولى هي مرور ربع قرن على أحداث أكتوبر (1988) والتي كانت بوابة جزائر «جديدة» وإنتاج دستوري متواتر . والثانية هي مرور خمس سنوات على خطاب بوتفليقة في 28 أكتوبر 2008 . وهو الخطاب الذي قال فيه «نظرا للإلتزامات المستعجلة والتحديات الراهنة ،فقد إرتأيت إجراء تعديلات جزئية ومحدودة ليست بذلك العمق ولابذلك الحجم ولابتلك الصيغة التي كنت أنوي القيام بها ...» . كان تلك التعديلات عشية الانتخابات الرئاسية ليضيف إلى نفسه ولاية ثالثة كان يمنعها الدستور . وهاهو اليوم يكرر نفس «التحايل» ويهرب إلى نفس الفصل من الدستور كما فعل ستني 2002 و 2008 وهو الفصل 176 الذي يمنح البرلمان المصادقة على التعديلات دونما الحاجة إلى إستفتاء. والحالة الرئاسية ماهي إلا مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي جاء إلى قصر المرادية سنة 1999 وهو اليوم في نهاية ولايته الثالثة أو كما يسميها أشقاؤنا الجزائريون العهدة ، منهكا مريضا ، يتحرك بصعوبة ، يلازمه دواؤه وأطباؤه لحظة بلحظة . لايقوى على الحركة بل إنه لم يخرج الاسبوع الماضي للمرة الثالثة على التوالي إلى صلاة العيد وهي سابقة لم تحدث في عهد سبقيه الذين تقلدوا رئاسة الجزائر منذ استقلالها في نونبر 1962 . وضعت الجزائر منذ إستقلالها أربعة دساتير ، وبين كل دستور وآخر أجريت تعديلات مست إختصاصات المؤسسات وهندستها وولاياتها . لكل عقد دستوره ولكل حقبة تعديلاتها . كما أن لكل رئيس من رؤسائها الست دستوره (ماعدا محمد بوضياف الذي لم يقض في الرئاسة أكثر من ثلاثة أشهر) وجميعها من أجل إحتواء أزمات سياسية واجهتها السلطة الحاكمة . أول دستور أعدته لجنة سياسية في عهد الرئيس أحمد بنبلة .عرضته على ندوة وطنية للحزب الوحيد آنذاك جبهة التحرير الوطني ليعرض على إستفتاء في8 شتنبر 1963 . دستور إعتمد الاشتراكية كمنهج وجبهة التحرير كحزب وحيد . كان ذلك في خضم الصراع مع أحد قادة حرب التحرير الحسين آيت أحمد الذي أسس أسبوعين بعد الاستفتاء (20 شتنبر) جبهة القوى الاشتراكية . وكما أطاح الهواري بومدين بالرئيس بنبلة في إنقلاب يونيه 1965 ، أطاح كذلك بدستوره الذي لم يمر على إقراره سوى سنتين وإعتماد «دستور صغير» جاء ب»مجلس الثورة» كمصدر لجميع السلط أي في يد رئيسه والذي لم يكن سوى بومدين الذي جمع بين يديه الرئاسة والمؤسسة العسكرية. واستمر الوضع كذلك إلى منتصف السبعينات الذي احتدمت فيه صراعات أجنحة السلطة مركزيا وجهويا . فأصبح «الدستور الصغير « ميثاقا وطنيا ودستورا جديدا إرتدى شكلية فصل السلط . في يوليوز 1976 تمت المصادقة باستفتاء على الميثاق الذي شكل العمق الايديولوجي لدستور أفرزه إستفتاء في نونبر من نفس السنة . وأبرز ما جاء به هو إعادة صياغة للمجالات لإمتصاص الصراعات التي وصلت حدتها إلى مجلس الثورة وأجهزة الحزب الحاكم . وبالتالي وزعت الوظائف على ثلاث مؤسسات : الوظيفة السياسية وتمارسها جبهة التحرير من خلال مؤتمرها الوطني ولجنتها المركزية ومكتبها السياسي . ووظيفة تنفيذية إستفرد بها رئيس الجمهورية تماما كما كان الشأن من قبل .ووظيفة تشريعية ممثلة في المجلس الشعبي الوطني (البرلمان), توفي الرئيس هواري بومدين في 27 دجنبر 1978 ولم يجد «مجلس الثورة» من خلف له سوى الجنرال الشادلي بنجديد كحل لصراع تأجج بين عبد العزيز بوتفليقة وكان وقتها وزيرا للخارجية وبين محمد الصالح يحياوي رئيس اللجنة التنفيذية لجبهة التحرير . حافظ بنجديد على دستور بومدين وميثاقه كما حافظ ، بل قوى إمتيازات المؤسسة العسكرية وسطوتها على المجال الاقتصادي وعائدات المحروقات . لكن لم تنته العشر سنوات من رئاسته حتى عادت الصراعات إلى مستوى غير مسبوق . يقول أحمد طالب الابراهيمي الذي حمل حقيبة الدبلوماسية الجزائرية في مذكرات له نشرها نهاية الاسبوع الماضي :»أحداث الخامس من أكتوبر كانت نتيجة غياب توازن مؤسساتي بين «الاقطاب الثلاثة « التي سعت جاهدة منذ وصول الشاذلي إلى الرئاسة ، إلى التعايش فيما بينها ، وهي القطب الرئاسي الذي ساد في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين ، وقطب العسكر الذي هو في الواقع الامن العسكري ، والقطب البرلماني الذي كان يبحث عن موقع له في المشهد «. عاشت الجزائر العاصمة وعدة مذن على إيقاع مظاهرات صاخبة خلفت 500 قتيلا وإحراق العديد من مؤسسات الدولة لم يجد الرئيس بنجديد من مهرب لإحتواء الازمة سوى الاعلان عن مجموعة إصلاحات أولها إجراء تعديل دستوري للوثيقة التي ورثها عن بومدين . وبالفعل تم إجراء إستفتاء على هذه التعديلات في 3 نونبر 1988 كان ابرزها إحداث منصب رئيس الحكومة وإقرار المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان . وفي 23 فبراير من سنة 1989 عرض دستور جديد على الاستفتاء من بين مبادئه : التخلي عن خيار الاشتراكية الذي فشل بالشكل الذي تم تطبيقه وخاصة من خلال ما سمي بالتعاونيات . إقرار التعددية الحزبية والتراجع عن الحزب الواحد الذي أصبح جزءا من المشكل. «فصل» للسلطات والتوجه نحو صيغة تزاوج مابين النظامين البرلماني والرئاسي وإحداث منصب رئيس الحكومة . إدراج بعض الحقوق والحريات في مسعى لامتصاص غضب الشارع . ويبدو أن هذا الدستور لم يكن العصا السحرية ليحل معضلات الجزائر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .فالفساد إستفحل ليطال صادرات البلاد من المحروقات والتي تعد المورد الرئيسي للميزانية وللمشاريع بنسبة تفوق 90 بالمائة . والواردات من الاسلحة ومن المواد الغذائية والتجهيزات التي أصبح لها مايسمى ب»تجار الشنطة» . وتم تمييع التعددية ليقارب عدد الاحزاب المائة في ظرف وجيز . ولم تخمد حروب أجنحة السلطة ومناوراتها إلى أن وجدت الجزائر نفسها في انتخابات بلدية تعددية في يوينه 1990 فازت فيها جبهة الانقاذ الاسلامي وهو ما حول العاصمة إلى ساحة مظاهرات واعتصامات شبه يومية إلى أن جاء الدور الأول من التشريعيات في دجنبر 1991 لتحصد جبهة عباس مدني وعلي بلحاج أغلب المقاعد . ولم تجد المؤسسة العسكرية من خيار سوى وقف المسلسل الانتخابي وإقالة الرئيس بنجديد في يناير 1992 والاصطدام بحقيقة دستورية هي أن منصب نائب الرئيس غير موجود والبرلمان سبق حله وبالتالي لايوجد نص يسد هذا الفراغ الدستوري الامر الذي دفع بالمؤسسة العسكرية للاستنجاد بأحد قادة الثورة الجزائرية الي قضى بمنفاه بالمغرب ثلاثة عقود لتناط به الرئاسة ثلاثة اشهر ويتم إغتياله في 29 يونيه من نفس السنة . إنزلقت الجزائر إلى ساحة حرب مع الجماعات المسلحة خلفت خلال عشر سنوات أكثر من 200 ألف قتيل . وفي منتصفها جاء لامين زروال الذي أفرزه مجلس الدولة كرئيس ، جاء بدستور عرضه على الاستفتاء في 28 نونبر 1996 مراهنا على وقف حمام الدم الرهيب الذي تميز بالدبح الجماعي والتفجيرات والاغتيالات ، إغتيالات النخبة من إعلاميين ومثقفين وفنانين وأطر ...ومن أبرز ماجاء به هذا الدستور ثنائية غرفتي البرلمان بإحداث مجلس الامة ،وإعادة إنتشار إختصاصات السلط والمؤسسات خاصة الرئاسية والتنفيذية والتشريعية. وفي ظل هذا الدستور جاء عبد العزيز بوتفليقة إلى الرئاسة في أبريل 1999 . ولإحتواء الأزمة التي إندلعت بمنطقة القبايل في سنة 2001 بادر إلى الاعلان عن تعديل دستوري يقضي بدسترة الامازيغية كلغة وطنية في نونبر 2002 . وفي 12 نونبر من سنة 2008 أجرى بوتفليقة تعديلا جديدا على الدستور ليفتح أمامه الباب لولاية رئاسية ثالثة بعدما كانت المادة 74 تحد ذلك في ولايتين فقط . كما تم إستبدال صفة «رئيس الحكومة» إلى «وزير أول» وبالتالي منح صلاحيات جديدة للرئيس في وضع البرنامج الحكومي وتنفيذه. إختار الرئيس بوتفليقة المادة 176 من الدستور لتمرير التعديلين عبر مصادقة البرلمان دونما اللجوء إلى إستفتاء شعبي خوفا من إحتمالات سياسية تربك حساباته . ودون شك فالتعديل المرتقب سيسلك نفس المسطرة خاصة وأن هناك إنقسام في الطبقة السياسية أغلبها يرى أنه لاجدوى من تعديلات دستورية عشية الانتخابات الرئاسية . تعديلات على مقاس شخص يطمع بالرغم من أمراضه المستفحلة لعهدة رابعة أو تمديد الولاية الحالية لسنتين . تعديلات ليست على مقاس بلد تتراكم أزماته ومشاكله وتتبدد ثرواته . ولترتيب الاوضاع والتحكم فيها أقدم بوتفليقة على إعادة صياغة حكومة عبد المالك سلال الذي يعد سابع وزير أول في عهده منذ مجيئه إلى الرئاسة في أبريل 1999 . لم يكن التعديل تقنيا أو عاديا لحكومة لم تمر سوى سنة على تشكيلها في 3 شتنبر 2012. لقد تخلص بوتفليقة من ماتبقى من «جيل الاسرة الثورية» الذي كان له منذ استقلال الجزائر موقع قدم في الحقائب السيادية . وأسند وزارات الداخلية للطيب بلغيز الرجل الذي ترعرع في سلك القضاء وأحيل قبل أيام على التقاعد بطلب منه ويغادر رئاسة المجلس الدستوري التي شهدت انتقادات واسعة بسبب عدم تفعيلها للمادة 88 من الدستور والتي تتعلق بشغور منصب رئيس الجمهورية لوجود مانع (مرض بوتفليقة طويل الامد ). أما الخارجية فأنيطت بشخصية جيئ بها من رئاسة مجلس السلم والامن الإقريقي بالاتحاد الافريقي ، اشتغلت بالحقل الدبلوماسي منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي حين كان كاتبا عاما للوزارة وتقلد منصب مندوب الجزائر بالامم المتحدة في الفترة مابين 1993 و 1996 . أما رئيس الاركان أحمد قايد صالح فأحكم قبضته على وزارة الدفاع بعد إخراج عبد المالك قنازرية من منصب الوزير المنتدب بها ليصبح الوزير الجديد يحمل الحقيبتين معا . هذه هي مسارات دساتير الجزائر منذ إستقلالها . لكل رئيس تعديلاته لإحتواء الازمات دون وضع الاصبع على الجرح الذي يؤخر البلاد في وضع مؤسساتها على سكة الديمقراطية الحق .(مثلما هو الشأن في بقية الدول العربية ) . مسارات دساتير أصبحت جزءا من المشكل الديمقراطي وليست جزءا من الحل . هي دساتير وتعديلات لإحتواء الأزمات وتأجيل إنفجارها . دساتير الرؤساء والمؤسسة العسكرية أكثر منها دساتير المجتمع الجزائري . ولنقل : دساتير رؤساء مدى الحياة ...تماما كما قال آحد الشعراء القدامى: أنت زعيمنا مادمت حيا وأنت زعيمنا بعد الممات كأن الله لم يخلق زعيما سواك يقودنا في النائبات