أدرج الحقل السياسي الجزائري منذ بداية السنة الجارية نقطة وحيدة في أنشطته تحتل الحيز ، كل الحيز في أجندة العمل : انها الانتخابات الرئاسية المقرر ،حسب وزارة الداخلية ، إجراؤها في ابريل المقبل . أحزاب الجزائر وشخصياتها السياسية على الخصوص بلورت مواقفها من هذا الاستحقاق الذي يعد النقاش فيه امتدادا لنقاش عمره اليوم عقدٌ من الزمن أي منذ انتخاب الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة في أبريل سنة 1999 لم تعرف الجزائر منذ استقلالها انتخابات عادية لاختيار رئيسها ، وظل هذا المنصب السامي الذي يعد الاعلى في هرم الدولة مثار صراعات وتجاذبات ، وكانت المؤسسة العسكرية المثقلة بجنرالات مزجوا بين العمل السياسي والمهني لعدة اعتبارات ترجع بالاساس لفترة الثورة الجزائرية ، كانت هذه المؤسسة تقف باستمرار وراء «انتخاب» الرئيس. و في هذا السياق ، جاء في شتنبر 1962 الى المنصب احمد بنبلة قادما من «بؤرة » القيادة السياسية والعسكرية لجبهة التحرير الوطني الحزب الوحيد آنذاك، ولم يمض على توليه الرئاسة سوى ثلاث سنوات حتى اطاح به الهواري بومدين في انقلاب عسكري و زج به في السجن حتى عقد الثمانينات . العقيد بومدين جدد لنفسه عدة ولايات رئاسية كان في انتخاباتها المرشح الوحيد بدون منافس قبل ان يداهمه الموت في دجنبر 1978 ليقود الجزائر رئيس مجلسها الشعبي الوطني رابح بيطاط لمدة شهرين اختارت فيه المؤسسة العسكرية احد جنرلاتها الشاذلي بنجديد رئيسا في فبراير 1979 . وفي سنواته العشر التي قضاها بقصر المرادية عرفت البلاد احداثا ابرزها تلك التي هزت العاصمة في اكتوبر 1988 وشكلت بوابة رئيسية لتحولات سياسية واجتماعية من ابرزها اعادة النظر في الدستور ليعترف بالتعددية الحزبية التي كان من نتائجها بروز حوالي 80 هيئة سياسية ، واعتماد انتخابات تعددية تمثلث في اقتراعي يونيو 1990 للبلديات ودجنبر 1991 للمجلس الوطني الشعبي (البرلمان) و اندلاع المواجهات الدموية في الشارع الجزائري التي كان الغاء نتائج التشريعيات التي فازت فيها الجبهة الاسلامية للانقاذ ايذانا باتساع رقعتها لتعرف الجزائر عشرية سوداء راح ضحيتها مايقارب 200الف شخص وتخريب المؤسسات واغتيال قيادات حزبية ومثقفين وصحفيين .... لقد تمت اقالة بنجديد في يناير 1992 ولم يجد العسكر من يخلفه سوى اتصالهم باحد رموز الثورة الجزائرية الذي اختار ان يعيش في المنفى لمدة ثلاثين سنة بالمغرب، انه محمد بوضياف الذي لم يمض على توليه منصب الرئاسة سوى ستة اشهر ليتم اغتياله وهو جالس بالمنصة بعنابة شرق البلاد وبالتالي اسكات صوته قبل ان يفتح ملفات الفساد التي تحدث عنها وهو يرتب الايام الاولى من مسؤوليته. بعد بوضياف شكلت المؤسسة العسكرية مجلسا أعلى للدولة يقوده على كافي من يوليوز 1992 الى يناير 1994 ، بعده جاء الى المنصب الجنرال لامين زروال الذي اجريت في عهده اول انتخابات يتقدم اليها اكثر من مرشح ، لقد تقدم الى انتخابات 16 نونبر 1995 ثلاثة مرشحين بالاضافة الى الجنرال وهم محفوظ نحناح رئيس حركة مجتمع السلم وسعيد سعدي رئيس التجمع من اجل الثقافة والديمقراطية ونور الدين بوكركوح زعيم حزب التجديد الجزائري.وكما كان متوقعا افضى الاقتراع بتمتيع زروال ولاية رئاسية بنسبة 61 بالمائة قبل ان يعلن في ابريل وبضغط من العسكر عن تنحيه عن السلطة لتجرى انتخابات رئآسية في 11 ابريل 1999تقدم اليها سبعة مرشحين هم عبد العزيز بوتفليقة الذي كان وزيرا للخارجية بعد استقلال البلاد الى وفاة بومدين ومولود حمروش الذي ترأس الحكومة في فترة تحولات ما بعد احداث 1988 ومقداد سيفي وهو رئيس حكومة في عهد بنجديد واحمد طالب ابراهيمي وزير خارجية في نفس الفترة والحسين آيت احمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية التي تأسست سنة 1963 وظلت تناضل من اجل التعددية والديمقراطية وعبد الله جاب الله رئيس حركة الاصلاح الوطني ويوسف الخطيب ( مستشار رئآسي سابق). عشية الاستحقاق لم يجد المنافسون لبوتفليقة سوى الانسحاب وبشكل جماعي من الترشيح بسبب الدعم القوي الذي ابدته المؤسسة العسكرية لمرشحها الذي بقي المرشح الوحيد ، والنتيجة «فوزه » بنسبة 70 في المائة من اصوات الناخبين وهو رقم شككت فيه كل القوى السياسية بالاجماع. في ابريل 2004 عاد بوتفليقة للترشح لولاية ثانية مع مرشحين اعتبرهم الرأي العام الجزائري مجرد «ارانب » في هذا السباق المحسوم سلفا وهم عبد الله جاب الله ولويزة حنون زعيمة حزب العمال وسعيد سعدي وعلي فوزي رباعين رئيس حزب يسمى « عهد 54 » ، وحده علي بنفليس الامين العام لجبهة التحرير الوطني الذي جمد انشطته بهذا الحزب كان يخوض الانتخابات كمنافس قوي استقطب وراءه عددا من الفعاليات المؤثرة. وكاستحقاق 1999 فاز بوتفليقة في رئاسيات 2004 حيث قالت وزارة الداخلية بانه حصل على 85 بالمائة. ومثلما فتح المنصب شهية بوتفليقة للرئاسة ، فانه قرر ان لا يكون الدستور عائقا بينه وبين ولاية ثالثة ، ففي 12 نونبر 2008 عرض على البرلمان تعديلات ابرزها الغاء تحديد الرئاسة في ولايتين والغاء صفة رئيس الحكومة وتعويضه بوزير اول ليكون برنامج الرئيس هو المرجعية الوحيدة للعمل الحكومي مهما كان الحزب الذي حصل على الاغلبية في المجلس الشعبي. من سيترشح ؟ من سيقاطع؟ هذان السؤالان يشكلان «لون» متابعة الحقل السياسي بالجزائر . لكن على بعد شهرين من الانتخابات ، تفيد الصورة ان جل الذين خاضوا «المنافسة» مع بوتفليقة قرروا ان يقاطعوا الاستحقاق : سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية اعلن مقاطعته للانتخابات واصفا بانها «مشينة ومهزلة خطيرة» ، جاب الله قال في مؤتمر صحافي «في غياب قوى التغيير ستكون الانتخابات الرئاسية في اتجاه واحد فكل شيء مهيأ لذلك. و المشاركة فيها لا تعدو أن تكون تبييضا لنتيجتها المقررة سلفا »، حركة النهضة، أحد الأحزاب الإسلامية الرسمية قررت بدورها مقاطعة الانتخابات الرئاسية بسبب «الأجواء السياسية غير المشجعة على المشاركة وغياب ثقافة التداول وغلق المجال الإعلامي والسياسي وتراجع الحريات العامة، وغياب الحوار، وإقصاء الآراء الجادة، وتهميش دور الأحزاب في القضايا المصيرية». وكانت الحركة من المساندين لبوتفليقة خلال الانتخابات الرئاسية سنتي 1999 و 2004 . الكاتب الوطني لجبهة القوى الاشتراكية كريم طابو توقع مقاطعة شعبية واسعة للانتخابات المقبلة، لانها محسومة سلفا لمرشح العسكر . ومن الشخصيات التي دعت الى المقاطعة الجنرال المتقاعد رشيد بن يلس الذي دعا الجزائريين إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية المقبلة لتكون نسبة الامتناع عن التصويت فيها أكثر من تلك المسجلة في التشريعيات الأخيرة التي جرت في 17 مايو 2007، « لنقول للعالم أن الجزائريين سئموا من بوتفليقة ومن مهازل الانتخابات» . وفي مقال نشره ب «الوطن » الفرنكوفونية ، اعتبر بن يلس ان مقاطعة الانتخابات « واجب وطني بالنظر إلى المخاطر التي تتهدد البلاد»، وأن الهدف من المقاطعة «وقف السقوط في الجحيم » (...)، كيف قرّر حكام البلاد الإبقاء على بوتفليقة لخمس سنوات أخرى رئيسا للبلاد، بالرغم من تقدمه في السن و وضعه الصحي. » واضاف الجنرال المتقاعد أن بوتفليقة «نجح في إبعاد الجيش عن معترك السياسة،لكن كان الامر سيعتبر إنجازا لو استغل الفرصة لإقامة نظام ديمقراطي حقيقي وليس نظاما بوليسيا !!» استاذ الاجتماع السياسي البروفيسور عدي الهواري اعتبر «ان مشكل الجزائر يكمن في تقلد مناصب المسؤولية أشخاصا لا شرعية لهم وبالتالي لا سلطة لهم ، ومن هنا برزت الأزمة الجزائرية (...) أن الأزمة الجزائرية سياسية بامتياز، لأن الرئيس يستجيب كأي موظف مدني لتعليمات الجيش الذي يراقب الحقل السياسي من وراء ستار. » ولان السباق الى الرئاسة بحاجة الى منافسين ل«احترام» التعددية وابراز البلاد في صورة سياسية توحي بانه لاتوجد هناك ازمة وليس بالحقل سوى المعارضين المقاطعين للانتخابات ، يبرز «ارانب» (كما اطلقت عليهم الصحافة الجزائرية) اعلنوا انهم سيقدمون ترشيحهم. وسائل الاعلام الرسمية قالت ان هناك 18 مرشحا سحبوا الوثائق الضرورية لاعداد ملف الترشيح ، بل ان موسى تواتي رئيس «الجبهة الوطنية الجزائرية» صرح ان حزبه جمع 1500 توقيع من نواب، واكثر من96 الف توقيع من مواطنين ، مما يتيح له التقدم الى الانتخابات الرئاسية ، والجدير بالذكر ان من بين شروط الترشيح حصول المرشح على ما لا يقل عن600 توقيع لشخصيات منتخبة، او75 الف توقيع من الناخبين من25 ولاية من بين ولايات الجزائر ال48 . حزب اخر اعلن ترشح زعيمه ، إنه « حركة الانفتاح » وهي تنظيم مغمور لا يظهر الا في الانتخابات وسبق لرئيسه عمر بوعشة ان تقدم في الاستحقاقين الرئاسيين السابقين. ونفس الشأن بالنسبة لفوزي رباعين رئيس حزب «عهد 54» لكن ابرز المرشحين ستكون لويزة حنون زعيمة حزب العمال الذي اعلن انه شارف على الانتهاء من عملية جمع التوقيعات تحسبا لإعلان امينته العامة الترشح . وحنون التروتسكية التي كانت اول امرأة تتزعم حزبا في العالم العربي واول امرأة تتقدم للانتخابات الرئاسية بالجزائر سنة 2004 ، وقد شرعت «المرأة الحديدية» كما يسميها رفاقها و«اشجع السياسيين الرجال » كما تصفها تيارات من الاصوليين ومن بينهم الجبهة الاسلامية للانقاذ ، شرعت في ضبط عقارب ساعتها السياسية على ساعة بوتفليقة خاصة بعد تصويت نوابها بالمجلس الشعبي الوطني على التعديلات الدستورية الاخيرة. ومن المتوقع ان يعلن الائتلاف الحاكم ( جبهة التحرير الوطني ، والتجمع الوطني الديموقراطي وحركة مجتمع السلم ) دعمه لترشيح بوتفليقة تماما كما كان الامر في الاستحقاق السابق. وان يشن هذا الائتلاف حملة سياسية على المقاطعين، وقد بدت بوادر هذه الحملة في تصريح قادته . فالوزير الاول الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي أحمد أويحيى وصف موقف الداعين إلى مقاطعة الانتخابات ب«المعيب»، وقال: «العيب ليس في الدولة وإنما في الشركاء السياسيين، فمن أراد الترشح فالدستور يكفل له ذلك، ومن له مشاكل مع نفسه فلا داعي للتحجج بأمور ليست من الواقع».مرددا المثال الشعبي الجزائري القائل «اللي خانوا سعدو ما يقول بيا سحور » . اما عبد العزيز بلخادم الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني فاعتبر ان القوى السياسية المنادية بمقاطعة الرئاسيات « أصوات تحاول البحث عن بديل لصوت الصندوق.» مثقفو الجزائر شرعوا بدورهم في الكشف عن مواقفهم ، فهذا الطاهر وطار الروائي كتب من سرير مرضه بمستشفى «سانت أنطوان» بباريس مايشبه بلاغا صحفيا قال فيه :«أكون لئيما إن تنكرت لبوتفليقة، فالرجل أغدق علي من الكرم ما خفف علي الوجع وأنساني الضر، والرجل تحمل لسعاتي المتكررة بصدر رحب، وطوال العهدتين السابقتين. وصدق القائل: إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا وأكون خائنا للكادحين على وجه الأرض، إن لم أتخذ الموقف المبدئي من لويزة حنون، ولن أتبنى ما ينسب لأبي هريرة من القول : أصلي وراء علي وأتعشى على مائدة معاوية لأنال ثواب الدارين! ومهما يكن من أمر، فالمرء أمام صندوق الإقتراع يواجه ضميره، وكأنه في محراب يواجه العليم الخبير.» المراقبون للحياة السياسية بالجزائر وخبراء مشهده يتوقعون ان تكون نسبة المشاركة في اقتراع أبريل المقبل هزيلة ، اقل من النسبة التي عرفتها التشريعيات الاخيرة، بل ان رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور جزم بان لا تتجاوز هذه النسبة 10% . وقال إن الجزائريين محبطون بسبب الهوة بين الحكام والشعب. فالمواطن العادي منشغل بمشاكله اليومية ولا يرى جدوى من الانتخابات.