فجر يوم 9 شتنبر 1977، شهدت ردهات سجن «البوميت» بمرسيليا تنفيذ حكم الإعدام، بواسطة المقصلة، ضد المواطن التونسي حميدة جندوبي، المتهم بقتل صديقته إليزابيث بوسكي. وإذا كانت عقوبة سلب الحياة قد ألغيت في فرنسا في 18 شتنبر 1981 عقب انتخاب الاشتراكي فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية وتنزيلا منه لبرنامجه الانتخابي، فإن المدة الفاصلة بين إعدام جندوبي وتقديم وزير العدل روبير بادنتير لمشروع قانون إلغاء العقوبة القصوى أمام البرلمان الفرنسي قد عرفت النطق بعدة أحكام بالإعدام، لكنها لم تنفذ إما بسبب نقضها أو بسبب العفو الرئاسي. هكذا إذن يظل حميدة جندوبي آخر من نفذت في حقه العقوبة السالبة للحياة في الديار الفرنسية، وهي العملية التي حضرتها، بقوة القانون، قاضية التحقيق مونيك مابلي بصفتها عميدة قضاة التحقيق في مارسيليا. في عددها الصادر يوم 10 دجنبر الجاري، نشرت يومية «لوموند» الباريسية نص شهادة القاضية حول عملية التنفيذ التي حضرت مجرياتها، نص مخطوط يتكون من ثلاث صفحات كتبته مونيك مابلي (1924- 2012) بمجرد عودتها إلى منزلها من السجن. سلم ابن قاضية التحقيق «المحضر الحميمي والشخصي» الذي ورثه عن والدته، قبل أسابيع من نشره، لروبير بادنتير، حارس أختام الجمهورية في عهد فرانسوا ميتران وأحد أبرز المدافعين على إلغاء عقوبة الإعدام، ليمد به هذا الأخير الجريدة قصد نشره بموافقة أسرة القاضية. تصف «لوموند» الشهادة بأنها وثيقة تاريخية تروي، برزانة وبدون مغالاة، لحظات حميدة جندوبي الأخيرة قبل أن ينفصل رأسه عن جسده، ومحاولاته اليائسة للظفر بدقائق إضافية من الحياة، وسيجارته وكأسه الأخيرين، وما ولدته مجريات الأحداث في أعماق القاضية من مشاعر ومن غضب. يقول روبير بادنتير حول الشهادة: «لهذه الوثيقة قيمة تاريخية كبرى، لأنها كتبت من طرف قاضية كانت شاهدة على آخر تنفيذ لحكم بالإعدام في فرنسا. صدقيتها وقيمتها غير قابلتين للجدل. هذه القاضية، التي عينت لحضور إعدام شخص لم تحقق في قضيته، أرادت الاحتفاظ بذكريات دقيقة حول هذا التنفيذ. لقد صاغت شهادتها على شكل محضر، انطلاقا من وصولها إلى سجن بوميت بمرسيليا إلى حين مغادرتها إياه. إنها كتبت شهادتها الشخصية. وظهور هذه الوثيقة اليوم، بعد مرور حوالي أربعين سنة. مثير ومؤثر. كانت القاضية تجهل، في 1977، أنها تحضر آخر تنفيذ لعقوبة الإعدام في فرنسا. لست من هواة حكايات التعذيب، لكنني قلت إنه يجب الكشف عن هذه الوثيقة لتعرف الأجيال الشابة ما كان يحدث في السجون الفرنسية قبل أربعين سنة.» 9 شتنبر 1977 تنفيذ الحكم بالإعدام ضد جندوبي، مواطن تونسي. في الساعة الثالثة زوالا، أخبرني السيد رئيس المحكمة (ر) بتعييني لحضور التنفيذ. رغم الشعور بالحنق الذي تولد لدي، فليس بإمكاني عدم الحضور. سكنتني هذه الفكرة طوال الزوال. قد اضطلع ربما بمهمة تلقي تصريحات المحكوم عليه. في السابعة مساء، ذهبت إلى السينما مع (ب) و(ب.ب) ، ثم إلى بيتها لتناول وجبة. عقبها، وإلى حدود الواحدة صباحا، شاهدنا فيلم برنامج نادي الشاشة. عدت إلى البيت وقمت بأعمال متفرقة قبل التمدد على السرير. في الثالثة والربح صباحا، اتصل بي هاتفيا السيد (ب) كما طلبت منه. هيأت نفسي. في الرابعة صباحا، حضرت سيارة شرطة لنقلي. لم ننبس ببنت شفة طوال الطريق. وصلنا إلى سجن بوميت. الجميع حاضر. آخر الملتحقين هو ممثل النيابة العامة. تشكل الموكب. حوالي عشرين (أو ثلاثين؟) حارسا، ومعهم «الشخصيات». ثمة أغطية رمادية تكسو أرضية المسار لكتم صدى خطواتنا. كما وضعت، في ثلاثة أمكنة مختلفة من الممر، طاولة فوقها طشت ملئ بالماء وفوطة. «تهيئ» المحكوم عليه ها باب الزنزانة يفتح. سمعت أن المحكوم عليه غاف، لكنه ليس نائما. إنهم «يهيئونه». استغرق الأمر طويلا نسبيا بسبب رجله الاصطناعية التي يجب إعادة تركيبها. مكثنا ننتظر. لا أحد يتكلم. الصمت واللين الظاهر على المحكوم عليه خففا وطأة الوضع على الحاضرين حسب اعتقادي. لا أحد كان يرغب في سماعه يصرخ أو يحتج. التأم الموكب من جديد ليسلك المسار نفسه في الاتجاه المعاكس. انزاحت أغطية الأرضية عن مواضعها قليلا، وخفت حدة الاهتمام بكتم صدى خطانا. توقف الموكب قرب إحدى الطاولات. أجلس الحراس المحكوم عليه على كرسي. يداه مغلولتان خلف ظهره. قدم له أحد الحراس سيجارة ذات مرشح. شرع في التدخين دون النطق بكلمة. إنه شاب. شعره أسود داكن ومرتب بعناية. وجهه جميل نسبيا ومتناسق القسمات، لكنه شاحب وعيناه محاطتان بالزرقة. هو شاب وسيم بالأحرى، ولا تبدو عليه سمات الجنون أو العنف. اشتكى بمجرد الشروع في التدخين بسبب أصفاده المشدودة أكثر مما يطاق. دنا منه حارس وحاول فك الأصفاد قليلا. واصل التشكي مع ذلك. في تلك اللحظة بالضبط، لمحت حبلا رفيعا بين يدي الجلاد الواقف خلف المحكوم عليه محاطا بمساعديه. الجلاد: «أنت حر كما ترى!...» خلال برهة من الزمن، نوقش احتمال تغيير الأصفاد بالحبل الرفيع، لكن الأمر استقر في النهاية على نزع الأصفاد. لحظتها، نطق الجلاد بالكلمات الرهيبة والمأساوية التالية: «أنت حر كما ترى!...»، كلمات تولد الرعشة... انتهى من تدخين السيجارة فسلمت له أخرى. يداه تخلصتا من الأصداف وهو يدخن ببطء. في تلك اللحظة بالذات لاحظت بداية إدراكه الفعلي بأنها النهاية، بأنه لم يعد بإمكانه الخلاص، وبأن حياته والدقائق المتبقية له على قيد الحياة ستستمر بقدر مدة استمرار السيجارة مشتعلة. طالب بدنو محامييه منه، وهو ما استجاب له الاستاذان (ب) و(ج). تحدث إليهما بصوت خفيت قدر المستطاع، ذلك أن مساعدي الجلاد كانا يطوقانه عن قرب كما لو أنهما يرغبان في سرقة لحظاته الأخيرة هذه ككائن على قيد الحياة. سلم للأستاذ (ب) ورقة مزقها الأخير بطلب من المحكوم عليه، كما سلم ظرفا للأستاذ (ج). تحدث إليهما قليلا جدا. كان الأول يقف يمينه والثاني يساره، ولا أحد منهما كلم زميله. طال الانتظار. طالب باقتراب مدير السجن منه فسأله عن مآل أغراضه الشخصية. حميدة يدرك أن حياته ستنتهي فعلا مع نهاية كأسه انتهت السيجارة الثانية. لقد مر ربع ساعة تقريبا. تقدم أحد الحراس، وهو شاب ودي، نحو المحكوم عليه حاملا قنينة روم وكأسا. طلب منه هل يريد أن يشرب وسكب له نصف كأس. بدأ المحكوم عليه يحتسي الكوب ببطء. لقد استوعب الآن أن حياته ستنتهي فور انتهائه من الشرب. تحدث مرة أخرى قليلا إلى محامييه. نادى على الحارس الذي قدم له الشراب ليطلب منه جمع قطع الورقة التي كان الأستاذ (ب) قد مزقها ورماها أرضا. انحنى الحارس، جمع الوريقات وسلمها للأستاذ (ب) الذي دسها في جيبه. في هذه اللحظة بالذات بدأت الأحاسيس تتداخل في ما بينها. هذا الرجل سيموت، وهو في كامل وعيه ويعرف أنه لا يستطيع فعل أي شيء آخر غير تأخير النهاية بضع دقائق. ما جعل الأوضاع تتخذ منحى شبيها بنزوة طفل يستعمل كل الوسائل لتأخير وقت الذهاب إلى سرير النوم! طفل يعرف أنه سيستفيد من بعض التساهل ويوظف ذلك. استمر المحكوم عليه في احتساء كأسه ببطء، بجرعات صغيرة. نادى على الإمام الذي اقترب منه وتحدث إليه بالعربية. أجابه ببضع كلمات بالعربية أيضا. محاولات كسب دقائق إضافية من الحياة الكأس على وشك أن تفرغ. طلب، في محاولة أخيرة منه، سيجارة أخرى، من نوع غولواز أو جيطان، لأنه لا يحب نوع اللتين استفاد منهما. قدم طلبه هذا بهدوء، بأنفة نفس تقريبا. لكن الجلاد، الذي بدأ صبره ينفذ، تدخل معارضا: «لقد كنا جد ودودين معه، جد إنسانيين، علينا أن ننهي الأمر الآن». بدوره، تدخل ممثل النيابة العامة معبرا عن رفضه لهذه السيجارة الإضافية، وذلك رغم تجديد المحكوم عليه لطلبه مضيفا في تعبير جد ملائم: «ستكون الأخيرة». بدأ نوع من الحرج يسكن الحاضرين. لقد مرت عشرون دقيقة تقريبا منذ جلس المحكوم عليه على الكرسي. عشرون دقيقة جد طويلة وجد قصيرة! كل شيء يتلاطم. طلب هذه السيجارة الأخيرة يضفي على الوقت الذي مر واقعيته و»هويته». تحلى الجميع بالصبر، انتظروا واقفين عشرين دقيقة بينما المحكوم عليه جالس، يعبر عن طلبات تمت تلبيتها فورا. لقد تركوه يتحكم في مضمون هذا الوقت. كان ملكه. أما الآن، فسيحل واقع مغاير محل هذا الوقت الذي منح له. سيعاد استرجاعه منه. رفضت السيجارة الأخيرة ولكي تنتهي الأمور، طلب منه الإسراع في إنهاء كأسه. شرب الجرعة الأخيرة. سلم الكأس للحارس. بمجرد ما فعل ذلك، حتى أخرج أحد مساعدي الجلاد مقصا من جيب معطفه وشرع في قص قبّة قميص المحكوم عليه الأزرق. أشار الجلاد إلى أن الفجوة غير واسعة بما فيه الكفاية. حينها، قص مساعد الجلاد ظهر القميص مرتين، بل عرى أعلى ظهر المحكوم عليه تماما حتى لا يتأخر. الرجل الذي كان يتكلم قبيل دقيقة فقط، لم يعد إلا بيجامة زرقاء داخل سلة بسرعة (قبل قص قبة القميص)، كانت يداه قد غلتا خلف ظهره بواسطة الحبل الرفيع. جعلوه يقف. فتح الحراس بابا في الممر. بدت المقصلة خلف الباب. بدون تردد تقريبا، اقتفيت خطى الحراس الذين كانوا يقودون المحكوم عليه وولجت الغرفة (ربما هي ساحة داخلية) حيث توجد «الآلة». هناك، قربها، سلة مفتوحة من السوخر البني. طرح الجسد أرضا على البطن، لكنني التفتت في تلك اللحظة لأنظر في اتجاه آخر، ليس خوفا من الانهيار، بل بسبب نوع من «العفة» (لا أجد كلمة أخرى) الفطرية، الدفينة في الأحشاء. سمعت صوتا مخنوقا. التفتت: دم، دم كثير، دم فاقع الحمرة. سقط الجسد في السلة. في مجرد ثانية، ضرب عنق حياة. الرجل الذي كان يتكلم قبيل دقيقة فقط، لم يعد إلا بيجامة زرقاء داخل سلة. أخذ أحد الحراس أنبوب رش. يجب محو آثار الجريمة بسرعة. أشعر بنوع من الغثيان الذي أتحكم فيه. امتلكني غضب جليدي. ذهبنا إلى أحد المكاتب حيث انهمك ممثل النيابة العامة، بشكل طفولي، في صياغة المحضر. دقق (د) في كل كلمة، ذلك أن محضر تنفيذ حكم بالإعدام مهم! وجدتني الساعة الخامسة و10 دقائق في البيت. أكتب هذه السطور في السادسة صباحا و10 دقائق.