(هذا الخطاب بتفاصيله الحميمة من أقوى ما كتب فى الرواية العربية تجسيداً لمشاعر الأنثى المجروحة ) فى لفتة عروبية تستحق الإشادة، نشرت مكتبة »الدار العربية للكتاب« فى مصر رواية جميلة للشاعرة المغربية »عائشة البصرى« بعنوان »ليالى الحرير«، وليست عائشة أول شاعرة تعشق السرد بعد أن تكرس اسمها فى دنيا القصيد وذاعت أبياتها مترجمة إلى لغات أوروبية عديدة، بل أصبح ذلك ظاهرة لافتة تنبئ باتساع مجرى القص ليحتضن أحلام الشعراء ويستوعب عوالمهم الظاهرة والباطنة، بصورها المعكوسة فى مرآة حلم طويل، تقطعه لحظات اليقظة الذاهلة، لتضفى عليه مزيداً من ضبابية فضية رائعة، كما ترى فى هذه الرواية الغريبة. ولأن طائر الشعر هو الذى يفرد جناحيه على خطاب عائشة السردى بأطياف عديدة فإنها تستحضر بعض نبراته الشجية فى عتبات النص وهى تحدد استراتيجيته النزقة، ابتداء من درويش، الذى يتقاطر فى مقدمتها »ننادى الغياب من غيابه، تغير بدء القول من (سأكون) - إلى (كنت)، نتذكر كلاماً لم نقله، فكرة لم تكتمل، جملة تحتاج توضيحاً، عنواناً ملتبساً كان من المفروض أن يكون مكان لقاء، تفصيلاً صغيراً غيّر مجرى حياة لم نعشها وحكاية لم نحكها« فتنطلق من هذا البرنامج السردى الذى يسير فى اتجاه مضاد للشعر الغنائى بتعدد أصواته ودراميته برفقة »النفرى« مؤنس شعراء الحداثة وهو يهتف فى مواقفه »وقال لى بيتك هو طريقك، بيتك هو قبرك، بيتك هو حشرك«. ثم لا تلبث أن تسلم زمامها لمن علمتها السرد وزرعت فى وجدانها بذرة الأسطورة وروح الحلم وهى جدتها، وكانت على ما تحكى آمرة ناهية، تفسر الأحلام وتؤمن بالسحر وتشير بفك طلاسمه، وهى تؤكد حضورها الموثق فى هامش تاريخى مفصل مثل بقية الشخصيات بطريقة تجعل المتن ظلاً للهامش وحاشية متخيلة على حقائقه الصلبة. تمضى الساردة فى كشف سطوة الجدة على حياتها منذ الطفولة فتقول »بعد أن أخذ منى المرض مأخذه شهوراً ويئس الأطباء من شفائى ارتأت جدتى أن الروح التى بداخلى ليست لى، حيث إن إحدى الجنيات استغلت فرصة غياب أمى التى كانت تتركنى وحدى ساعات عملها الطويلة واستبدلتنى برضيعتها المريضة.. أمرت الجدة بأن يأخذونى إلى ضريح ولى عرف بإشفاء الأطفال وأن أترك وحدى ساعة كاملة فى حفرة بجانب القبر، حين عادوا لاستعادتى وجدونى أضحك وألوح بيدى وقد استعدت عافيتى، فسرت الجدة الأمر بأن الجنية أعادتنى بتدخل من الولى الصالح، أمى التى كانت ممرضة ولا تؤمن بالغيبيات طالما سخرت من تأويل الجدة« لكن أساطير الجدة وحكاياتها العجيبة هى التى نفثت فى روع الساردة وأفق الرواية عبق البيئة المغاربية التى لا تختلف كثيراً عن المشرقية فى تداخل حيوات الإنس والجن، منظوراً إليها بعين فنانة تدرك تفاوت مستويات الوعى وتوزعها بين العلم والخرافة عند الأجيال المتفاوتة ولو كانت فى بيت واحد. رمزية الحلم وكثافة الشعر: حركة الحلم فى هذه الرواية أنشط كثيراً وأبلغ تأثيراً من حوادث اليقظة، والطريف أنه حلم ممتد تدرك الساردة فيه حقائق حياتها وذكريات طفولتها وتبث عبره إشاراتها الرمزية الغائمة وهى مستغرقة فى وصف حركاتها ومشاهدها كأنها تصف فيلماً سينمائياً تشاهده، فهى مثلاً - فى الحلم - تحس بلهاث وراءها، فإذا التفتت تجد أمامها عينين تلمعان فى الظلمة لكلب أسود، فتحدث نفسها: »لا يمكن أن أحلم أو أتخيل كلباً، فأنا لا أتحمل حتى الاقتراب من الكلاب وإن كنت أحب القطط« ثم تأخذ فى رواية ذكرى بعيدة عن أبيها الذى كان مولعاً بالكلاف عارفاً بفصائلها، وكان آخر ما اقتنى منها كلبة صيد من فصيلة البوكى، وكيف أنها كانت تتسلل كل ليلة من باب المرآب؟ ثم تعود متبوعة بما جذبته من كلاب ضالة، ولأن والدها كان يرى أنها من فصيلة راقية لا ينبغى أن تخالط هذه الكلاب الشاردة ربطها إلى سياج الحديقة، غير أنها أزعجت البيت والجيران بأنينها الاحتجاجى، وعندما أطلقها واستعادت حريتها اكتشف فيما بعد أن كلبته المصونة أصبحت حاملاً وفى رأسها جرح أليم، وتروى الساردة كيف أن أباها أطلق على الكلبة رصاصة الرحمة، وظلت الطفلة الصغيرة تتساءل فى نفسها هل قتل أبوها الكلبة شفقة على ألمها أم عقاباً على تمردها وخروجها، فإذا لاحظنا أن الأحلام لا تتسع عادة لفرز ذكريات الطفولة باعتبارها كذلك فإن بوسع القارئ بدوره أن يفسر خوف الساردة من الكلاب بأنه تعبير لا شعورى عن إنذار أخلاقى مرعب اقترفه الأب أمام بنته وظل يطاردها فى حياتها اللاحقة، وتمت ترجمته فى الحلم بطيف الكلب الأسود المرعب الذى لا يكف عن الظهور فى أحلامها. وقد تبدو الهواجس الشعرية فى وجدان الساردة التى كثيراً ما تتماهى مع الكاتبة فى شكل أحلام أخرى تتعلق بمنجزها الأدبى على وجه التحديد، فهى تقول مثلاً عن الحيوات التى تتلبسها فى الحلم »فى هذه اللحظة الغامضة أجدنى فى حياد كامل كمتفرجة، كأننى أنهيت مهمة حياتى وأنا هنا أطل من علٍ على حيوات أخرى، هل هى حيوات تلك الشخصيات التى كنت أتسلى بتشكيلها من لغتى الشعرية عادت وتلبستنى مرة أخرى، يحدث أن أؤثث قصائدى بشخصيات غريبة عن عالمى.. مرة كتبت قصيدة تتحدث عن جندى عائد من الحرب برجل خشبية، لا أذكر عنوان القصيدة بالضبط، لكن صورة شعرية تحضرنى الآن لرجل يضع رجله الخشبية عند عتبة الباب كل مساء قبل أن يذهب إلى سريره لينام تجعلنى أتساءل من أين جئت بهذه الصورة« ومع أن الملاحظة نقدية فى جوهرها فإنها لا تتلاءم مع معطيات شخصية الساردة التى لم تقدم لنا كشاعرة، وتضاف إلى سلسلة الاختراقات التى تجوب الرواية من عوالم الشاعرة الباطنية دون أن تلتزم بحدود السرد الذى يمنح مخلوقاته وجودها المستقل القائم بتأثيث مفرداته. متاهة الشخوص: التقنية البارزة فى هذه الرواية هى ابتكار شخصية ذات اسم له ظل عربى خفى »خوان رودريجو أميا« وظهوره عدة مرات بأشكال وأعمار متعددة تحمل الاسم ذاته، لكل منها حكاية مغايرة، تميزها الأرقام من 1 إلى 4 يقول أولهم: »أنا خوان رودريجو أميا، فى الحقيقة نحن أربعة، وربما أكثر، تناوبنا على حمل اسم رجل مات منذ قرن، ليس هناك ما يثبت أنه اسمه الحقيقى، غير شاهدة قبر مجاور لمثوى الموسيقار روبر شومان في القبرة القديمة لمدينة بون الألمانية « .وتشغل قصة خوان رقم 2 حيزاً كبيراً من السرد وهو الذى ظهر للساردة فى الحلم، فتعثر فى العلية التى كان يسكنها - فى الحلم أيضاً - على خطاب زوجته التى كتبته له قبل أن تهجره، وهو من أقوى فلذات الاعتراف التى تكشف عن أدق خلجات المرأة عندما تتحمل عذاب خيانة زوجها إبقاء لكيان الأسرة حيث تقول له: »كنت ممثلاً بارعاً، أقنعت نفسى بأن هامشاً من الحرية سيكون علاجاً لك، وابتعادك عن البيت سيجدد رغبتك فيه، ليست هناك كلمات يمكن أن تصف ألمى وانكسارى وقلة حيلتى وأنا أحضر حقيبة سفرك أو أفرغها عند عودتك فأجد مخلفات نساء بين ثيابك، فرشاة أسنان، مشط، شال، ما تمنيت لك شيئاً أكثر من أن تذوق ولو جزءاً من ذلك الألم، عشت حياة موازية.. من المستحيل أن أغفر لك، ليس لأنك خنت، بل لأنك أرغمتنى على خيانة نفسى وإهانتها حتى الإذلال ومخاصمة ذاتى، ولأن جسدى لن يغفر لى أبداً« هذا الخطاب بتفاصيله الحميمة من أقوى ما كتب فى الرواية العربية تجسيداً لمشاعر الأنثى المجروحة بخيانة الرجل ولا مبالاته، ويظل افتراض أن ذلك كله حدث فى الحلم من عجائب التخييل السردى، مثل الفندق المدهش الذى تخيلته الساردة فى مدريد والذى أوشكت أن أسأل أصدقائى من الإسبان عن حقيقة وجوده من شدة الإيهام بواقعيته حتى ليصبح اقتراحاً قابلاً للتنفيذ، وهو »فندق باسيودى لا لونا« أى ممر القمر أو درب القمر، فهو »مجمع للمعمار العالمى، شارك فى تصميمه معماريون مرموقون من بلدان مختلفة« يتألف من ستة عشر طابقاً، كل طابق له تصميم وديكور خاص يعرف بالطراز التقليدى للبلد، صينى، يابانى، إيرانى، أمريكى، فرنسى، مغربى، إنجليزي، مكسيكى، إسبانى، كأنك تدخل متحفاً فى الاستقبال تقدم المضيفة كاتالوجاً يصور الغرف وأسماء مصمميها وتعريفاً بتاريخ الأسلوب المعمارى للبلد الذى ينتمى إليه المصمم. يستطيع الزائر أن ينام كل مرة فى بلد مختلف، فى مرة سابقة تمت استضافتى فى هذا الفندق فاخترت غرفة ذات تصميم إيرانى، هذه المرة أشرت إلى الغرفة اليابانية السوداء، طابق غير المدخنين، كان الساعة تشير إلى السادسة حين استلقيت على السرير الأسود الواسع بعد أن أزحت الستائر لأؤثث ديكور الغرفة بقطعة من سماء زرقاء« هذا التشاكل الطريف مع واقع ليس له نظير فى الخارج يشهد بتوهج الخيال السردى وقدرته على الابتكار.. ولا تخفى الساردة استغراقها فى غواية الروايات ومتاهاتها، فتتذكر حكاية »جارثيا ماركيث« »طائرة الجميلة النائمة« وكيف أنها تشبه إلى حد كبير رواية »بيت الجميلات النائمات« للكاتب اليابانى »كاواياما« التى عاد »ماركيز« ليحاكيها فى »ذكرى عاهراتى الجميلات« هذه التداعيات الأدبية تضاعف من تماهى الساردة مع الكاتبة، فتضع نهاية لروايتها يمتزج فيها الواقع الذى تعانيه فى إحدى رحلاتها الشعرية إلى أمريكا اللاتينية مع رؤاها فى الأحلام، الأمر الذى يجعلها تستحضر بذكاء شديد حديث »بورخيس« عن النهايات الهشة غير المقنعة، لتعترف بأن شخصية خوان تشبه إلى حد ما شخصية »بدروسالبادوراس« فى روايته »مديح الظل« مع تبديل الاسم. وبهذا الهامش الأخير تتجاوز الكاتبة ما يمكن أن تواجهه من نقد، لأن التناص العمدى المشروع والمُعلن مع الأعمال الإبداعية يحفظ حق الملكية التخييلية بقدر ما يشف عن ثقافة الكاتب وقدرته على أن يسبح فى أفق كبار المبدعين واثقاً من قدرته الشعرية والسردية على دمغ عمله بطابعه الأصيل ورؤيته الخاصة.