'أكتب لأنسى، لأفرغ ذاكرتي على الورق وأصير طليقا، لأنسى وحدتي في هذا العالم' هكذا أطلق محمد أبو زيد سؤال الكتابة منذ اللحظة الأولى في روايته: 'أثر النبي' فالكتابة هي التي ستحرر الذات وتعينها على التحرر والنسيان، نسيان الألم والوحدة، فبعد خمسة من الدواوين الشعرية يصدر أولى تجاربه السردية. أبو زيد راهن فيها على كتابة سيرة المهمشين والمنسيين في لغة تجمع بين الشعرية والصوفية في صنع فضاء سردي مميز. هم المهمشون الذين يعيشون على هامش المجتمع لا يشعر بهم أحد، يتتبع أبو زيد حيواتهم في سرد مكثف شحيح إلا أنه متخم بالدلالات والإحالات التي يفرضها العالم الصوفي الذي يتناص معه، وكأنه استعار من الصوفية خطابها ولغتها المليئة بالإشارات والمكثفة بشكل كبير. أبطال الرواية هم مجموعة من شباب الجامعات الذين تشكل وعيهم السياسي والثقافي في عقد انتكست فيه الحريات والقومية والقضايا الكلية، شباب عاصروا حربي الخليج الأولى والثانية، وانكسر حلمهم مع الحلم العربي وموقف مصر السياسي الخارجي نحو القضايا العروبية. قدم هؤلاء الشباب من قراهم ومدنهم الصغيرة في العمق المصري ليكملوا تعليمهم في القاهرةالمدينة المرعبة التي أكلت روحهم وزادتهم تهميشا على هامشيتهم الاجتماعية والجغرافية. المشهد الأول أو الفصل الأول الذي عنونه ب'الدم' يلقي بكل خيوط الرواية التي سوف نراها ونجمعها فيما بعد، فالسارد أو البطل الذي يعتلي السلم ويدخل غرفته الآن ليتعثر في جثة زميله ودمه وقيئه يعطينا في جمل خاطفة نبذات عن أبطال الرواية أو زملاء السكن الجامعي الذي يسكنونه: 'مئذنة باب زويلة تلوح من الشباك، وجسد عادل هياكل ملقى أمام سريره على الأرض بارد تماما، الدم الذي تقيأه يملأ الأرضية، تجتاحني حالات متفاوتة من الرعب والغضب والرغبة في البكاء'. البطل منذ صغره يحلم بالحصول على قبس من أثر النبي، أثر النبي الذي حكى له جده عنه وهو صغير: 'أنتقل من شارع إلى آخر، كتابع يبحث عن نبيه، لا أجيد قص الأثر، لا دربة لدي ولا طاقة لأفعل، لا أثر لأي شيء، طوال الوقت أشعر أن كل شيء سينتهي بعد قليل، علي فقط أن أواصل التنقل والانتظار'. منذ اللحظات الأولى والسارد يغرق في الغربة، ليست غربة جغرافية فقط، بل هي غربة نفسية، وكأنه فر بغربته من قريته في الصعيد ليأتي وتبتلعه المدينة الكبيرة، فيبحث طوال الوقت عما حكى عنه جده الذي كان يأتي في رحلة صوفية إلى المدينة، ويعود ليحكي للطفل الصغير عن شخوص وحكايات، فحين يكبر الصغير، ويهرب بغربته إلى المدينة يتتبع أثر النبي، ويبحث عن حكايات الجد، فلا يجدها إنما يجد آلاما وطلابا يحملون غربتهم داخلهم، ونظاما يقهر الطلاب في الجامعات وأمن الدولة والأمن المركزي. تصاحبه في غربته مجموعة من الشخصيات لا تقل عنه غربة، فها هو القذافي من البحيرة، أبو العزايم من الشرقية، حمدي من بني سويف، يوسف من الأقصر، الشيخ سيد وعادل هياكل من الفيوم. تحمل كل شخصية من هؤلاء أحلامها البسيطة، حلم حياة المدينة، والتعبير عن الذات، والبحث عن فتيات قد يشاركنهم ذات الحلم: 'ينتهي الشيخ سيد من تناول العشاء، يجلس منتظرا حمدي الذي عليه الدور في إعداد الشاي الليلة، يلتقط كوب حلف البر الذي يفضل تناوله، ويبدأ سهرة كل ليلة مع القذافي وعادل هياكل وأبو العزايم في ركن الحجرة بالحديث عن بنات الغورية، وأفعالهن التي يشيب لهولها الولدان، أو بقراءة فصل من كتاب تحفة العروس الذي يخفيه حمدي عن أعين عم رجب حارس السكن'. دأب أبو زيد على أن يصدر كل فصل بنص صوفي يتناص معه، وبالطبع يأتي النص الصوفي بذاكرته المعرفية في ذهن القارئ، وتنوعت التناصات ما بين مقطوعات شعرية صوفية أو مدائح أو أغان ومواويل صوفية أيضا، يقول في مقدمة الفصل الأول الذي يقدم فيه لشخصياته يأتي بموال صوفي مكتوب بالعامية المصرية، وكأنه يبرر سرديا رحلة البحث عن الذات التي بدأها السارد إلى القاهرة، ليسكن في جوار آل البيت يقول: 'يا آل بيت النبي أمانة ما تفوتونيش.. عايز أنول مطلبي بس في حماكم أعيش. قال يا جريح الهوى إذا كنت غويت سافر إلى مصر واشكي لمولانا لسيدنا الحسين حالك .. هاتنول آمالك يا حبيبي وتتهنى مع الدراويش'. كما أنه يتناص مع نصوص شعرية صوفية مثلما تناص مع أبيات لابن الفارض حيث يقول: ما لي سوى روحي وباذِل تفسِه في حب من يهواه ليس بمسرفِ فلئن رضيت بها فقد أسعفتني يا خيبة المسعى إذا لم تسعفِ' ولقد افاد الكاتب من تقنيات التجريب في السرد، فقد خرج على كلاسية السرد، فلم يقدم لنا حكاية محبوكة أو تناميا زمنيا خطيا، بل يقدم لنا سرديات متجاورة كل سردية فيها تضيف قطعة من قطع البازل الذي يصنع منه لوحة مكتملة يسميها 'أثر النبي' كما أنه يتلاعب بالزمن ما بين الفلاش باك والزمن الآني في محاولة لقص أثر الإنسان الذي مات داخله منذ أن كان طفلا يحلم بالطيران على سطوح الدار وحتى أصبح شابا يحلم بطيران من نوع جديد في شوارع القاهرة، لكن حلمه بالطيران يجهض طوال الوقت، فلا يشعر بتلك النشوة التي يحلم بها، نشوة أن يعلو الجسد لأعلى، لأعلى، ثم يشعر بالخفة كام طائر يفرد جناحيه بعرض الفضاء، لكن السقوط دوما ينتظره، بدءا من موت الأم وهو صغير ومرورا بكل الخيبات التي أوصلته إلى حيث يقف الآن مرتعبا من موت زميله في الحجرة عادل هياكل، ورغم أن زميله عُرف أنه مصاب بالسل، وأنه وارد أن يموت وسط قيئه ودمه إلا أن الذات الساردة التي تعودت على الخوف والاضطهاد تخشى أن يُتهم بقتله. ولا تقف الرواية عند خيبات الأبطال الشخصية، بل يعمد الكاتب إلى أن يركز الكاميرا على الخيبات القومية التي شكلت وعي هذا الجيل وزادته غربة، فيتداخل الهم الخاص بالهم العام، فها هم طلاب الجامعات والشباب يثورون على دخول أمريكا العراق، وسقوط بغداد، سقطت بغداد وسقط الحلم العام، فلم يكتف الكاتب بحلم الطيران والسقوط للذات الساردة، بل أسقط الحلم العام بسقوط بغداد : 'في جرائد السبت: كانت صور المظاهرة في صدر الصفحات الأولى، كانت صورتي بعروق وجهي النافرة وأنا أهتف في طرف صورة في الصفحة الأولى من جريدة الوفد'، إذن حاول لملمة شتات الذات بأن يتلاشى همه الفردي في الهم العام، وكأن حلم الخفة والطيران تحقق حين نسي الهم الذاتي، فها هو يتصدر الصفحة الأولى هو وزملاؤه في مظاهرات الاعتراض على سقوط بغداد، لكن الأمن والنظام يقمعان التظاهرات، فلم يلق المتظاهرون إلا القهر والاستبداد 'أهرول من شارع شمبليون لشارع معروف لشارع عدلي هربا من الهراوات، أهرب من لا شيء إلى لا شيء، في المساء'. في لغة شفيفة وسرديات تشبه كادرات سينما خاطفة يتوالى السرد ليصور لنا شحنات الألم والبكاء التي تنتاب السارد ويتناص مع فيلم 'العصفور' وجاء استدعاؤه لفيلم العصفور لأنه يصور لحظات سقوط للأمة العربية والمصرية لا تقل عن سقوط بغداد، فمشهد النكسة وعبد الناصر الذي يحاول التنحي، والشعب الذي يطلع للشوارع ليجبره على عدم التنحي هو أشد المشاهد التي سيطرت على الناس، فمصر لم تتصور كيف تواصل دون زعيم أو بطل يأخذ بيدها ليخرجها من نفق النكسة المظلم، يجيد الكاتب اللعب بكادرات فيلم العصفور، فمحسنة توفيق بطلة الفيلم على مستوى الواقع كانت تشارك في المظاهرات التي تندد بسقوط بغداد، وعلى مستوى الفيلم كانت تستنهض الهمم وتصرخ صرختها الشهيرة وهي تجري في شوارع القرية 'هنحارب، هنحارب' إذن السقوط واحد وإن اختلف العصر، والقهر والألم واحد، ومحمد أبو زيد يختم روايته بمشهد عبد الناصر في الفيلم وهو يخبر الشعب المصري بقرار التنحي، وبطل محمد أبو زيد وهو يفر من كابوسية الواقع 'صوت عبد الناصر يواصل تلاوة خطاب التنحي في أذني: فإنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها، وقد اتخذت قرارا أريدكم جميعا أن تساعدوني فيه... أهرول والشوارع تزداد ضيقا، لا أشعر بثقل الحقيبة التي مزقت كتفي، تسقط جميع الأشياء من ذاكرتي، يقفز وجهك أمامي، أهرول أكثر'.