يبدو أنه من كبير المحتمل . أن الحكومة والأحزاب السياسية على حد سواء ، فقدت معقوليتها . حتى وإن راهنا على أنها كانت في حوزتها . فمن غير المعقول أن يتبنيا أطروحتين متناقضتين لا تستقيمان و العقل السياسي السليم . فمن جهة يسجلون ارتياحهم العريض لإقبال الكتلة الناخبة لما يتجاوز الأغلبية على التصويت لصالح الدستور الأخير. في حين يمتعضون لعدم الإقبال لنفس الكتلة على التصويت. إبان الإنتخابات التشريعية الأخيرة .والتي سجلت تدنيا صريخا ،ويتشاءمون بصدد الإستحقاقات المحلية والجهوية والإقليمية القادمة. ويعزون أمر ذلك الى عزوف الشباب عن السياسة. فلماذا إذن هذا التناقض ؟ وهل يكفي مؤشر الإستنكاف عن المشاركة في الإستحقاقات الإنتخابية للحكم بالعزوف عن السياسة ؟ . ألا يتطلب الأمر البحث في العوامل التي أدت اليه باعتباره (ظاهرة سياسية) تنامت عبر حقبة تاريخية منذ الإستقلال السياسي إلى الزمن الراهن ، وقد حاولت سلطة الحكم إخفاءها بممارستها الاستبدادية وبواسطة أجهزتها التحكمية طوال العقود الخمسة . ولنتساءل ,فهل نعتبر اعتراف سلطة الحكم بتلك الممارسات (عودة الوعي)الذي تبنته ورعته بمعية الشعب ممثلا في رموز المقاومة وجيش التحرير والوطنيين خلال فترة الاستعمار ؟ ألم يحن الوقت لمراجعة الذات ودراسة( الظاهرة)بمقاربة عملية ومعرفية، تسمح بالإنخراط السياسي للجميع ،في بناء دولة حديثة ومؤسسات ديمقراطية دون الاستكانة لتبريرات خرافية منعدمة الفعالية و التأسيس. ؟ ! وقبل الخوض في شأن هذه الظاهرة, نرى من الضروري بمكان أن نحدد المفاهيم السياسية المستعملة في هذا الحقل . في واقع الأمر أن ( الإستكناف ) وليس ( العزوف )ليس عن ( السياسة ) ،ولكن عن التسيس ، إذ شتان ما بين التسيس أي الإنتماء الحزبي وبين الاهتمام بالشأن السياسي . وعليه تكون السلطة السياسية والأحزاب جزءا من الإشكال، وليس جزءا من الحل، ويصبح من الضروري الا تقف عند النتائج بل أن تمتد لمعالجة الأسباب . وإذا كان من الأكيد أن هناك عودة الوعي السياسي للطرفين معا ، وأن هناك أيضا اعتقاد راسخ بتوفر الشعب المغربي على ثقافة سياسية .تتفاوت في مراقيها من فئة الى فئة . ومن زمرة الى زمرة ، ومن شرائح الى شرائح . فإن ما يتوجب القيام به في المرتبة الاولى .هو استحضار الذاكرة السياسية للسلطة والاحزاب ،في أية معالجة لهذه الظاهرة السياسية : اي الإستنكاف عن المشاركة الإنتخابية والتسيس الحزبي . وليس العزوف عن السياسة . إذا أن الترويج لمفهوم ( العزوف ) يضع مستعمليه ، وبإصرار منه ، خارج المسؤولية السياسية. ويعفي ذاته من أن يكون احد العلل المباشرة . وبديهي أن ما يموج به البلد من تظاهرات واحتجاجات يومية وإضرابات وظهور جمعيات و أحزاب وبروز زعامات ليست إلا تجليات لثقافة سياسية ،وتمظهرات لمواقف وتموقعات سياسية تنامت عبر الأجيال . فباتت مخزونا لذاكراتنا الجمعية والتي ساهمت كل ذاكراتنا الفردية بنصيب قل أم كثر .فلنعد اليها إذن. يعتبرموريسهالفاكس (mauricehallwacks ) من أهم علماء الإجتماع الفرنسيين الذين اهتموا بمسألة مستويات العيش وخاصة ما يهم تطور رغبات المجتمع . وأن أعماله عن الذاكرة تظهر بالتأكيد ، بأن الذاكرة لا يمكن تحديد طبيعتها الا بالرجوع الى الحياة الإجتماعية وبيان ارتباطها بالتغير الإجتماعي , و ارتباطنا بالغير autrui و بأحداث وكوارث وأفراح الخ... و قد بسط نظريته عن الذاكرة كظاهرة اجتماعية في مؤلفه الأطر الإجتماعية للذاكرة ( les cadres sociaux de la mémoire ) . وعليه ، فإن ذاكرتنا ليست الا ذاكرة اجتماعية . ولهذا فإن المغربي أو المغربية . لا تتعرف ولا تسترجع ولا تستثير إلا من لاشعور جمعي يكسب الذكرى هويتنا المجتمعية ، بفعل ما سماها ( هالفاكس ) بالأطر الإجتماعية . وعليه فإن ذاكرتنا طافحة بسيل من الذكريات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية . وفي هذا الإطار يمكننا الاستناد إليها لتحديد العلاقة العضوية بين الفعل السياسي كرغبة في تطوير مستويات الحياة ، والرغبة في المشاركة في صياغة التصور الكفيل بالتطور هذا . وحري بنا في هذا المقام أن نستدرج من مخزون تاريخنا السياسي المعاصر . مؤشرات لعبت دورا أساسيا وفاعلا في تحديد المواقف و المواقع إزاء الخيارات السياسية المتبناة . 1- في بداية الإستقلال طالبت شخصيات سياسية من عمق القوى الفاعلة والمدبرة للشأن العام السياسي آنئذ ، بمعية المؤسسة الملكية ، بإنشاء مجلس تأسيسي ، مهمته صياغة دستور ديمقراطي يؤسس لدولة ديمقراطية حديثة، على أن يتم انتخابه من الشعب عبر صناديق الإقتراع, إلا أن مطلب انتخابه قوبل بالرفض من المؤسسة الملكية ، وشكلت بدله مجلسا استشاريا معينا وضعت على رأسه الزعمين المهدي بنبركة وعلال الفاسي . وكان هذا الأخير أول ( غطاء سياسي ) مارسته سلطة الحكم . أي تحويل مطلب مجلس تأسيسي منتخب الى مجلس استشاري معين . ما فتئ أن أفل . وكان من نتائجه وضع دستور للمملكة عرض في بداية الستينات للإستفتاء . سجلت إثره معارضة بل ومقاطعة للإستفتاء من اليسار السياسي القائم إذاك. فتوضحت بفعله أهم خريطة سياسية ميزت بين مختلف القوى السياسية المعارضة منها والمؤيدة لهوية الحكم ، المحافظة والديمقراطية . وجندت له الأطراف المتناقضة كل الوسائل إما لإقراره و إما لإسقاطه . فكان هذا الخلاف بمثابة أولى الخطى للمبارزة السياسية بين القصر والمعارضة . فكانت أولى ذكرياتها تستقر بمرتع الذاكرة السياسية, مع العلم بأن ما أسردته ليس إلا نماذج محدودة من تاريخنا السياسي . 2- أوعز للسيد رضى كديرة ومن معه تأسيس حزب سياسي عرف بجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية . والسيد رضى كديرة كان عنصرا أساسيا في المشهد السياسي المغربي ومهندسا للمجرى السياسي ، قلدته المؤسسة الملكية مناصب سيادية مؤثرة في الأحداث السياسية والدبلوماسية في الداخل والخارج إذ كان مديرا للديوان الملكي ووزيرا للداخلية في أحلك الظروف . ووزير الخارجية باعتباره مفاوضا ومحنكا ، ومستشارا للقصر. ويعد حزب كديرة ومن معه غطاء سياسيا آخر يسكن ذاكرتنا السياسية . وفي الحقيقة أن ما يمكن استخلاصه من نشاط الحزب الذي لم يعش طويلا ، أنه حزب لمجابهة القوى السياسية والإجتماعية المعارضة والمتمثلة وقتئذ في الإتحاد للقوات الشعبية والإتحاد المغربي للشغل . وكانت هذه التنظيمات تضم في صفوفها وزعامتها أعضاء المقاومة وجيش التحرير . ولهذا دلالته التاريخية والسياسية . وقصدي هنا أنه كان للدلالة هاته ، أثر كبير في تعبئة الجماهير وفي انخراطها السياسي في النقابة والحزب وفي تعاطفها مع المواقف الحزبية تجاه السلطة الحاكمة . 3- إنتفاضة سنة (1965) والتي رفع المنتفضون خلالها ، سقف المطالب والشعارات إلى الأعالي وبالمقابل رفع خلالها الحكم سقف التعذيب والقتل والإخفاء والإختطاف إلى أعلى يتجاوز كل التصورات والإحتمالات . إذ كان ما يغلب على المشهد السياسي . الفعل وردة الفعل ،والتهم المتبادلة بين الندين . وبالفعل فإن مخلفات هاته الإنتفاضة نقشت أثارها بذاكرة المغاربة وظلت وشما ساطعا في تاريخ النضال السياسي ،أعمق مما سبق وما لحق . ولازالت أثار تلك الحقبة بادية في بعض الأسر البيضاوية . وجدير بالتنبيه الى أن المطالبة السالفة لازالت حية وخاصة المطالبة بالمجلس التأسيسي . ورغم مباشرة السلطة لما سمته بالمنهجية التشاركية في صياغة الدستور . فإن أحزابا يسارية وديمقراطية وما أصطلح عليه بحركة ( 20 فبراير) قد قاطعوا دستور( 2011 ) بل رفعوا شعار المجلس التأسيسي ومطالب أخرى. إن الذكريات لاتموت ، فهي تارة تتسلل خلسة ، وتتسرب عبر الأجيال لأنها تتسرب في الذاكرة السياسية وما هو أهم أن الأطر الإجتماعية تغذيها وتوقظها لرسم المواقف السياسية الراهنة والتاريخية وإذا كان لا يوجد شعب بلا ذاكرة ، فلا يوجد سياسي بلا ذاكرة . 4- ومن النماذج البارزة أيضا اعتقالات سنوات الرصاص التي امتدت لسنوات . والتي بدورها تركت آثارا جسيمة في الذاكرة السياسية ومخلفات معنوية ومادية لازالت فئات من المناضلين تعاني من آثارها المدنية و الصحية . 5-إعتقال زعماء اليسار وسلبهم حريتهم . إما بالسجن وإما بالإقامة الجبرية . لأنهم عبروا عن رأيهم في قضايا سياسية تهم البلاد والعباد . 6- تجييش السلطة الحاكمة لجيوش الإستخبارات والأ عوان والمخبرين ،مدنية وأمنية وعسكرية .لمراقبة السياسيين والمناضلين للتلصص والتجسس عليهم ، وعد أنفاسهم والتنكيل بهم وبعائلاتهم وحرمانهم من العيش الكريم . 7- دأبت مؤسسة السلطة الحاكمة على خلق غطاءات سياسية مطردة طول العقود المتوالية . ففرخت عدة أحزاب سياسية ، دعتها المعارضة بالأحزاب الإدارية ، لسببين اثنين : أولهما لكون مؤسسيها أنشأوها وهم على رأس حكومة معينة ،وسخروا لنشأتها إمكانيات , وانتظموا لها موظفين من الإدارة العمومية, من الموالين والوصوليين وثانيهما إعتناقهم للمنهج السياسي للدولة . وهو المنهج اللبيرالي المتبنى من السلطة الحكومية في الإقتصاد . وليس كأسلوب في الحكم ، وفي تدبير الشأن العام لأجل مناهضة الأسلوب الإشتراكي المتبنى من الأحزاب ذات التوجه الإديولوجي الإشتراكي و الإشتراكية الديمقراطية وهكذا عجت الساحة السياسية بمزيد من القيم الإديولوجية والسياسية . كمااغتنى القاموس السياسي والإجتماعي ولنقل قاموسين متناقضين اجتهد مريدهما في الدفاع عن جدواهما في إقامة مجتمع تسوده قيم الحرية والمساواة والعدل والعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان . وقد شكل هذا الملأ السياسي ،خارطة سياسية واضحة المعالم . كما ساهم بشكل جيد ومكين في تشكيل الرأي العام الوطني ،كما أثار فضول القوى العظمى لتكثيف مراقبتها للوضع السياسي للبلد ، والبحث عن حلفاء لها من السلطة والقوى السياسية على حد سواء .إما للحصول على مصالح لبلادها ، وإما للترويج لمعتقداتها الفكرية والسياسية تحت غطاء التعاون والنماء والمساعدة . وما يهمنا في هذا السياق, هو أن جميع الأساليب الممارسة المومأ إليها أعلاه ، لم تمر مر الكرام ولم تأفل من الساحةُ إلا لتنغرس في الذاكرات الجمعية للأفراد والزمر والفئات والطبقات لتبلور فعالية الذاكرة السياسية الوطنية ، وتفرز مواقف سياسية . وتموقفات وجدانية . تتحكم في الرأي إزاء الآخر وفي أجرأته وتصريفه في المجال السياسي والإجتماعي . بالإضافة الى المهتم وصاحب الرأي السياسي وإلى اللًامبالي بالشأن السياسي ،وبأللانتماء المواطني . وحال ما يبرز شأن ما أو قضية ما , تبرز معه الآراء والعواطف ، وتعمد إلى خزان الأطر الإجتماعية للذاكرة ، فتتحصل المواقف ايجابية و سلبية تجاهها . إن ما يعيشه المغرب يوميا من حركية اجتماعية وسياسية ، لجميع الفئات العمرية وفي مجالات متعددة . للاحتجاج على الأوضاع والمطالبة بالعدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان والديمقراطية الحق لخير دليل على أن أطروحة العزوف السياسي غير واردة البتة في حياتنا السياسية ،وإنما هو نوع من عدم الرضا عن أوضاعهم من ناحية ، واحتجاج على عدم نجاعة التوجهات السياسية للدولة والحكومة والأحزاب . تتجلى في عزوفهم عن التسيس الحزبي وفي استكنافهم عن المشاركة في الإستحقاقات الإنتخابية . فيؤمون الشوارع في كل مناسبة للتعبير عن مواقفهم المضادة. ما دام ما يعرض عليهم من اختيارات سياسية و توجهات اجتماعية عليهم ، لا ترضي طموحهم السياسي ، ولا تجد لديهم رضى في قلوبهم و عواطفهم المحايثة للذاكرة السياسية للمواطن المغربي . والتي تظل يقظة فعالة عبر الأجيال والسنين .