إعلان كديرة عن تأسيس حزب، لا يكفي لتبرير حصول هذا الحزب الذي أنشئ قبل الانتخابات بشهرين فقط، على «الأغلبية الساحقة»، أمام الاتحاد الوطني الذي يضم العمال والفلاحين والتجار الصغار وجماهير المدن والمثقفين إلخ، والذي برهن أثناء انتخابات الغرف التجارية والانتخابات الجماعية قبل سنتين عن شعبيته الواسعة 1 دستور ممنوح.. شكل من أشكال الاختلاس السياسي... كانت أخبار قد تسربت قبيل المؤتمر وبعده عن وجود خبراء فرنسيين في المغرب كلفوا بوضع مشروع دستور للمملكة. وقد تعرضت اللجنة الإدارية المنبثقة عن المؤتمر في اجتماعها الأول لهذا الموضوع فأعربت عن معارضة الاتحاد للدستور الممنوح والتمسك بالمجلس التأسيسي. لم يعر الحكم الفردي أي اعتبار لموقف الاتحاد، فلقد تمكن، كما شرحنا في فصل سابق، من تحقيق »احتماع حزبي» ضد الاتحاد. و هكذا ففي يوم 5 نونبر 1962، أعلن عن إجراء استفتاء للتصويت على دستور ممنوح. فبدأت حملة الاتحاد ضده ببلاغ للكتابة العامة صدر يوم 8 من الشهر نفسه. فجاء »الجواب» بعد ثلاثة أيام فقط: لقد تعرض الشهيد المهدي يوم 12 نونبر لمحاولة اغتيال بواسطة حادثة سيارة مدبرة سرعان ما انكشف مدبروها من الفرقة الخاصة من البوليس. دعيت اللجنة المركزية للاتحاد للانعقاد يوم 14 نونبر 1962 فأصدرت بلاغا جاء فيه: «بعدما حللت الوضعية التي نشأت عن قرار الحكم المطلق بالقيام باستفتاء في موضوع دستور مصنوع، طبخ في الخفاء وبمساعدة فنيين أجانب في خدمة الاستعمار القديم والجديد... تنبه الى أن ما سمي بالاستفتاء في نطاق الحكم الفردي الاقتطاعي القائم منذ سنة 1960 إنما هو عملية منافية من أساسها للديموقراطية وشكل من أشكال الاختلاس السياسي.. وأن الغرض من عملية الاستفتاء في الظروف المذكورة أعلاه هو في الحقيقة تزكية لدستور و ضع لتقنين نظام الحكم الفردي المطلق». قرر الاتحاد الوطني إذن مقاطعة الاستفتاء الذي أعلن عنه الملك الراحل يوم 18 نونبر 1962 في خطاب على أمواج الإذاعة. وقد تولى الأستاذ عبد الهادي بوطالب كاتب الدولة في الأنباء الملحق برئاسة الحكومة. فقرأ بنود الدستور في الإذاعة وشرحها شرحا ضافيا. وتجند كديرة مدير دفة الحكم المطلق للدعاية في أبواقه لهذا الدستور الممنوح كما تجند زعماء الأحزاب الأخرى. كيف لا وهي جميعا مشاركة في الحكومة التي يسيرها كديرة نيابة عن الملك! 2 كديرة يؤسس حزبا قبل الانتخابات بشهرين...! نال الاستفتاء من الأصوات ما شاءت له وزارة الداخلية التي كان علي رأسها أحمد رضا كديرة, مدير دفة الحكم الفردي المطلق الذي تحدث في مناسبة سابقة عن استفتاء نتيجته 105 في المائة. وبدأ الحديث عن قرب إجراء انتخابات لمجلس النواب، ثم حدد لها تاريخ 17 ماي 1963. وحتى لا يفاجأ الحكم الفردي بنتائج تشبه نتائج الانتخابات البلدية لعام 1960 أخذ يعد العدة. ولكي يبرر النتائج التي يريدها، كان لابد من هيأة سياسية موالية للحكم الفردي تنال الأغلبية. وهكذا أعلن كديرة في مؤتمر صحفي عقده يوم 20 مارس 1963 في فندق المنصور بالدار البيضاء عن قيام حزب جديد برئاسته. وكان مديرا للديوان الملكي ووزيرا للداخلية والفلاحة الخ. ولم يكتف كديرة بشخصه وحوارييه, بل أراد أن يمنح لحزبه الجديد تزكية رجال دولة الحكم الفردي جميعهم. وهكذا حضر إلى جانبه أثناء مؤتمره الصحفي أحمد أباحنيني وزير العدل والمحجوبي أحرضان وزير الدفاع والدكتور عبد الكريم الخطيب وزير الصحة والشؤون الإفريقية، وأحمد العلوي وزير السياحة والصناعة التقليدية والفنون الجميلة، وأيضا إدريس السلاوي ومحمد الغزاوي، والكولونيل أوفقير مدير الأمن الوطني. وفي هذا الندوة أعلن كديرة عن تأسيس الفديك (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية). وقد جاء الإعلان عن تأسيس »الفديك« شهرين قبل الانتخابات البرلمانية. فالعملية إذن مفضوحة ومقصودة. والمستهدف معروف واضح: إنه الاتحاد الوطني. 3 صفقة مشينة... و«الحضيض الذي وصلت إليه بلادنا» على أن إعلان كديرة عن تأسيس حزب، لا يكفي لتبرير حصول هذا الحزب الذي أنشئ قبل الانتخابات بشهرين فقط، على »الأغلبية الساحقة«، أمام الاتحاد الوطني الذي يضم العمال والفلاحين والتجار الصغار وجماهير المدن والمثقفين إلخ، والذي برهن أثناء انتخابات الغرف التجارية والانتخابات الجماعية قبل سنتين عن شعبيته الواسعة، إذ حصل على أغلبية المقاعد في وقت كان فيه معظم قادته إما في الغربة بالخارج وإما في السجون! كان لابد إذن من مبرر »معقول» تفسر به هزيمة الاتحاد في الانتخابات المقلبة. وقد اهتدى كديرة إلى هذا المبرر فعقد صفقة في فندق المنصور نفسه تقضي بمقاطعة الاتحاد المغربي للشغل للانتخابات، وبالتالي حرمان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من أصوات الطبقة العاملة. كان من الطبيعي أن يخلق هذان الحادثان الموجهان ضد الاتحاد (حزب كديرة بحضور) رجال الدولة»، وصفقة فندق المنصور) جوا متوترا في المغرب، وفي صفوف الاتحاد وقيادته. وقد عكست »»التحرير«« ذلك في ردود فعل قوية، منها افتتاحيتها يوم 21 مارس 1963، التي كتبها الشهيد المهدي، وقد ورد فيها ما يلي: «الظروف التي يعيشها المغرب أرادت أن يصبح كديرة قائدا لحزب جديد وزعيما لجبهة سياسية تريد أن تنتقذ المغرب من التعفن والخلط وتسلك طريق الاستقامة. وأرادت هذه الظروف أن يصبح هذا الشخص يتكلم عن ماضي المغرب وكفاح شعبه من أجل التحرر السياسي والاقتصادي، وخول له الحكم المطلق أن يصبح محل ثقته المطلقة وأن يصبح كذلك الناطق باسم الوطنية والتضحية ومواصلة «الكفاح» من أجل الحفاظ على مبادئنا وقيمنا وأهدافنا... بل خول له الحكم المطلق أن يتكلم باسم الشعب المغربي. فهو «الحاكم بأمره» يتصرف في أموال الشعب كيفما شاء، ويقرر في حاضر المغرب ومستقبله، ويأمر الموظفين كبارا وصغارا بالدخول في جبته». وتنتهي الافتتاحية بالتساؤل: «فهل كان من المنتظر أن يكون يوما هذا الوضع في المغرب؟ وهل كان من المنتظر أن تؤول الأحوال إلى ما آلت إليه؟»، وتجيب: »نعم ذلك كان منتظرا، بل تحقق حرفيا مثلما كان البعض يتصوره في سنوات 58,57، وحتى في سنة 1959. لذلك يحق للسيد كديرة أن يصول ويجول. أما نحن فعندما يتكلم السيد كديرة فإن فكرة واحدة تستقر في أذهاننا وهي درجة الحضيض التي وصلت إليها بلادنا». على أن أقوى رد على هذا الاتجاه المكشوف الذي اتخذه الحكم الفردي في المغرب إنما نقرؤه في نصين: أحدهما حوار مع مجلة »جون أفريك» نشر باسم الشهيد المهدي والمرحوم عبد الرحيم معا، وترجمته «التحرير» ونشرته يوم 10 أبريل 1963، والثاني بيان الى الشعب المغربي أصدرته الكتابة العامة للاتحاد يوم 2 يونيو والتي أعلنت فيه عن قرار الاتحاد بالمشاركة في الانتخابات النيابية. 4 المهدي وعبد الرحيم: «إن كديرة ليس إلا ظل مولاه» من جملة ما ورد في حوار جون أفريك على لسان الشهيد المهدي والمرحوم عبد الرحيم ما يلي: «نحن جديون على رأس هيئة جدية، وغير وارد لدينا أن يكون خصمنا السياسي رجلا لا كيان له ولا يمثل أي شيء كالسيد كديرة. فلا يجب أن نفسح المجال للغموض, إذ أن خصمنا الحقيقي هو الذي رفض الاضطلاع بالمهمة التي هي مهمته الطبيعية أي مهمة الحكم (يفتح الكاف) حيث يتعين على الحكم أن يضع نفسه فوق الأحزاب، ولكن الذي نشاهده الآن هنو أن الحكم تحول الى رئيس كتلة من المصالح، ونعني بذلك الملك. إن كديرة ليس إلا ظل مولاه وليس له وجود سياسي خاص إلا الوجود الذي يجعل منه المعبر الأيمن عن وجهات نظر مولاه. فلو أن الملك قرر غدا الانفصال عنه فلا شك أنه سيعود الى ما كان عليه، أي لا شيء. ومن السهل أن نلاحظ أن الملك عندما أراد الانفصال عن القوات الشعبية فإن النتيجة لم تكن مثل ذلك. وقد بقيت الحركة الوطنية نشيطة حية بعد هذا الانفصال، فكديرة ليس إلا أداة لسياسة معينة ينهجها القصر، وليست الأداة هي التي تهمنا بل تهمنا هذه السياسة المعينة» »وعن سؤال حول موقف الاتحاد من الملكية، قال القائدان الاتحاديان: »إن المسألة ليست معرفة ما إذا كان رئيس الدولة ملكا أو رئيس جمهورية، وليس لهذا سوى أهمية ثانوية. والأهم من ذلك هو إخراج البلاد من التخلف ونحن نؤيد جميع الذين هم مستعدون للقيام بهذه المهمة، إلا أنه يجب أن تتوفر الرغبة الصادقة في القيام بهذه المهمة لا أن تنشأ مؤسسات عتيقة تصاحبها مظاهر أبهة تكلف غاليا، وارتشاء على جميع المستويات، ورئيس دولة هو في نفس الوقت رئيس حكومة، يتصرف تصرف المالك في أملاكه. إننا يجب أن نتفق على هذا: إن المغرب ليس ملكا لأحد. ولكننا لا نستطيع أن نكون ملكيين أكثر من الملك. وإذا كان هناك من يحارب الملكية فهو الملك نفسه، أليس يعد تخريبا للملكية أن توضع الدولة بين أيدي أناس لا يتوفرون على أي سند شعبي، أليس من تخريب الملكية أن تعرض للسخرية من جراء القضية الموريطانية؟ أليس من تخريب الملكية أن يتسلم الملك السلطة مباشرة أي يعرض نفسه للانتقاد؟ أليس من تخريب الملكية أن تتركز السلطة بين أيدي رجل واحد يكون الوزراء لديه مجرد أدوات للتنفيذ، وأن يفسح المجال للامسؤولية في جميع مستويات الدولة».... تلك فقرات من تصريح مشترك أدلى به الشهيد المهدي و المرحوم عبد الرحيم قصدا منه وضع النقط على الحروف، في ما يخص ظاهرة كديرة. 5 لا سبيل لإصلاح النظام الإقطاعي، فلا دواء له غير زواله وجاء بيان الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أعلنت فيه يوم 2 ماي عن المشاركة في الانتخابات النيابية التي تقرر إجراؤها يوم 17 ماي من نفس السنة (1963). وكان هو الآخر من القوة والوضوح ما جعله يتناسب مع الحملة الانتخابية التي قرر الاتحاد خوضها ضد حزب كديرة والمتحالفين معه، القدماء منهم والجدد. وقد نشرت »»التحرير«« هذا البيان تحت عناوين تلخص مضمونه وتقدم عربونا على لهجته، تقول هذه العناوين: - الاتحاد الوطني ينادي الوطنيين المخلصين وكافة مناضليه لقطع الطريق في وجه عملاء الإقطاع والاستعمار الجديد , الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يفتح واجهة جديدة ليخوض المعارك في نفس الميدان الذي اختارته الرجعية لهزيمتها - لا مجال للتهادن، فأحرى الانسياق معه، بل لا دواء له غير زواله - لن يخطر ببال أي و احد من نوابنا كيفما كان عددهم أن يخضع لمنطق الواقعية الانتهازية البلهاء الذي يقضي بالانسياق مع النظام ومشاركته المسؤولية«. ويضيف بلاغ الكتابة العامة: «ستكون مهمة نوابنا توضيح وتوعية وتربية وتفهيم الرأي العام. وبصفتهم وكلاء عن الشعب سيكون من واجبهم أن يعبروا عن الإرادة الشعبية في وجه السلطة الاقطاعية المسخرة للاستعمار الجديد. ولقد تعهد جميع الإخوان الذين يتأهبون اليوم لخوض هذه المعارك بأن يكون سلوكهم في كل حين وفق توجيهات منظمتنا وأن يعملوا في مجلس النواب بروح الوئام والامتثال من أجل نصرة مذهبنا وتحقيق مطامح الشعب. إنهم سيخوضون المعارك في نفس الميدان الذي اختارته قوى الرجعية لهزيمتها. إننا نعلم أن هذه المعارك ليست إلا جانبا و احدا من جوانب نضالنا الثوري، إذ أن أهم أهدافنا لن تتحقق عن طريق البرلمان، إن كان هناك برلمان، بل ستتم بحول الله خارج البرلمان، و بفضل العمل المنظم الذي تقوم به الطبقة الكادحة والفلاحون والشباب والمثقفون الثوريون».