في بداية الستينيات عرف المغرب عدة متغيرات، فقد تم تسريح حكوة عبد الله ابراهيم سنة 1960، وتمت تنحية جيش التحرير. وخنقت الحريات، الشيء الذي ترجمته سياسات الحسن الثاني بعد توليه العرش سنة 1961. في هذه الفترة عاش التيار القومي العربي أقوى لحظاته، وبرز التيار اليساري في الساحة العربية، حيث شكل نموذجا قوياً لعب دوراً أساسي في دعم حركات التحرر في القارات الثلاث – افريقيا، آسيا وأمريكا- إضافة إلى الديناميكيته على المستوى الدولي مده الجماهيري على المستوى الداخلي الذي أكسبة قوة تهدد الأنظمة التي خلفها الاستعمار. ويعتبر المهدي بن بركة أحد أبرز الوجوه اليسارية اتي ظهرت في تلك الفترة، فقد كان من مؤسسي منظمة القارات الثلاث ، إضافة إلى موافقه البارزة ونضالاته ضد النظام المخزني بالمغرب، وكمثال على ذلك فقد دعى إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوري لسنة 1962 باعتباره نصا يزكي الطابع المطلق للسلطة الملكية على حساب ملكية برلمانية ديمقراطية ، مستنداًفي موقفه لتحليلات عميقة للوضعية الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية بالمغرب، إضافة إلى تفسيرات حول آليات القوى الاستعمارية لضمان مصالحها عبر تكريس نظام الملكية المطلقة، وهو ما شرح في وثيقة الخيار الثوري. التي ساهم في صيغتها كل من المهدي بن بركة، عبدد الله العروي، محمد اليازغي آخرون، والتي تم نقاش بعض نقاطها في المؤتمر الثاني لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1962، قبل أن تنشر سنة 1965 (بعد اختطاف المهدي بن بركة). فما هي العناصر التي بنى عليها المهدي بن بركة تحليلاته؟ وكيف أثر موقفه من الملكية على المسار انضالي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟ • تحليل المهدي بن بركة للوضعية الاقتصادية، الجتماعية والسياسية بالمغرب وعلاقتها بالنظام السياسي السائد: عبر المهدي بن بركة عن نظرته للأوضاع الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية عبر مجموعة من المنابر، كما أدرجها في وثيقة الخيار الثوري. وهي وثيقة هيئها بمنفاه الاضطراري الأول قبل أن يعود إلى المغرب لحضور المؤتمر الوطني الثاني لحزب الاتحاد الوطني في ماي 1962. رغم أنها لم تطرح كوثيقة للنقاش فقد تم تمريرها من خلال مشروع المقرر التنظيمي. . وعليه سنحاول في هذا المحور الحديث عن تحليل المهدي بن بركة للوضعية الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية بالمغرب، وكيف تم ربطه بالنظام السياسي السائد (الملكية المطلقة)، لكن قبل ذلك سنحاول سرد مجموعة من الأرقام التي تظهر الحالة الاقثصادية والاجتماعية للمغرب، وهي مقدمة من طرف الدكتور محمد الحبابي نائب مدينة الرباط وأستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة الرباط عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في تقرير قدمه لمجلس النواب سنة 1965، وسيكون كأساس نبني عليه تحليل المهدي بن بركة التي طرحها من خلال الخيار الثوري. تحدث التقرير عن ارتفاع بالأسعار خاصة أسعار المواد الأساسية، فثمن السكر مثلا ارتفع إلى ضعفه خلال الفترة مابين غشت 1963 وماي 1964، من 106 فرنك إلى 191 فرنك للكيلو الواحد، مع العلم أن العالم القروي يستنزف حوالي 60 في المئة من الميزانية النقدية في العالم القروي. وطبقاً للأرقام الاستدلالية فإنها تكشف عن ارتفاع عام وكبير للأسعار، ففي الفترة ما بين مارس 1964 ويناير 1965 كان ارتفاع غلاء المعيشة يصل إلى نسبة 5،11 بالمئة. وفي مقابل ارتفاع الأسعار هناك تجميد في الأجور في نفس المستوى بالنسبة للعمال والموظفين منذ سنة 1956. ورغم أن القانون يلزم الحكومة بزيادة الأجور بعد ارتفاع الرقم الاستدلالي لغلاء المعيشة إلى نسبة 5 بالمئة، فإن الحكومة جمدت الأجور للعمال منذ سنة 1963 رغم الارتفاع ال سجلته الأرقام الاستدلالية الرسمية والذي بلغ 23 بالمئة، كما أن النمو الديمغرافي في ارتفاع بنسبة 3 في المئة في السنة منذ 1961 التي وصل بعدها إلى نسبة 10 بالمئة . مثل هذه الأرقام جعلت المهدي بن بركة يعتبر بأن نتائج النظام في الميدان الاقتصادي سيئة جداً، خصوصا في ظل ارتفاع الأسعار وعدم توفر سوق الشغل لأفواج المتخرجين، إضافة إلى استفحال الضرائب التي تهدد مصير صغار الحرفيين والتجار. وإن صمود الدولة في تلك الفترة ليس إلا بفضل المساعدات الفرنسية والأمريكية، أما استمرارها في نهج نفس السياسات فلن يؤدي إلا إلى عجز في ميدان المدفوعات الخارجية . كما تحدث التقرير الذي أعده محمد الحبابي عن الانتاج الفلاحي لموسم 1959-1960 الذي سجل انخفاضا بنسبة 5 بالمئة مقارنة مع سنة 1950، هذا مع ازدياد التضخم الديمغرافي الذي يزيد بنسبة2،3 بالمئة سنوياً، وبالتالي فإن مستوى حياة البادية انخفض منذ سنة 1960 بنسبة 30 بالمئة. هذا بالإضافة إلى انخفاض الانتاج الوطني بالنسبة لكل فرد بنسبة 6 بالمئة ما بين سنتي 1960- 1964 . هذا ما عبر عنه المهدي بن بركة في تقديمه للخيار الثوري حيث قال " لقد كان القصر يعتقد أنه يستطيع انقاذ نفسه بسلوك سياسة ديماغوجية رخيصة، في جو من الحفلات المتواصلة، ووسط ضجيج الدعاية لمشاريع خيالية تموت قبل ولادتها... وكانت بعض قطاعات الفلاحين تخدرها بمشاريع الانعاش الوطني التي لم تكن إلا شكل من أشكال أوراش البر والإحسان... وها هو اليوم يواجه حالة جديدة، فإن مشاريع الحكومة انتابها الفشل، وسياسة التصلب الرجعي قد أفلست..."، فقد أرجع سبب فشل مشروع الانعاش الوطني إلى عدم المساهمة الفعلية للفلاحين، كما أن فشل السياسات الاقتصادية راجع لعملها على إرضاء مصالح الاستعمار الجديد . أما على المستوى السياسي فقد كان المهدي بن بركة من دعاة مقاطعة الاستفتاء الدستوري لسنة 1962. والذي رغم ذلك فقد صودق على النص الدستوري بنسبة 10،80 بالمئة من المصوتين. وهي أرقام صادرة عن ادارة تخضع للأوامر أكثر مما تلتزم الحياد . وقد عبر عن ذلك موقف بن بركة الذي قال بأن " التجربة الدستورية فشلت لأنها فرضت على الشعب في دجنبر 1962، أسلوب حكم جائر يقوم على احتقار مطامح الشعب ويبيح لنفسه كل أساليب التلاعب والتزوير لمسخ تمثيل الإرادة الوطنية" . وهذا ما عبر عنه عبد الرحيم بوعبيد في اجتماع بمقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدار البيضاء انعقد قبل الاعلان عن حملة الاستفتاء على الدستور، حيث قال " إن الدستور الذي يريده الشعب هو الدستور الذي يصنعه بنفسه، أما الدستور الحالي الذي صنعه الأجانب من كانوا مستشارين للجنرال كيوم والجنرال جوان، فهو دستور أجنبي... لا يرتكز على قاعدة الإرادة الشعبية" في ظل المعطيات التي تم سردها سابقاً، كان موقف المهدي بن بركة واضحاً من الملكية كنظام يسود فيه الملك ويحكم وفق منظومة مخزنية عتيقة، حيث أرجع إليها جزءاً كبيراً من المحن التي يعيشها المغرب على جميع المستويات، إضافة إلى طعنه في المشروعية الشعبية لهذه المؤسسة، حيث قال " منذ 1962 انعزل الحكم شيئا فشيئاً عن الشعب، بعد عمليات القمع المتوالية حتى تضاءلت قاعدته الاجتماعية..." . وقد استرسل في تحليله للملكية حيث قال أنه "يستحيل نجاح أي إصلاح في دائرة الحكم المطلق القائم" وهو يعني هنا ضرورة تجريد الملك من مجموعة من المهام، أي الإطاحة بهذا النظام باعتباره امتداداً للاستعمار . وهذا ما سيؤثر فيما بعد على التنظيم الذي ينتمي إليه المهدي بن بركة، ألا وهو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فكيف ذلك؟ • أثر موقف المهدي بن بركة على الخط النضالي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية: قبل مؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1962 وضع المهدي بن بركة النص المؤسس لما أصبح يعرف فيما بعد بالخيار الثوري، والذي شكل تحولاً إيديولوجياً عميقاً، فرغم عدم قراءته أمام العموم إلا أن كل القرارات التن=يمية للمؤتمر أخدت منه . بعد ذلك تغير مسار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى مواجهة السلطة المركزية، فقد صرح الحزب في أكثر من مناسبة بأنه "لا علاج لهذا النظام سوى أن يختفي وينمحي" ، أي ضرورة قيام نظام جديد له قواعد شعبية حقة. محمد المهدي بن خوجة في هذا السياق جاء أعضاء حكومة عبد الله ابراهيم وتم تنظيم انتخابات أولى في ماي 1963. قبل الاقتراع بشهر صرح كل من المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد لمجلة جون أفريك "إن عدونا الحقيقي هو ذلك الذي يرفض أن يتحمل المسؤولية التي هي مسؤوليته، مسؤولية الحكم... نريد أن نتكلم عن الملك... نريد إنشاء ملكية دستورية يكون فيها الملك استمرار المؤسسات وتمارس فيها الحكومة مسؤولية السلطة" . وفي 5 ماي 1963، قبيل الانتخابات، نشر الاتحاد الوطني بياناً يعلن فيه أنه أصبح "خصم النظام الإقطاعي والشخصي، ومن بين أهدافنا هناك هدف فوري آني ألا وهو انهاء هذا النظام، وأنه لمن مفاخر الاتحاد الوطني أن يكون قد أرغم هذا النظام على الكشف عن حقيقته، ليس الغرض من هذا هو تحسين النظام أو تعديله أو ضمان بقائه بل إن الغرض هو القضاء عليه. لا توافق مع هذا النظام، لا إجماع ولا اتحاداً وطنياً من حوله" . في ظل هذه المواقف والتصريحات شن المخزن حملة قمع تعرض لها الاتحاديون في يوليوز 1963، واستمرت مدة 14 شهراً توالت فيها أحداث قمع عديدة، هذا دون أن ننسى ما قام به جهاز المخزن من مضايقات مباشرة بعد المؤتمر الثاني للحزب الوطني والتي استهدفت مناضلين وتجهيزات فقد تم وضع قنبلة من طرف الدليمي بمطبعة "أميريجيما" في غشت 1962، الشيئ الذي أدى إلى تعطيل طبع جريدة "التحرير" لعدة أيام. هذا بالإضافة إلى محاولة الاغتيال التي تعرض لها المهدي بن بركة في 16 نوفمبر 1962 في حادثة سيارة كات تودي بحياته . خرج الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قويا من هذه المعركة، حيث تفوق في الانتخابات وفاز ب28 مقعداً و 3،22 بالمئة من الأصوات، بل وصل إلى 90 بالمئة من الأصوات المعبر عنها في المقاطعات الحضرية. وهو ما ضمن مساندة شعبية للحزب رغم الاختلالات التي عرفتها الانتخابات. ولكن رد فعل النظام كان في مستوى الحدث فقد نقل عمال إقليميون أو موظفون سامون أو طردوا لتعاطفهم مع المعارضة وأغلقت بعض مقرات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واعتقل مناضلون من أعضاء الحزب . لائحة المراجع: • المهدي بنونة، أبطال بلا مجد، منشورات طارق، 2005 • عثمان بناني، من التضامن الإفريقي الآسيوي إلى تضامن شعوب إفريقيا، آسيا وأمريكا اللاتينية: دور المهدي بن بركة، دفاتر وجهة نظر، عدد 17 • محمد اليازغي، ذاكرة مناضل، منشورات الزمن، 2005 • عثمان أشقرا، الحركة الاتحادية أو مسار فكرة تقدمية 1999- 1959، افريقيا الشرق، 2001 • د. محمد الحبابي، تقرير الحالة الاقتصادية والاجتماعية لمجلس النواب، 1965 • المهدي بن بركة، الاختيار الثوري، دار الطليعة، 1966 • عبد اللطيف جبرو، نقاش مع جون واتر بوري حول كتابه "أمير المؤمنين"، سلسلة أحاديث ونقاشات عن مغرب القرن العشرين، مطبعة فضالة، 2005 • زكية داود والمعطي منجب، ابن بركة – حياة أو موت، منشورات ميشالون، باريس، 1996 • المعطي منجب، الملكية المغربية والصراع من أجل السلطة، منشورات لامارتان، 1992 • GILLES PERRAULT, Notre ami le roi, Folio actuel, 1990 • عبد اللطيف جبرو، الحقيقة أولا، مطبعة الصومعة • أسبوعية جون أفريك، العدد 8- 14، أبريل 1963