في بلد ألف الخروج من أزماته بفضل قواه الشرعية و تماسكه الاجتماعي، يصبح المشهد السياسي في لحظته مشكلا لمشهد عام تتمثل فيه قيم دولة عريقة في التاريخ متجذرة في محيطها الاقليمي و الدولي. و المشهد العام المغربي عبر تاريخه بصمته الحركات و الاحزاب و النقابات ببصمتها و بدا المغرب يؤرخ لمحطاته بعدد محطات مؤتمرات احزابه و نقاباته و جمعياته الوطنية، لأنها عكست بالفعل نبض المجتمع و خرجت ببيانات و بلاغات و أرضيات عبرت بصوت عال و شرعي عن مطالب المواطنين و انتظارات المحرومين و الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عبر مساره التاريخي كان في قلب الحركية التي عرفها المغربو و شد إليه الانتباه لما أفرزته محطاته التنظيمية من قرارات و إجراءات ساهمت في بناء صرح الديموقراطية و التحرير، وهو ما مكن الحزب أن يكون حركة تخلد اسمها في الذاكرة الوطنية. وامتدت إلى أعماق التراث الفكري و الحضاري للأمة ووصل إشعاعها إلى خارج ربوع الوطن كحزب اشتراكي شكل الاستثناء في التجارب العربية و تعالى صدى كفاحها و عملها في الفضاء المتوسطي و الافريقي و في إطار الاممية الاشتراكية. و يعود الفضل في هذا التاريخ الزاخر بالمنجزات لمناضلين قضوا حياتهم أوفياء مخلصين لقيم الوطن النبيلة، مدافعين عن قضايا الشعب، مستمعين للمحرومين و المضطهدين، و دفعوا مقابل ذلك سنوات من حياتهم في غياهب السجون و المعتقلات.. و لم يزدهم ذلك إلا مثابرة على درب النضال الديموقراطي، حيث واجهوا حملات القمع و التشهير و التزوير و التدليس ليفتحوا شروخا في جدار الحرمان و حققوا مكاسب ديموقراطية في فضاء الحريات و الانخراط في بكل وطنية في مسار الانفتاح الديموقراطي من أجل دولة الحق و القانون و الحريات. دولة تصون الحقوق الثقافية و الاجتماعية و تفتح رحاب المشاركة السياسية أمام فئات المجتمع بتباين طبقاتها و حساسياتها و فئاتها... و الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية و هو يختار طريق المسار الديموقراطي أعطى بذلك للثقافة السياسية دورا اساسيا في تطوير مؤسساتنا العامة و في تدبير الحقل العمومي و تنظيم دواليب الدولة و إرساء قواعد جديدة للعلاقة بين السلطة و المجتمع إن على مستوى ما راكمه في صفوف المعارضة و المعارضة البرلمانية أو من بوابة حكومة التناوب التوافقي و ما تلاها من مشاركات امتدت ل12 سنة و ليس بجديد الإقرار في مقابل هذا التاريخ الزاخر أن الحزب راكم أوضاعا تنظيمية و ضعت في كثير من الاحيان تحت مجهر القيادة و القواعد، و أقر الجميع أن الحزب عرف انشقاقات و انسحابات، كما عرف حركية و ركودا و هو نتاج طبيعي لتطوره، و إفراز ديموقراطي لتباين طموحات صانعي تلك الانشقاقات وأولائك المقتنعين بتلك الانسحابات. لكن في المقابل ظل الحزب حاضرا في المشهد السياسي الوطني، متمسكا بقناعاته السياسية، منفتحا في حياته التنظيمية، و برز هذا الحضور بجلاء في الجرأة التي عبر عنها في مؤتمره الثامن بضرورة إجراء إصلاحات سياسية و دستورية جذرية كفيلة بإنقاذ العمل السياسي من حالة العزوف التي يعرفها و إنقاذ الدولة و حماية تماسكها في سعي لضمان الاستقرار و الاستمرارية التي تمازج بين حضور الدولة و رضى المواطن على أدائها. لقد كان الحزب دوما حاضرا لتقديم الاجوبة التي ينتظرها الشعب، و خاصة تلك التي تطرح عليه في حياته اليومية و في منظوره للغد الافضل، و على المستولى السياسي كان على الحزب الوقوف بشموخ امام كل الاقلام و الافعال التي ارادت ان تنال من تاريخ الحزب و نزاهة مناضليه و قيادته، فكان التحدي الاكبر هو مقاومة استسلام الاجيال الجديدة لدعاوي النفور من العمل السياسي و نفور المغاربة من الاحزاب لفائدة خطابات عدمية غارقة في التيئيس. و بدا جليا ان المغاربة ينفرون من انعدام الاخلاق في العمل السياسي و من التدليس و من تشويه اختياراتهم بنفس الدرجة التي ينفرون فيها من التلاعب بثرواتهم العمومية و اصواتهم الانتخابية و تمثيليتهم التشريعية. و على المستوى الحزبي تم اختيار الاندماج، كما تم اختيار الانفتاح، وادرك الحزب عمق الانتقال من القيادة التاريخية الى القيادة الديموقراطية، و انتخب قيادته بالاقتراع السري . و على المستوى القاعدي حول اختلافات مناضليه الى حس نقدي ملازم للحزب أوصله الى محطة الندوة الوطنية للتنظيم التي شخصت الواقع بكل جرأة، و رسمت معالم حزب مطالب دوما ان يتجدد بتجدد المجتمع و تطوره. و في الوقت الذي وازن فيه الحزب بين مطلب الاصلاحات الدستورية و مطلب تقوية الحضور الحزبي في الواجهات و القطاعات، كان للزمن الحزبي موعد مع الربيع الديموقراطي الذي اسقط انظمة و تهاوت احزاب عربية عريقة و صلت الى الحكم و حولته الى سلطة استبدادية. فانخرط الحزب في هذا الربيع الديموقراطي و خلق التجربة الاستثنائية بالالتفاف حول مطلب كان الحزب السباق الى وضعه على مائدة النقاش، و هو مطلب الاصلاحات الدستورية، فكان خطاب 09 مارس و ما تلاه من استحقاقات سابقة لاوانها، و ما افرزته من نتائج، و ان كانت لم تصب كلها لفائدة الحزب، لكنها عبرت عن انتظارات المواطنين الذين قالوا كلمتهم و اختاروا الاصطفاف الى جانب الحساسية الدينية التي جنت ثمار الربيع الديموقراطي. و الحزب في هذه اللحظة من المشهد السياسي الوطني يقف ليعاين كيف مرت سنة على الانتخابات التشريعية ل 25 نونبر 2011 و البلاد لم تبرح مكانها، حيث تم تجميد مسلسل الاصلاحات الدستورية التي افرزها دستور 2011 تجميد تبرز ملامحه في غياب مشاريع قوانين تطبيقية تخرج البلاد من مرحلة دستور 1996 لتدخله في دستور 2011 وما بعده. ان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي عرفت تجربته في الواجهة الحكومية طفرة في القوانين و الاجراءات و المكاسب الوطنية، يدرك تمام الادراك، ان المجازفة بتجميد اوراش ما ركمناه من مكاسب الدستور الحالي من شانه ان يعيد المشهد السياسي الوطني الى نقطة الصفر، و يهدد السلم الاجتماعي، لان المغاربة فتحوا اعينهم و ضمائرهم على واقع بلادهم، و لم يعودوا مترددين في طرح السؤال حول مآل دستور هبوا جميعا للتصويت عليه و هم يحملون المسؤولية لمن بوأوهم المرتبة الاولى للشروع في التنزيل السليم لهذا المكسب الوطني. فهل الامر لا يعدو ان يكون تعثر البدايات و اكراهات التدبير الحكومي في ظل التلويح المتكرر لرئيس الحكومة بالتماسيح و العفاريت، أم انه عجزطبيعي بسبب قلة التجربة و غياب الارادة السياسية سواء لدى الدولة او لدى الاحزاب الحاكمة؟ ان المغاربة سئموا دوما تزييف اختياراتهم و تشويه المؤسسات التي تنوب عنهم، لذلك انبثقت في الآونة الاخيرة من قلب المجتمع اصوات رافضة ممتعضة و غاضبة.. ومن شأن تأخر تنزيل الدستور أن يحولها الى عصيان سياسي صعب التحكم فيه و لو بسياسة الهراوة التي تنهجها الحكومة . و لن يتحقق تنزيل الدستور الا اذا سكنتنا قناعة ان المرحلة المقبلة تتطلب دفتر تحملات و اضح و واقعي و محدد، و البحث عن وضعية تجمع كل الطاقات الوطنية و الديموقراطية التي من شأنها ان تشحذ العزائم و تخلق الآمال امام المواطنين و تزكي روح العمل السياسي المنبثق من خدمة الصالح العام، و هو ما لن يرى النور، ما لم تدرك القوى المشكلة للحكومة الحالية ان الدستور يكفل للمعارضة حقوقا يجب صيانتها و اغلبية يجب اعطاؤها الفرصة لتترجم حضورها. و الانطلاق في عمل تشاركي يبني صرح الدولة بذل الهروب الى الامام بافتعال نقاشات جانبية و شعبية تستهوي الفرجة اكثر مما تبني و تؤسس صرح الديموقراطية و تحمي مكاسب الدستور. ان اللحظة الدستورية في بلادنا ليست مكسبا فئويا ولا ترفا نخبويا، بل هو نتاج تراكم نضالات و تضحيات، و مكسب اجماع كل الطاقات و الفعاليات، و لا يمكن اختزالها في اغلبية انتخابية و لا في طموحات زعامات سياسية / حزبية. من هنا يبدو ان الحكومة الحالية اخطأت موعدها مع من بوأ احزابها المراكز الاولى، لأنها أجلت ما من أجله أتت، و جمدت ما من أجله تم التعجيل بالانتخابات و الاعلان عن الاصلاحات. من هنا تبدو المهمة المستقبلية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ما بعد المؤتمر الوطني التاسع يجب ان تنطلق من مسلمة اساسية مفادها الانتقال بعمل الحزب من مراحل النضال من اجل اقرار الاصلاحات الدستورية الى النضال في المراحل المقبلة من اجل ضمان التعجيل بتنزيل الدستور تنزيلا سليما بوضع مشاريع القوانين التطبيقية لتنفيذه. وبنفس الرؤيا التي حكمت الحزب لينخرط قبل عشرين سنة في الكتلة الديموقراطية للمطالبة بالإصلاحات . يبدو اليوم شبيها بالأمس في حاجتنا لكتلة مجتمعية تضم كل الاطياف المؤمنة بالديموقراطية و المقتنعة بأن المشروع المجتمعي المغربي لا يمكن ان يتطور و لا يمكن ان يجسد الخصوصية المغربية في ظل الربيع الديموقراطي ما لم تتم التعبئة من اجل التنزيل السليم للدستور... كتلة مجتمعية مبادرة و مقترحة لتفتح شروخا في جدار التردد الحكومي و التراجع الحقوقي، وتجعل المجتمع بكل مكوناته في قلب التنزيل الدستوري، كما كانت مرحلة صياغته و المصادقة عليه. و في مقابل هذه المهام السياسية المستقبلية للحزب بعد المؤتمر الوطني التاسع هناك مهام تنظيمية ستكون اولوية في اجندة القيادة الوطنية المقبلة. و يمكن القول ان مقررات الندوة الوطنية للتنظيم و ما سيليها من ارضيات و توصيات و قرارات و مقررات المؤتمر ستكون دستورا للمرحلة المقبلة دستور يتوجب تنزيله على ارض الواقع، و لن يتأتى ذلك إلا بتغذية العطاءات البناءة المختلفة و خلق دينامية ايجابية تساعد الحزب على التطور و السبيل الوحيد لذلك تنمية الديموقراطية الداخلية بفتح المجال للأصوات المجتمعية الجديدة لكي تجد مجالا للتعبير عن آرائها و تطلعاتها و همومها. إن هذا التوجه سيحتاج شحذ العزائم و الارادات و توفير الشروط الموضوعية و القوية الدافعة للوصول بالحزب الى هيكلة قطاعية بتمثيلية حقيقية تنطلق من مسلسل ديناميكي يتجه نحو مختلف القطاعات و مختلف الفئات التي تحمل هموم حاضر البلاد و مستقبله، ومؤمنة بحركة التغيير الاتحادية و مصاحبتها بقوانين تنظيمية سلسة في العمل صارمة في المحاسبة، و بقرارات واقعية في تحليل الواقع عملية في التطبيق. ان حزبا مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية راكم تاريخا و تجاوز محنا لا يجب ان يترك الحظ لأي عمل مناوئ لينال من نقاوة و اخلاق و عصمة و قيم مناضليه. فأصوات كثيرة اليوم تتنكر لتاريخ الحزب و تشوه بشكل ممنهج الفاعلين في تاريخ اليوم، و هذا إقرار بأن الحزب يعيش قمعا من نوع آخر و حربا للذاكرة و تبخيسا للمواقف، مما حول المواطنين من الاجيال الجديدة و مناضلين الى معتقلي آليات و وسائل اعلامية متطورة للتركيع و التطويع و التيئيس... إن واقعا بهذا الوصف يعطي الانطباع بأن الحزب ليس في حاجة الى البرامج و القرارات و السياسات، و لكنه يحتاج و بشكل اساسي الى الوظائف المنوطة بالبنيات الخاصة و المعنية باتخاذ القرار الاستراتيجي على المستوى المجتمعي و المستوى السياسي و المستوى التنظيمي ....يحتاج الحزب لتحقيق ذلك و بشكل مستعجل الى مناضلين يخرجون من حالة النكوص ليعودوا الى مقراتهم و الى واجهاتهم المجتمعية، مدركين كما كانوا دوما ان الغد ليس رهن حزب او مناضل ...لكن الغد هو رهان اجيال، رهان أمة رهان خلود في الذاكرة الانسانية.