انتفاضة 30 يونيو 2013 بمثابة انبعاث للذاكرة التاريخية وعودة روح عبد الناصر ترفرف على أرض الكنانة. لقد سقط شهداء في سبيل أن لا تصبح أرض عبد الناصر بلدا تحت هيمنة الاسلام السياسي منقسما بل وطنا لكافة المصريين دون أي تمييز طائفي بحقوق متساوية وأخوية، وحياة حرة وشريفة من أجل أن تعيد مجدها يوم كانت منارة للعالم العربي وقبلة لكل أحرار العالم ومركز الثقل في العالم الثالث في مواجهة الامبريالية والصهيونية والرجعية وكل أعداء الشعوب. في 28 شتنبر سيخلد الأحرار في العالم العربي وكل أرجاء المعمور ذكرى رحيل القائد الخالد جمال عبد الناصر في 1970؛ ستمر هذه الذكرى بعد 61 سنة على ثورة 23 يوليو 1952، وهي الثورة التي يبجلها كل المناضلين بتقدير عال. لم تأت ثورة 23 يوليوز من فراغ، وإنما كانت محصلة نضال شعبي طويل مهد الأرضية لانتصار ثورة الضباط الأحرار . فمنذ رحيل الفرنسيين عن مصر بعد الثورة على جيوش الغازي نابليون بونا بارت، لم تنقطع نضالات الجماهير ضد المحتلين والاستغلاليين فكانت ثورة أحمد عُرابي في 1882، إذ انتفض الضباط الوطنيون في هذه المحطة النضالية على الخديوي العميل، وعلى سيطرة الأقليات الأجنبية على شؤون البلاد، انفجرت انتفاضة جماهيرية تقدمها الجيش المصري بقيادة أحمد عُرابي ورفيقه الشاعر محمود سامي البارودي. لقد هزت هذه الانتفاضة أركان التحالف المعادي الحاكم، ولم يتمكن من استعادة سيطرته على البلاد إلا بعد أن استدعى القوات الاستعمارية الانجليزية التي دكت الاسكندرية ودخلتها بعد مقاومة شرسة ودفاع بطولي عنها، وكان من نتائج ذلك نفي عُرابي ورفاقه، وتشريد قيادة وكوادر الانتفاضة واحتلال مصر. وعلى الرغم من فشل انتفاضة أحمد عُرابي، فقد شكلت مقدمة لمجموعة من الثورات الوطنية التي عكست نمو الوعي بالمصالح الوطنية لدى الطبقة البورجوازية المحلية المتناقضة مع سيطرة المحتلين والخونة. ومع مطلع القرن العشرين بدأت عوامل التفاعل الداخلية تتأجج فانتفض الشعب المصري مرة أخرى في 1919 في ثورة عارمة ضد الاحتلال الانجليزي وعملائه في داخل مصر، كانت الثورة بقيادة الوفد الذي ترأسه القائدان الوطنيان سعد زغلول ورفيقه القبطي مكرّم عبيد ورفعا شعار « الدين لله والوطن للجميع « في هذه المرحلة بدأت ملامح بروز طبقة عاملة فتية على ساحة الصراع السياسي وتأسيس الحزب الشيوعي المصري، في هذه الأجواء تم التساوم على استمرار الثورة والتحايل على عنفوانها واقتسام نتائجها بين الحاكمين والطامعين الجدد في الحكم بين الانجليز والقصر وأعوانه من الأرستقراطية المالكة وبين البورجوازية المحلية التي ارتضت بفتات الموائد في مقابل تدجين الجماهير الثائرة، ولجم اندفاعاتها. وبين ثورة 1919 وثورة الضباط الأحرار 23 يوليوز 1952، لم تكن المرحلة ركودا بل شهدت مبادرات نضالية، حيث شهدت 1935 نموا جديدا من المعارضة الوطنية سيتوج سنة 1946 بتنظيم جبهوي نضالي هي « اللجنة الوطنية للعمال والطلبة « كتحالف نضالي بين الطبقة العاملة والبورجوازية الصغيرة والوطنية، حيث تشكل هذا الإطار من شباب حزب الوفد والحزب الشيوعي واستمر ضغط الحركة الجماهيرية يتنامى ويدفع الأحداث إلى نهايتها المحتومة وقد فرض على حكومة حزب الوفد برئاسة مصطفى باشا النحاس إلغاء معاهد 1936 مع بريطانيا وما تلاها من بدايات الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال على ضفاف القناة، في ظل هذا المناخ النضالي كانت أرض الكنانة حبلى بثورة ديمقراطية دون القدرة على ولادة قيادة ثورية قادرة على قراءة الواقع وفهمه وبالتالي تغييره، الشيء الذي جعل الجيش الذي كان أكثر القوى انضباطا ومالكا لإمكانية النجاح يتحرك لإسقاط رموز النظام ويبدأ بمجموعة من الإصلاحات، بدأ يأخذ منحى متعمقا مما أدى إلى الاصطدام في الداخل والخارج معا وبروز حدة التناقض الطبقي بين ما تمثله الثورة من مصالح الفئات الوطنية في مواجهة مستغلي الشعب المصري المقهور والمغلوب على أمره، حاولت ثورة 23 يوليوز 1952 فتح الباب للاستثمار الرأسمالي الخاص العربي والدولي لكي تعهد إليهما بخطة تنمية تحد وتزيل التخلف الذي كان جاثما على صدور المصريين، إلا أن هذا الرأسمال تردد عن المشاركة وتراجعا عن المساهمة ودخلت قيادة الثورة تجربة القطاع العام، كما جربت التوجه إلى الغرب لتمويل مشاريعها، إلا أنه رفض (السد العالي)، مما أدى إلى تأميم قناة السويس، الشيء الذي أدى إلى العدوان الثلاثي في سنة 1956 والذي نفذته فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، مما أدى إلى تغيير الاتجاه نحو المعسكر الاشتراكي، من هنا بدأت تتبلور رؤية خاصة لثورة 23 يوليو الوطنية عن الوضع الداخلي والعالمي وفي انتهاج سياسة عدم الانحياز التي ابتدأت بحضور جمال عبد الناصر مؤتمر باندونغ 1955 فكان من مؤسسي منظمة عدم الانحياز إلى جانب رئيس اندونيسا الراحل أحمد سوكارنو وجواهر لانيهرو والماريشال جوزيف بروز تيتو. فمن خلال هذا الحضور استطاع عبد الناصر أن يمنح مصر بعدا عالميا وعربيا عظيما. إن هذا الانخراط في السياسة الدولية ببعد انحيازي تحرري والذي رأت فيه الأمبريالية تهديدا لمصالحها ومن هنا كانت المؤامرة سواء 1956 و 1967 و 1970 . إن التجربة الناصرية تجربة رائدة ما احوجنا اليوم إليها لتحقيق تحررنا واستقلالنا عن كل المحاور. فقد استطاعت التجربة الناصرية من تحقيق مجموعة من الأهداف ردت الاعتبار إلى شعب مصر الذي مرغ أنور السادات كرامته في الوحل منذ انقلاب 15 مايو 1971 وما تلاه من قمع حسني مبارك. لقد استطاع عبد الناصر من تحقيق مجموعة من الأهداف تصب في خانة التقدم والتحرر منها تحطيم أسس النظام الملكي وتصفية نفوذ الفئات الطفيلية المستغلة. ضرب سيطرة كبار ملاك الأراضي من خلال تطبيق سياسة الاصلاح الزراعي، كما قام بإجلاء القوات الانجليزية وتصفية القواعد العسكرية في مصر وخلق قاعدة صناعية هامة، عبر بناء القطاع العام ومن أهمها بناء مصانع الصلب والحديد في حلوان وبناء أزيد من 400 مؤسسة صناعية انتاجية كبيرة واهتم بإصلاح التعليم والصحة والخدمات وسار على طريق تحديث المجتمع. كل هذه المنجزات بدأ عبد الناصر في تحقيقها في شتنبر 1952 أي بعد قيام الثورة بشهرين فقط، في الوقت الذي عجز فيه محمد مرسي الاخواني من انجاز أي شيء في خلال سنة كاملة. كما أن عبد الناصر بعد الثورة أعلن في كلمته الشهيرة « أخي العربي قف « ومن يومها وقف الانسان العربي متحديا سياسة الأحلاف كحلف بغداد ومشروع إيزنهاور والفشل الذريع الذي لقيته محاولة الولاياتالمتحدة إنزال قواتها في لبنان، كما تم دعم ثورة النابلسي في الاردن التي كان جيشها تحت قيادة الضابط الانجليزي كلوب باشا، كما ساعد ثورة اليمن الشمالية ضد نظام الامامة المتخلف ودعم ثورة محمد عبد الكريم قاسم في العراق الذي أطاح بنظام الملك فيصل وخاله نور السعيد ودعم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، كما أشعل نار العداء تجاه القوى اليمينية والرجعية كما هو الحال مع نظام آل سعود في بلاد نجد والحجاز والأردن وغيرها من الأنظمة المتعاملة مع الاستعمار. كما بلور فكرة عدم الانحياز بمفهوم وطني معادن للامبريالية ودعم حركات التحرر في العالم. مما سلف ذكره كان جزءا من أهم نتائج ثورة 23 يوليو 1952 بقيادتها التاريخية قيادة جمال عبد الناصر. لكن ليس للثورة المصرية إيجابيات فقط بل كانت هناك سلبيات، فقد ابتدأت بانقلاب ولكن من خلال منجزاتها تحولت إلى ثورة، لكن أهم السلبيات هو غياب النظرية الثورية المتكاملة، وهذا ما أكده الزعيم جمال عبد الناصر بأن ثورة 23 يوليو 1952 لم تكن تعتمد أية نظرية ثورية وإنما مجموعة من المبادئ، الشئ الذي جعل هذه التجربة تسقط في أخطاء، وكان أهم هذه الأخطاء غياب استراتيجية التحالفات، مما جعلها تسقط في مواجهة قوى وطنية وثورية كما هو الحال في المواجهة مع الشيوعيين المصريين والشيوعيين في قطاع غزة. فهؤلاء المناضلون ظلوا رهن الاعتقال إلى غاية زيارة الرئيس السوفياتي الراحل نيكيتا خروتشوف في بداية الستينات، مؤكدا رفضه قبول زيارة مصر وشيوعي واحد في السجن، مما دفع عبد الناصر إلى إطلاق سراح كافة المناضلين الشيوعيين. مصر الآن تعيش مخاضا ثوريا، وهي في حاجة إلى قوى في مستوى تطلعات الشعب المصري والتي لا مناص أن تكون هذه القوى أكثر جذرية في نضالها ضد قوى الظلام التي اثبتت تاريخيا ومنذ نشوئها في سنة 1928، قوى تخدم مصالح أعداء الشعب المصري ولا أدل على ذلك من كونها نشأت في أحضان الاستعمار الانجليزي وبرعاية من الملك فؤاد وابنه الملك فاروق ممثلا الاقطاع في تلك المرحلة وتسخيرها من طرف القوى المعادية لطموح الشعب المصري، منذ حادثة المنشيه « في سنة 1954 التي كانت تهدف إلى اغتيال رمز الثورة القائد جمال عبد الناصر ومؤامراتها في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي التي كان ينظر لها مؤاطر ومنظر الارهاب « سيد قطب « في كتابه « معالم في الطريق «. فإذا كان الشعب المصري التحم مع قوى الجيش في مواجهة العدوان الخارجي والمؤامرات الداخلية، فهذا ليس بجديد على الشعب المصري منذ أن حرر « رمسيس الثاني « مصر من الهكسوس والظاهر بيبرس من التتار وصلاح الدين الأيوبي من الصليبيين فالجيش المصري الذي وضع لبنته الأولى محمد علي ذي الأصول التركية كان في عمقه جيشا وطنيا، على عكس جيوش بعض الأنظمة العربية التي تأسست بقيادات حاربت تحت أعلام الدول الاستعمارية. فالجيش المصري ولاؤه الوطني مضمون لا لبس عليه، على عكس جيوش العديد من الأنظمة العربية التي قهرت شعوبها بجيوش ولاؤها للأجنبي أكثر مما هو للوطن. في ذكرى رحيل القائد جمال عبد الناصر وثورة 23 يوليو 1952 يتزامن ذلك مع السقوط المروع لمشروع الاسلام السياسي الذي انتهى إلى غير رجعة واتساع الرفض لهذا المشرع شرقا وغربا. وسينكسر الفكر الظلامي على صخرة النهوض القومي الديمقراطي المنبعث من أرض الكنانة وسيشع بنوره أرجاء الوطن العربي لأن منطق التاريخ يؤكد ألا حلول للمشاكل المعاصرة في ظل الماضي البعيد.